البحث

التفاصيل

يوم الجمعة وصناعة السعادة

الرابط المختصر :

يوم الجمعة وصناعة السعادة

الشيخ بن سالم باهشام

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

(سلسلة خطبة الجمعة)

عباد الله، تعالوا بنا لنطلع على سيرة رجل يصحح لنا مفاهيم الحياة كلها، ومعنى السعادة الحقيقية، ويضع أقدامنا على الطريق الصحيح من خلال سيرته، والذي يجب أن يكون قدوتنا، فهذه خلاصة حياته من الولادة إلى الوفاة، لنستخلص منها العبر، ولد هذا الرجل يتيما أشد أنواع اليتم، إذ لم ير أباه، ولم يره أبوه، إذ توفي والده وهو لا زال جنينا في بطن أمه [موسى بن راشد العازمي (2013)، اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون (الطبعة الأولى)، الرياض: دار الصميعي، صفحة 68-69، جزء 1. بتصرّف]، وتوفيت والدته، وهي عائدة به، إذ كانت في زيارةٍ لأخواله، وكان لا يرافقها في تلك الرحلة سوى هذا الطفل الصغير وخادمتها، وهو لم يتجاوز بعد الست سنواتٍ من عمره، فعاش لحظة خروج روح أمه، وألم دفنها وفراقها، وإهالة التراب على جسدها، وانتقل بعدها للعيش في كفالة جدّه، حيث كان يعتني به اعتناءً شديداً؛ إلا أنه توفي جدّه وهو لازال في الثامنة من عمره، وانتقل بعدها للعيش في كفالة عمه، ذو العيال، وبهذا دخل معترك الحياة وهو لا زال طفلا، إذ بدأ في كسب الرزق لإعانة عمه، رغم كونه لم يبلغ الحلم ولم يجر عليه القلم، فرعى الأغنام، (…علَى قَرارِيطَ، أي جزءا من الدينار والدرهم…)،[رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبي هريرة، ح 2262]، وبذلك كان قدوةً في كسب الرزق.[موسى بن راشد العازمي (2013)، اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون (الطبعة الأولى)، الرياض: دار الصميعي، صفحة 111، جزء 1. بتصرّف]، وبعد الرعي، كان عمه يأخذه معه في رحلاته التجارية، [عبد السلام هارون (1406هـ – 1985م)، تهذيب سيرة ابن هشام (الطبعة الرابعة عشر)، الكويت: دار البحوث العلمية، صفحة 26-47. بتصرّف.]، والتي تدرب فيها على التجارة، فمارسها من 25 سنة إلى أربعين سنة، وكان يعيش زهادة دنيوية، ولقي أنواع الإذايات من قومه، لما انتقل من شخص صالح كان يلقب بالصادق الأمين في وسط قومه، لأنه لبث في وسطهم أربعين سنة، إلى رجل مصلح، فأصبحوا يحاربونه ويعارضونه ويؤذونه ويتهمونه بالكذب والجنون والسحر، – رغم أنه لم يزدد إلا صلاحا عما كان عليه، ولم يُعرف عنه كذبا ولا زورا ولا فجورا، – لأنه خالف أهواءهم، ومن خالفت هواه فقد اشتريت بلاه، تزوج في سن الخامسة والعشرين، بامرأة تكبره بخمس عشرة سنة، إذ كان عمرها أربعين سنة، وولدت له ثلاث بنات، وثلاثة ذكور، كلهم ماتوا في حياته إلا الصغرى؛ بقيت إلى ما بعد وفاته، ومن المحن التي عاشها مع أسرته وأنصاره، محنة المقاطعة العامة، وهي محنة عظيمة، حوصر خلالها بين شعب الجبال، السنين ذوات العدد، فكان يقاسي مع المحاصَرين، ألم الجوع والحرمان في كثير من الأيام أثناء الحصار. ولقد بلغ بهم الجوع والحرمان حداً جعلهم يأكلون الأعشاب وأوراق الأشجار، وكل ما يقع تحت أيديهم من نبات الأرض، حتى تقرحت شفاههم، وبعد رفع الحصار عليه وعلى من معه، أثر ذلك في زوجته، وبعدها بمدة قليلة، ماتت أم أولاده التي كانت بمثابة السند له، تواسيه وتخفف آلامه مما يلاقيه من أذى قومه، وتعينه بمالها، وكان ذلك قبل أن يخرجه قومه من بلده ومسقط رأسه بثلاث سنواتٍ، وفي ذات العام، مرض عمه الذي كان يحميه من أذى قومه مرضاً شديداً، وبوفاته ووفاة زوجته، حزن حزناً شديداً عليهما، إذ كانا بمثابة السند والدعم والحماية له، وسمّي ذلك العام بعام الحزن.[عبد السلام هارون (1406هـ-1985م)، تهذيب سيرة ابن هشام، الطبعة الرابعة عشر، الكويت: دار البحوث العلمية، صفحة 94-96. بتصرّف.]، وبقي فريسة لقومه الذين آذوه بأنواع الإذايات: المادية والمعنوية، بل اتفقت في نهاية المطاف كل القبائل على قتله، وفر منهم قاطعا أكثر من أربع مائة كيلوميتر وسط الصحراء القاحلة، والحرارة المفرطة. وبعد وصوله إلى البلد الذي استقر به، بدأ في مواجهة أهل الباطل، وكان يقود جيشه بنفسه، وكان يعيش في بيت متواضع جدا، ويقوم أغلب الليل حتى تورمت قدماه من الوقوف، ولا يبقي في يده مالا، ولا يرد سائلا أو محتاجا، رغم ما كان يحصل عليه من غنائم في المعارك التي كان يخوضها مع أعدائه، لأنه كان كريما جوادا كالريح المرسلة، إذ كان يعطي عطاءَ من لا يخشى الفقر، فكان أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس، [رواه البخاري]، حتى إنه كان غالبا لا يجد في بيته ما يسد به رمقه، وكان ينام على حصير حتى أثرت في جنبيه، وكان يقول: مَا لي وَللدُّنْيَا؟ مَا أَنَا في الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا [رواه الترمذي وَقالَ: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. عن عبدِاللَّه بنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه]. وبقي على هذه الحال عشر سنوات، حتى فاضت روحه وليس في بيته ما يشبع ذي كبد، وعمره ثلاث وستون سنة، ورغم هذه المعيشة الصعبة، وهذه الابتلاءات الكثيرة، التي تبدو للسامع جد شاقة، فقد كان هذا الرجل أسعد الناس.

