شيخ
الربانيين ومنارة الدعاة: الداعية المربي الشهيد الشيخ خليل إبراهيم ندا الكبيسي
بقلم: الدكتور
سعد الحلبوسي
عضو
الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
في
ذاكرة مدينة الرمادي مركز محافظة الانبار غرب العراق عُرف المربي الشيخ خليل
إبراهيم ندا الكبيسي كواحد من أبرز أعلام الدعوة الإسلامية في العراق، ورمز من رموز
دعاة الإيمان الصادق، والذي أفنى حياته يدعو الى الله ولسان حاله يقول: ﴿قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ
ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا
مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف: 108] ، ولد رحمه الله عام 1373هـ الموافق 1952م
في حي العزيزية وسط مدينة الرمادي، منحدرًا من عشيرة الحاج عيسى الكبيسات، تلك
العشيرة التي أنجبت رجالًا دعاة فكان شيخنا واحدا منهم، وقد رزقه الله عز وجل من
الابناء خمسة ومن البنات أربع، وكلهم على إثره وعلى سمته ومنهجه.
أما دراسته
للعلوم الشرعية فقد حصل على شهادة البكالوريوس من كلية العلوم الإسلامية في جامعة
بغداد، الى جانب دراسته عند العلماء أمثال شيخنا العلامة الدكتور عبدالملك السعدي
والشيخ فاضل الدبو والشيخ صبحي الهيتي، وكان – رحمه الله – يتلقى العلم من مختلف
المشارب والتوجهات من العلماء والدعاة ويتبع الحق أينما وجده، وورّث هذه الميزة
لطلابه.
وقد تربى على
يديه الكثير من الشباب والدعاة وطلبة العلم، فصار من طلابه الطبيب والمهندس
والاستاذ الجامعي والامام والداعية ورجال القانون والدولة ورجال الأعمال والضباط
ووجهاء المجتمع، وانتشر طلابه في عدد من البلدان في العالم، في الأردن وسوريا
وتركيا ودول الخليج وماليزيا واندونيسيا والمانيا وبريطانيا ومصر والسودان وساحل
العاج، ومنهم من أصبحوا فيما بعد إما رؤساء جامعات او مدراء مراكز اسلامية إو
مدراء مستشفيات أو دعاة معروفين في العالم الإسلامي.
وكان يقضي وقته
في مكتبة جامع الشيخ عبدالملك السعدي وسط مدينة الرمادي، وأمضى أربعين عاماً من
عمره المبارك فيها، وأذكر في باكورة قبولي في مرحلة الماجستير كنت عنده في المكتبة
فقال لي باللهجة العراقية العاميّة: (تعال يمي إنا بالمكتبة تاخذ اربع ماجستيرات
بالسنة)، وله مؤلفات ومن أبرزها كتاب (الروح في موكب الرحمن) وكتاب (باقة من أزهار
النبوة) وكتاب (كيف تواجه الشهوة) وكتاب (هزال الروح) ومطويات ومنشورات كثيرة.
وبملازمتي
لمجلسه لمدّة نافت على العقد من الزمن، فقد وجدته ترجمة عملية ومثالًا حيًّا للرجل
الرباني الذي أخلص قلبه للإسلام، فما أن تجالسه وتستمع لحديثه حتى يأسرك شغفه
الكبير بالدين وحبه العميق للإيمان، فهو مدرك تمام الادراك قول الله جل وعلا: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا
عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ
يَنْتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ [الأحزاب: 23] فحمل
هم الإسلام في قلبه وشغل كل تفكيره ووجدانه طوال حياته، ولذلك لم يتغير منهجه
أبدًا ولم تنحرف بوصلته عن ذاك الهدف رغم تقلب الأحوال وشدة الظروف التي مرَّ بها
العراق بعد عام 2003.
ولم يقتصر تأثير شيخنا -رحمه الله- على طلبة العلم والدعاة والعلماء،
بل امتد ليشمل مختلف شرائح المجتمع، فتجد عنده العامل في السوق والبقال والتاجر
والطالب والاستاذ والرجل العامي والطبيب، وما هذا الا دلالة على حب الناس له
وتأثرهم بمواعظه التي أصبحت مقصدًا لكل من يبحث عن النصح والإرشاد بكلماته
ووصاياه، وما يدريك لعله من الصنف الذين قال عنهم الحبيب r: (إن الله اذا احب عبدا نادي جبريل
اني احببت فلانا فاحبه) الى ان
يقول: (ثم يوضع له القبول في الأرض) (البخاري ومسلم) فاجتماع الناس على مجلسه وتأثرهم
بحديثه وهو يشعل في قلوبهم نور الهداية ويزرع بذور الخير في نفوسهم لاشك أنه دلالة
نرجو الله له بها القبول عنده.