عباد الله، أتدرون من يكون هذا الرجل؟ وما سبب سعادته؟ إنه سيد الخلق، وحبيب الحق، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، النموذج الذي عاش السعادة الحقيقية، وليست الوهمية، مثل الكثير من القادة والحكام وأصحاب الأموال والجاه، ومن المفكرين الذين ألّفوا في السعادة ولم يعرفوا لها طعما، بل كان حظهم منها سوى الادعاء.

عباد الله، لقد أوذي الرسول صلى الله عليه وسلم في الله أكثر مما يؤذى غيره، فقد روى ابن ماجه، واللفظ له، والطبري في مسند ابن عباس، بسند صحيح، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (دخلتُ علَى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ؛ وَهوَ يوعَكُ، فوضعتُ يدي عليهِ، فوجدتُ حرَّهُ بينَ يديَّ فوقَ اللِّحافِ، فقلتُ: يا رسولَ اللَّهِ؛ ما أشدَّها عليكَ، قالَ: إنَّا كذلِكَ؛ يضعَّفُ لَنا البلاءُ، ويضعَّفُ لَنا الأجْرُ، قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، أيُّ النَّاسِ أشدُّ بلاءً؟ قالَ: الأنبياءُ، قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، ثُمَّ مَن؟ قالَ: ثُمَّ الصَّالِحونَ، إن كانَ أحدُهُم ليُبتَلى بالفَقرِ حتَّى ما يجدُ أحدُهُم إلَّا العَباءةَ يَحويها، وإن كانَ أحدُهُم ليفرَحُ بالبلاءِ كما يفرَحُ أحدُكُم بالرَّخاءِ) [أخرجه ابن ماجه (4024) واللفظ له، والطبري في (مسند ابن عباس) (421)].

عباد الله، إن سيرة الرسول صلى الله، والتي هي ترجمة للقرآن الكريم، تصحح للمدعين؛ حقيقة السعادة، وتفضح أحوالهم، وتبين أن السعادة قانون إلهي، لا يتغير بتغير الزمان والمكان والأشخاص، وليست ادعاء بشريا، والمعادلة التي تبين هذا القانون، هي: الإيمان والعمل الصالح، فبهما فقط تكون السعادة. ودونهما لا تكون إلا اللذة العابرة.

عباد الله، لقد خلق الله تعالى الإنسان ليتوافق مع شرعه ومنهاجه، ووجّهه إلى الإيمان والعمل الصالح، وربطه بمحبته وطاعته، وبعقابه وغضبه، رغم أن ذلك لا يزيد في ملكه ولا ينقص، فما الحكمة من ذلك؟! عرض الله تعالى أمانة التكليف على المخلوقات، فأبت جميعا حملها، إلا الإنسان الذي قبلها وتحمل تبعاتها، فأشفق الله عليه منها، ووجهه إلى ما يعينه على أدائها، فشرع له الشريعة السمحة، ووضع له المبادئ التي تحدد علاقته ببني جنسه، وبربه، وبالكون من حوله، بما يهدف إلى أدائه لأمانة التكليف، ونجاحه في دار البلاء. وقد وعد من يستقيم على منهاجه، ويتمسك بشرعه، بجنة في الدنيا قبل تلك التي في الآخرة، قال تعالى في سورة النحل: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل:67]، وأكد ذلك الوعد بالفاء، ولامِ القسم، ونون التوكيد، وبالتوكيد اللفظي في قوله: (حَيَاةً)، وعبّر بالنكرة دون المعرفة، في قوله: (حَيَاةً طَيِّبَةً)؛ ولم يقل الحياة الطيبة، لتفيد العموم والشمول، فهي طيبة بمقياس الله تعالى، لا يتخيلها بشر، طيبة في جميع جوانب الحياة المادية، والصحية، والأسرية، والاجتماعية، والنفسية، وغيرها، فهؤلاء الذين يعملون الصالحات، مستقيمون على كتاب الله، وسنة نبيه  صلى الله عليه وسلم، حتى إن الملائكة عليهم السلام، تبالغ في النزول عليهم تباعاً؛ لتشد من أزرهم، وتحول بينهم وبين الشياطين، وبينهم وبين النفس الأمارة بالسوء، فتزيل عن كاهلهم الخوف من المستقبل، والندم على الماضي، ويوحون إليهم بأنهم نصراؤهم في الدنيا بالتأييد، وفي الآخرة بالشفاعة، قال تعالى في سورة فصلت: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا؛ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا؛ وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ*نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ) [فصلت:30-31].

عباد الله، إن الإيمان هو الذي يجعل المكابدة والعناء في هذه الدنيا، لذة يستعذبها المؤمن، من خلال الصبر والاحتساب عند الله، فهؤلاء يُنزّل الله عليهم الرحمات والصلوات، ويزيدهم هدى وثباتا، والإيمان والعمل الصالح، هما اللذان يقضيان على القلق، والصراع النفسي، والتوتر العصبي، فالمؤمن لا يستسلم لنزواته ورغباته، بل يوقن بأنها مجرد لذة فانية، لا ينبغي الاستسلام لها، لذلك تجده في أقصى درجات الاتزان النفسي والإشباع العاطفي، لا تجده مهمومًا مغمومًا على فوات حظ من حظوظ الدنيا القليلة السريعة الزوال. ولقد تحدث عن ذلك العلماء والصالحون الذين امتثلوا لهدى الله، فهذا العالم الجليل، إبراهيم بن أدهم رحمه الله يقول: (لو يعلم الملوك وأبناء الملوك؛ ما نحن فيه من النعيم، لجالدونا عليه بالسيوف)، يعني: لو يعلم أصحاب الدنيا والمال والملك والجاه والسلطان حقيقة ما نحن فيه من السعادة، لقاتلونا عليها، وقال ابن تيمية رحمه الله: (إن في الدنيا جنة من لم يدخلها؛ لا يدخل جنة الآخرة)، وقال أحد السلف: (مساكين أهل الدنيا؛ خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال محبه الله تعالى، ومعرفته وذكره والأنس به).

عباد الله، إن الحياة الطيبة السعيدة، هي ضد المعيشة الضنكة؛ الناتجة عن الإعراض عن منهج الله، المتمثل في القرآن الكريم، والسنة النبوية الطاهرة معا، قال تعالى في سورة طه: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا، وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) [طه: 123، 124].