لقد كان شيخنا - رحمه الله - رجلًا ذا
هيبة ووقار، تميّز بطول قامته وبياض وجهه وكثافة لحيته التي زادتها مهابةً تلك
السنن النبوية التي التزم بها طوال حياته، وكأنه من الرعيل الأول الذين قال عنهم
النبي r : (الذين
إذا رؤوا ذكر الله تعالى لحسن سمتهم واخباتهم) (مجمع الزوائد) ولعلّ من أبرز صفات شيخنا رحمه
الله، التالي:
1. التواضع الشديد: فكان رحمه الله
نموذجاً مثالياً في والتواضع وهذه هي الأخلاق التي انتهلها من معين الإسلام، ومن
شدّة تواضعه كان يستقبل الأطفال في المكتبة وكأنهم رجال وينصت إليهم، وكان لا يرضى
منا تقبيل يده، ومن كلماته المشهورة التي كنا نسمعها منه وهو يحذّرنا (ست
نفّوسة) ويعني بذلك الكبر الذي يصيب الانسان فيحرفه من جادة الصواب.
2. لا يتكلم على أحد بسوء: ومع اختلاف
التوجهات والمدارس الفكرية وصراع التكتلات كان لا يذكر أحدا بسوء ابدا الا إذا
اقتضت الضرورة وعلى قدر الحاجة، وكأنه يسلك سبيل المحدّثين، وعلى امتداد مصاحبتي
له رحمه الله ما وجدته يوما يثأر لنفسه أبداً بل يعفو ويصفح حتى لمن آذاه.
3. لا يحب الشهرة ولا يحب المدح: وكان
رحمه الله كثيرا ما يحذّر منها، وكان يعدها من المهلكات، حتى بين معارفه ومحبيه لا
يرضى بالمدح وغالبا ما يخلد الى الخلوة، ففي رحلته للحج عام 2009 يقول الحاج أحمد
شنتاف مسؤول الحملة: كان الشيخ خليل معي في القافلة وفي يوم عرفة حفر حفرة صغيرة
وجلس لوحده في خلوة وهو يناجي الله سبحانه وتعالى وكأنه في عالم الآخرة.
4. صاحب قلب رحيم: فكان رحمه الله صاحب
القلب الحاني على طلابه وأحبابه ومن يقصد مجلسه، فكل من كان يرتاد مجلسه يلمس هذه
الميزة عنده، بل امتد عطفه حتى على الحيوانات، فيشهد الله كم رأيته بأم عيني يوزع
حصته من الغداء على القطط التي كانت بالباب تنتظر نصيبها، وهذا تكرر أمامي مرات
عدة، فأي قلب ذاك القلب!!
5. حريص على الوقت: وكان يتحدث لنا في
مواعظه فيقول: من لم يلتزم بالوقت ويخلف الموعد فإنني أخشى عليه ان يكون فيه نفاق،
وكان يقول: مع الأسف نحن المسلون صار عندنا أرخص شيء في حياتنا هو الوقت، وكان
يوزع لنا كتاب اسمه "ماذا تفعل في 10 دقائق" حتى يعلمنا كيف نستثمر
وقتنا بالشكل الصحيح، وفي أحد سفراته مع طلابه تأخر أحدهم بعد الموعد بدقيقتين او
ثلاث فتركته وأمر السائق بالمغادرة، حتى يستشعر طلابه قيمة الوقت.
وكان من أقواله التي
كنا نسمعها منه – رحمه الله – قوله لي ذات مرة عندما تحدثت معه عن الاحتلال
الامريكي للعراق، فقال: (بسبب الاختلال جاء الاحتلال واترك اللايمة يبن الحلال)
ويعني بذلك اختلال الموازين وترك الملامة والدخول في العمل، وقوله : (الإسلام
بريء) وكان يطلقها على كل من يسيء للإسلام من خلال فهمه او تصرفاته أمثال القاعدة
والمليشيات وغيرهم، وقوله: (يجب التركيز على الأصول قبل الفروع، والفروض قبل
النوافل، والمتفق عليه قبل المختلف فيه)، وقوله لنا باستمرار: (هنّ ثلاث خطوات
أربيكم عليها: الأولى العقيدة السليمة، والثانية الفهم العميق الشامل للإسلام،
والثالثة التركيز على القلب ومجاهدة النفس).
أما في مواعظه - رحمه
الله – فقد كان منارًا للسالكين في طريق الهداية والإيمان، فهو يأخذ بمجامع قلبك
الى عظمة الله في ملكوته، فكان دائم الذكر له موقرًا عظمته في المجالس، ومن حرصه
الشديد على تعريف الناس بالله، كان حديثه يلامس القلوب، واذا ما جالسته فلا تملّ حديثه
أبداً، لان حديثه يحمل في طياته معاني الحكمة والرحمة والروحانية والتذكير بالله، فلا
تجد في مجلسه شيئاً بعيدًا عن ذكر الله أو الحديث عن عظمته وجلاله وبديع صنعه، وهذا
الذي جعل الناس تغشى مجلسه لأنه يؤثر في نفوس كل من عرفه أو جالسه أو استمع إليه،
ولذلك تميّزت مواعظه رحمه الله بالتالي:
1. مراعاته
أحوال الناس وظروفهم، وهذا مطابق تماما للمنهج النبوي، حيث كان ابن مسعود رضي الله
عنه يقول: (كان النبي r يتخولنا بالموعظة
مخافة السآمة علينا) (البخاري)
ولذلك صار الشيخ موئل ومهوى كل من مرّ بشيء يكدر عليه حياته.
2. ضرب الأمثلة
من الواقع، وهذا يكون أوقع في نفوس المدعوين وأكثر تأثيراً، وهذا أيضا مطابق
للمنهج النبوي، فمثلا كان r يمثّل تطهير الصلاة للمسلم مثل تطهير الماء قال:
(أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس
مرات هل يبقى من درنه شيء) (البخاري
ومسلم) وكان الشيخ رحمه الله يضرب الامثال من نفس مدينة المدعو أو من منطقته
وعشيرته وأهله ومن حياته اليومية الملموسة.
3. استخدام
القصص القرآني والنبوي واخبار الصالحين، حتى يقرّب المعنى للمدعو ويترك أثرا طيبا
في نفسه، وفي الحقيقة القران الكريم والسنة مملوءان بالقصص ولعل هذا المنهج هو
الطريق الأمثل للدعوة، وكان الشيخ رحمه كثيرا ما يتكلم لنا عن قصص السلف وقصص
أصحابه أمثال اللواء الركن محمود شيت خطاب والحاج كسار والشيخ داود الستوت وغيرهم
الكثير من أصحابه وكنا نستمتع بحديثه ونتأثر به بشكل لا يوصف.
4. المزج بين
الترغيب والترهيب، وهذه الميزة قليل من الدعاة من يوازن بينها، أما شيخنا رحمه
الله فكان أستاذا لا يعلى عليه، فلقد طاف بنا بين رياض الصالحين، وحط رحله بنا عند
اعتاب الامام الغزالي والحارث المحاسبي والمقدسي وابن الجوزي والقشيري، وأجرى
مدامعنا مرات عدة، من محبة الله والشوق الى لقاءه ومن الخوف منه ومن بطشه وعقابه،
ويشهد الله كنا نحتاج مجلسه مثل حاجتنا الى الطعام والشراب.
5. الاستفادة من
الوسائل الحديثة في الوعظ، كاستخدام الداتاشو واستخدام الأفلام المؤثرة الدالة على
عظة الله مثل حلقات هارون يحيى وحلقات عبدالحميد القضاة وغيرهم، ومن قبلها استخدام
المنتديات، فاستفادة من الحداثة في الدعوة فخرج من المألوف الممل الى معطيات
العصر.
6. تركيزه على
الايمان والإخلاص: كان الشيخ يتحدث في مواعظه عن الايمان والإخلاص بشكل كبير، وكان
يقول لنا: "ان الإيمان هو وقود العمل" ولذلك أصدر مجلة أسمها "من
أجل الإيمان" وكان يقول الفارق بيننا وبين الرعيل الأول من سلف الأمة هو
الايمان، وصدق والله، فقد نقل عن سلف الأمة قولهم عن سيدنا أبي بكر رضي الله عنه: (ما سبقكم أبو بكر بكثير صوم ولا صلاة ولكن بشيء وقر في قلبه)
(التبصرة لابن الجوزي)
إنّ ما قدّمه شيخنا –
رحمه الله – للناس يجعلنا نفتخر به أباً وشيخاً ومربياً ومصلحاً، فلقد كان يقضي
حوائج الناس وهو في مكتبة جامع الشيخ عبدالملك السعدي التي اتخذها مسكناً ومكاناُ
لخدمة الناس، فطرح الله في عمره الخير والبركة، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه
وسلم: (أحب الناس الى الله أنفعهم، وأحب الأعمال الى
الله سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربه) (صحيح
الجامع) فكان رحمه الله سندًا للمحتاجين والفقراء، يغيثهم في الخفاء، ويقضي
حوائجهم بصمت دون أن يعلم أحد، وزوّج الكثير من الشباب خوفاً عليهم من مزالق
الانحراف، وساهم في ترميم علاقات كثير من الأسر دون أن ينتظر مقابلًا وبالخفاء كذلك
حتى لا يجرح كرامتهم أمام الناس، وكان قلبه ممتلئًا بالخير والعطاء الذي لا يعلم
به إلا الله.
وكان الشيخ في أواخر
حياته يردد دائما أمام المقربين منه كلمة (أنا نادم) وقد
أفصح عنها ذات مرّة، فقال: "أنا نادم على كل لحظة قضيتها في غير محلها، ومن
أعظم الأمور التي أنا نادم عليها هو تقصيري، وكان يجب عليّ أن أركز تركيزا كبيرا
وكثيرا على تعظيم الله في قلبي، ومحبته وإزالة الأمراض من قلبي، وعلاجه بالمعالجات
الشرعية"، والشيخ يصرخ بالندم وهو الذي أفنى حياته داعيا الى الله، ولا أدري
ماذا يقول من هم أمثالي؟!!
وقد سمعت الشيخ – رحمه
الله – يردد مرات عدة حديث النبي r : (مَن سَأَلَ اللَّهَ الشَّهادَةَ
بصِدْقٍ، بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنازِلَ الشُّهَداءِ، وإنْ
ماتَ علَى فِراشِهِ) (مسلم)، ولأن الشيخ كانت إحدى قدميه
صناعية ولا يخرج خارج المكتبة الا قليل ولأن الامريكان خرجوا من العراق نهاية سنة
2011 فكنت اتعجب من كثرة ترديد الشيخ لهذا الحديث، حتى حدثت نفسي ذات مرة فقلت:
"من أين تأت الشهادة والامريكان غادروا البلد؟!" حتى تحقق له ما تمناه
في سنة 2014 في احداث داعش المريرة التي عصفت ببلدنا الجريح.
وفي مشهد يمزج بين
التقدير الإلهي والحزن الذي خيّم على المدينة، اختتمت حياة الشيخ في ميدان الدعوة
إلى الله، فكان في حديقة جامع الشيخ عبد الملك السعدي تحت الشجرة التي اعتدنا
نجالسه تحتها أمام المكتبة التي شهدت أعوامًا طويلة من جهاده في خدمة الدين، فسقطت
قذيفة هاون عليه في يوم الأربعاء الموافق 29/1/2014، ونُقل إلى مستشفى الرمادي
التعليمي، وبقي يعاني من إصاباته لمدة أسبوعين، وبعدها أختاره الله إلى جواره فلبى
نداءه في فجر يوم الجمعة 14 ربيع الثاني 1435هـ الموافق الموافق 14/2/2014م، وقد
بلغ من العمر ثلاثاً وستين عاماً هجرية، مستريحاً من عناء الدنيا التي انهكت جسده،
وبرحيله فقدنا أبرز عمالقة الدعوة في
مدينة الرمادي وأحد أعلامها وأركانها، فكان نموذجًا فريدا للداعية العامل والمربي المصلح
الذي ترك بصمة لا تُمحى في قلوب الناس وفي تاريخ الدعوة الإسلامية، وبرحيلة ترك في
قلوبنا فراغاً لا يمكن أن يملأه أحد، ولقد مضى على استشهاده أحدى عشرة سنة ولازلنا
نبكيه كلما جالت بخواطرنا الذكريات.
رحم الله الشهيد
المربي الداعية الشيخ خليل إبراهيم ندا الكبيسي، وجعل قبره روضة من رياض الجنة وجمعنا
به في مستقر رحمه مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾
[القمر:
55].
ــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر
عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.