عباد الله، إن السعادة ليست في الدور، ولا القصور، ولا المناصب العليا، ولا المال، ولا الجاه، ولا الذرية، ولا في أي شيء خارجي عن الإنسان، إنما السعادة في داخل الإنسان، وعلى قدر طاعة الفرد لله  ذكرا كان أو أنثى، تتحقق سعادته، بغض النظر عن وضعيته الاقتصادية ومكانته الاجتماعية، فالسعادة في نظر الماديين هي التمتع بملاذ الدنيا من أكل وشرب ونساء، وفي النهاية لا يجدون إلا السراب، أما المؤمنون فيبينون للعالم بلسان حالهم قبل مقالهم؛ أن السعادة الحقيقية يقصد بها حلاوة الإيمان، ولذة القرب من الله، التي يشعر بها المؤمنون، فهي حلاوة وسعادة لا يضاهيها أي مُلك أو مال.

عباد الله، إن الله تعالى شرع لنا ما نحقق به سعادة الدارين، فمنّ على الأمة المحمدية بادخار يوم الجمعة لها، والذي ميزه الله سبحانه وتعالى على سائر أيام الأسبوع بمميزات عديدة، وليلة الجمعة تابعة ليومها في هذا الفضل، وتستمر إلى غروب يوم الجمعة، عباد الله، لقد شرع الله لعباده ما يسعد به المؤمن كل يوم جمعة، من أمور مادية: من اغتسال وتغسيل، إشارة إلى إتيان الزوج زوجته، وتمتعه بها، وتطيب وتنظيف للفم ولبس أحسن الثياب، والتمتع بملذات الطعام والشراب، والتصدق على المحتاجين، وأمور معنوية: من إكثار من الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم، وقراءة سورة الكهف، والحرص على صلاة عشاء ليلة الجمعة وصبحها مع الجماعة، والتبكير إلى المسجد، بغض النظر عن الخطبة، هل هي في المستوى أم لا، وبهذا يريد الله تعالى من عباده أن يصنعوا في كل يوم جمعة سعادتهم، وذلك  بالالتزام بآداب الجمعة؛ من ليلتها إلى غروب الشمس، لهذا اعتبرت الجمعة عند العارفين بالله، ميزان الأسبوع، فمن سلمت له جمعته، سلم له أسبوعه كله، والعكس صحيح، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: (مَن صح له يوم جمعته وسلم؛ سلم له سائر أيام أسبوعه، ومن صح له رمضان وسلم؛ سلمت له سائر سَنته، ومن صحت له حَجته وسلمت له؛ صح له سائر عمره. فيوم الجمعة ميزان الأسبوع، ورمضان ميزان العام، والحج ميزان العمر)، وقال كذلك رحمه الله: (يوم الجمعة، اليوم الذي يستحب أن يُتفرغ فيه للعبادة، وله على سائر الأيام مزية بأنواع من العبادات؛ واجبة ومستحبة، فالله سبحانه جعل لأهل كل ملة يومًا يتفرغون فيه للعبادة، ويتخلون فيه عن أشغال الدنيا، فيوم الجمعة يوم عبادة، وهو في الأيام، كشهر رمضان في الشهور، وساعة الإجابة فيه، كليلة القدر في رمضان، ولهذا من صح له يوم جمعته وسلم، سلمت له سائر جمعته)، [زاد المعاد في هدي خير العباد (1/ 386)].

عباد الله، لما كان يوم الجمعة في الأسبوع؛ كالعيد في العام، وكان العيد مشتملًا على صلاة وقربان، وكان يوم الجمعة يوم صلاة، جعل الله سبحانه وتعالى التعجيلَ في يوم الجمعة إلى المسجد بدلًا من القربان، وقائمًا مقامه، فيجتمع للرائح فيه إلى المسجد: الصلاةُ، والقربان، كما في جاء في صحيح البخاري ومسلم، فلا تحرم نفسك من هذه الخيرات، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم-: (إذا كان يومُ الجمعةِ، كان على كلِّ بابٍ من أبوابِ المسجدِ ملائكةٌ يكتبون الناسَ على قدرِ منازلِهم، – أي مراتبهم في المجيء -، الأول فالأول، فإذا جلس الإمامُ، طَوَوُا الصُّحُفَ وجاءوا يستمعون الذكرَ – أي الخطبة – ومثل الْمُهَجِّرِ – أي  المبكر – كمثل الذى يُهْدِى  – أي يقرب – بَدَنَةً، ثم كالذي يُهْدِى بقرةً، ثم كالذي يُهْدِى الكبشَ، ثم كالذي يُهْدِى الدجاجةَ، ثم كالذي يُهْدِى البيضةَ) [أخرجه البخاري (3/1175، رقم 3039)، ومسلم (2/587، رقم 850)]، فأين المتنافسون في الخيرات؟ وأين المبكرون إلى الصلوات؟ وأين أصحاب الإيمان والعزمات؟

عباد الله، إذا كانت جهنم في رمضان مغلقة أبوابها تشريفا لهذا الشهر، فإن جهنم تحمى من يوم أن خلقها الله عز وجل، كل يوم من أيام الأسبوع، إلا يوم الجمعة، تشريفا لهذا اليوم العظيم، بل إن الذي كتب الله عليه الوفاة من المؤمنين والمؤمنات، الصالحين والصالحات، يوم الجمعة، أو ليلتها، فتلك من علامات حسن الخاتمة، وكيف لا تكون حسن خاتمة، والمؤمن يكون معظّما لذلك اليوم، فيكون مغتسلا، مطهَّرا ومتطيبا ونقيا، عاش سعادة الدنيا، وسيعيش سعادة الآخرة، لهذا استحق الذي توفي في يوم الجمعة أو ليلتها؛ أن يؤمّنه الله وينجيه من فتنة القبر الذي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتعوذ منها، ويحظى بالسعادة في الحياة البرزخية، والحياة الأخروية، روى الترمذي في سننه، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو  رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، أَوْ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، إِلَّا وَقَاهُ اللَّهُ فِتْنَةَ الْقَبْرِ) [أخرجه أحمد (2/169، رقم 6582)، والترمذي في سننه ج3/ص387 ح1074، والحديث بمجموع طرقه وشواهده، يرتقي إلى درجة الحسن على أقل أحواله]. فانظر يا عبد الله، وأنت يا أمة الله، إذا أدركتك الموت يوم الجمعة، كيف يكون حالك الظاهري والباطني، هل ممن يعظم هذا اليوم، كما عظمه الله، فيعظم النية، ويغتسل، ويتطهر، ويلبس أحسن ثيابه، ويتطيب، ويبكر إلى الجمعة؟ أم يكون من الغافلين؟ فإذا كان لهذا اليوم كل هذه الفضائل، لأجل أن يتذوق الفرد طعم السعادة، فينبغي على المسلم أن يستقبله بالتعظيم والتقدير، ويغتنم فضائله، كي يتقرب فيه إلى الله تعالى بأنواع القربات والعبادات، ولقد كان من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، تعظيم هذا اليوم، وتشريفه، وتخصيصه بعبادات يختص بها عن غيره.

فيا عبد الله، بالله عليك، كم من جمعة مرت عليك مرور الكرام، دون أن تعيرها أدنى اهتمام؟ أيكون هذا الكلام الذي ذكّرتك به محفزا لك على التوبة والندم على ما صدر منك من تفريط، فإن كثيرا من الناس لا يغفل عن الاهتمام بهذا اليوم فقط، بل يقوم فيه بأنواع المعاصي والمخالفات والعياذ بالله؟ فيا من يجمع المال لغيره دون أن يتمتع به، ودون أن يُظهر نعمة الله عليه، وينسى نفسه، اعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول فيما رواه الإمام مسلم في صحيحه، عَنْ مُطَرِّفٍ ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ : أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقْرَأُ : (“أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ”، قَالَ: يَقُولُ ابْنَ آدَمَ: مَالِي مَالِي، مَا لَكَ مِنْ مَالٍ، إِلا مَا أَكَلَتْ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقَتْ فَأَمْضَيْتَ) [مسلم في صحيحه ج4/ص2273 ح2958]، فما نصيبك من مالك الذي تدعي امتلاكه، إن أتيت يوم الجمعة بلباس عاد، أعندك يوما عظيما غير هذا اليوم ادخرت له أحسن ثيابك؟ اصنع لنفسك يوماً جميلاً، واجعله يوم الجمعة، واستمتع بنعم الله عليك، ومارس ما يسعدك، ففي النهاية؛ أنت وحدك من يسعد أو يحزن في نهاية هذا اليوم، فالحياة مرة واحدة، والخاسر أو الرابح هو أنت.

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد كلما ذكره الذاكرون، وغفل عن ذكره الغافلون إلى يوم الدين، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.


: الأوسمة


المرفقات

التالي
كيف يتربص الكافرون بالمؤمنين؟
السابق
الدوحة: رئيس الاتحاد يستقبل وفدًا من علماء ماليزيا لبحث قضايا الفقه والاجتهاد الإسلامي

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع