فقه القدوم على رمضان المبارك
بقلم: الشيخ عبدالله الخديري
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
بسم الله والحمدلله والصلاة
والسلام على رسول الله، وعلى صحابته أجمعين وبعد.
فهذه تنبيهات ووصايا وعناوين
مهمة لي ولجميع إخواني المسلمين والمسلمات كيف ينبغي أن نستقبل شهر رمضان المبارك،
وكيفية القدوم عليه، وماذا يمكن أن نفعله قبل وأثناء الشهر الفضيل.
حاولنا الاختصار كعادتنا حتى لا
نطيل؛ لأن الأهم هو الخلاصة وما يمكن فعله.
فنقول وبالله التوفيق هذه وصايا
ونصائح وعناوين مهمة في حياة المسلم والمسلمة ينبغي الاعتناء بها بشكل عام، منها
ما هو متعلق بالصيام والقيام، ومنها وصايا عامة.
وقبل القدوم على شهر رمضان ينبغي للمسلم أن يكون فقيهاً بحاجاته وضرورياته
الشرعية؛ حتى يعبد الله على علم وبصيرة، ويرفع عنه الجهل.
1- اهجر الذنوب كلها صغيرها
وكبيرها دقها وجلها سرها وعلانيتها، وستجد حلاوة ذلك في قلبك.
ولا بد من الإقلاع عن الذنوب،
والندم على فعل المعصية، والعزم على عدم العودة من جديد؛ فهذه ثلاثة شروط معلومة
ومقررة عند العلماء.
وهناك شرط رابع متعلق بحق الناس
وهو رد المظالم لأهلها.
وهذا يسمى عند علماء السلوك
التخلية قبل التحلية، يقصدون بها تخلية المرء نفسه من الذنوب والمعاصي، وبعدها
يحليها بالطاعات.
وهو منطق سليم يداوي العلل،
ويهذب النفوس حتى تكون مهيأة للخير الكثير وسعادة الدارين.
2- افتح صفحة جديدة مع الله بصدق
ومع الناس كذلك، تسامح معهم واعف عنهم، واطلب ممن ظلمته العفو والصفح:
[...وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ].
3- استقبل رمضان بابتهاج وسرور؛
لأنه من أعظم الشهور، ففيه البركة وتكفير الذنوب؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم- في
الصحيح: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان
إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، وهنئ إخوانك المسلمين بذلك.
4- حافظ على الصلوات المفروضة في
أوقاتها جماعة في المسجد، وأمر أهلك بها؛ لقوله تعالى: [حَافِظُوا عَلَى
الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَىٰ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ]. وقوله
تعالى: [وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا..].
ولحديث: (ولقد رأيتنا وما يتخلف
عنها إلا منافق معلوم النفاق..)
وحديث: (وما تقرب عبدي بشيء أحب
إليّ مما افترضته عليه)، ثم قال بعدها (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى
أحبه..)، ومن النوافل التراويح وصلاة التهجد.
5- رتب وقتك، وابدأ بالأهم فالمهم،
واملأه بما ينفعك في دنياك وآخرتك.
6- الزم قراءة القرآن؛ لأنه شهر
القرآن، فقد كان جبريل -عليه السلام- يدارس النبي -صلى الله عليه وسلم- القرآن في
رمضان، واحرص عليه أشد الحرص، وحاول أن يكون لك ختمات فيه كأن تكون لك واحدة
للتلاوة، والأخرى للتدبر وهكذا، ولا تسرع في قراءتك كهذا الشعر، وإنما التوسط
والطمأنينة فيها.
7- احرص على الدعاء خصوصًا عند
الإفطار ووقت السحر؛ فإن للصائم دعوة لا ترد كما في الحديث، ولا تُشغل بالقيل
والقال، فتضيع ساعات مهمة من حياتك، فإن لك دعوة مستجابة كل يوم.
ادع لنفسك أولاً ولوالديك
وأهلك، ولجميع المسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات.
8- تذكر جيداً أن لك فرحتين
تفرحهما كما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- قال: قال الله عز وجل: (كل عمل ابن آدم له إلا الصيام؛ فإنه لي
وأنا أجزي به، والصيام جنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب، فإن سابه
أحد أو قاتله، فليقل إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند
الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه).
9- أكثر من صلاة النوافل، وتفقد
الفقراء والمساكين خصوصا الأقارب منهم، وعليك بجبر الخواطر، لأنه طريق لكسب القلوب.
10- أكثر من ذكر الله تعالى؛ لتنال
وتحظى بقوله تعالى: [.. وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ
كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا].
11- احرص على صلاة التراويح أشد
الحرص كونها جماعة في العام مرة، ولفضلها كذلك كما قال -صلى الله عليه وسلم- (من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه).
12- اسجد واقترب، عليك بكثرة
السجود فهو سبب في زوال الهم وتنوير القلب.
13- قلل من الطعام قبل التراويح،
لأن الإكثار منه يثقل البطن، ويورث الكسل ويفتر ويضعف الهمة عن أداء القيام
والتراويح.
14- تذكر جيداً وأنت تتقلب بالنعم
أن غيرك من ملايين المسلمين لا يجدون طعاماً يفطرون عليه يسد جوعهم، ولا شراباً
نظيفاً يبل ريقهم، ولا مأوى يليق بكرامتهم وإنسانيتهم، فلا تكن أنانياً تجاه
إخوانك؛ بل الواجب الدعم والدعاء لهم. وإن الله ابتلاك بالنعمة ليرى أتشكر أم
تكفر، ولو شاء الله لجعلك مكانهم، ولكنه منّ عليك بالنعم ليرى صنيعك مع غيرك.
15- الناس في العادة يكثرون من
تنويع الطعام والشراب، وهذا يحتاج بلا شك إلى عمل وجهد لإعداده والانشغال به ساعات
النهار، لذلك عليك أن تكون رحيماً رفيقاً بأهلك ومن هم تحت يدك، فلا تكلفهم فوق
طاقتهم؛ فإن كان ولا بد فأعنهم؛ لحديث: (وإن كلفتموهم فأعينوهم) يقصد به العامل
والخادم، والأهل من باب أولى، وينبغي أن توجه لهم الشكر والثناء على صنيعهم، (فمن
لا يشكر الناس لا يشكر الله) كما في الحديث الصحيح،
فإن لهم حقاً كونهم في شهر فضيل
يحتاجون إلى استغلاله كبقية الصائمين،
فقد روى الترمذي وابن ماجه من
حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)، وفي هذا
دليل عظيم على محاسن الإسلام كونه جعل الإحسان إلى الزوجة والعيال من أفضل
الأعمال، قال صاحب تحفة الأحوذي في شرحه لهذا الحديث، قوله: "خيركم خيركم
لأهله" أي لعياله وذوي رحمه، وقيل لأزواجه وأقاربه، وذلك لدلالته على حسن
الخلق،
"وأنا خيركم لأهلي"
فأنا خيركم مطلقا، وكان أحسن الناس عشرة لهم، وكان على خلق عظيم صلى الله عليه
وسلم.
16- احرص على العمرة إن استطعت في
رمضان لفضلها العظيم، ففي الصحيحين من حديث ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه
وسلم- قال: "عمرة في رمضان تقضي حجة معي" فالعمرة في رمضان تعدل حجة مع
النبي صلى الله عليه وسلم.
ولكن من اعتمر في رمضان من قبل
فإنا ننصح أن يتصدق بتكاليف العمرة على الفقراء والمحتاجين في بلده أولاً، لأنهم
أولى وأحرى بهذا المال.
ولإدخال السرور على المسكين
وكفايته خير وأحب إلى الله تعالى من نوافل الحج والعمرة. وكذلك دعم صمود أهل غزة
الصابرين المرابطين على الثغور والذين رفضوا التهجير، رغم الترهيب الممنهج من
الصهاينة وغيرهم.
17- ينبغي للرجل ألا يمنع أهله من
شهود الجماعة في المسجد، لا سيما في صلاة التراويح
والتهجد، وهذه من المسائل
المهمة التي أود التنبيه عليها وبيانها؛ لأنا قد سمعنا كثيراً السؤال عنها،
فنقول قد وردت بذلك أحاديث
صحيحة منها ما هو مرفوع وموقوف، كحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- في الصحيح
"لا تمنعوا إماء الله مساجد الله.."
وفي الصحيح أيضاً من حديث سهل
بن سعد -رضي الله عنه- قال "لقد رأيت الرجال عاقدي أزرهم في أعناقهم مثل
الصبيان من ضيق الأزر خلف النبي صلى الله عليه وسلم، فقال قائل: يا معشر النساء،
لا ترفعن رؤوسكن حتى يرفع الرجال"
وحديث ابن عمر مرفوعا: (إذا
استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها)، وفي رواية: (ائذنوا للنساء بالليل
إلى المساجد)،
وفي رواية قال بلال بن عبدالله
بن عمر: (والله لمنعهن، قال فأقبل عليه عبدالله - يعني والده - فسبه سباً سيئاً ما
سمعته سبه مثله قط، وقال: "أخبرك عن رسول الله، وتقول والله لمنعهن)
وحديث عائشة -رضي الله عنها- في
الصحيحين مرفوعا: (كن نساء المؤمنات يشهدن مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاة
الفجر متلفعات بمروطهن، ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة، لا يعرفهن أحد من
الغلس)
ففي هذه الأحاديث دليل على جواز
شهود المرأة جماعة المسلمين في المسجد، سواء في صلاة الفريضة أو النافلة، والنهي
عن منع النساء من حضور المساجد، ومشروعية خروج النساء للصلاة في المساجد بالليل،
وهذا الذي أراه وأرجحه للأدلة
السابقة، والأصل في النهي التحريم، ولا يوجد صارف يصرفه للكراهة، وهو ظاهر كلام
ابن قدامة،
وبعضهم قال إن النهي للكراهة،
وهو مذهب الحنابلة، واختاره الإمام النووي.
وبناء على ما تقدم من الأدلة،
فلا يجوز للولي أن يمنع المرأة من الخروج للمسجد من أجل صلاة الجماعة، إلا أن بعض
العلماء فرق بين الشابة فيجوز منعها، بل يُكره الإذن لها؛ لما فيها من الفتنة،
وبين العجائز فيُكره منعهن، لكن الصواب ألا فرق بينهما مع أمن الفتنة.
لكنا نقول أيضاً لا يُفْهــَمُ
من هذا أن صلاة المرأة في المسجد أفضل؛ بل بيتها خير لها، لكن إذا استأذنت فلا
ينبغي منعها، لاسيما وان التراويح لا تتكرر في العام، ويجب عليها إذا خرجت للمسجد
أو غيره أن تراعي عدة أمور منها: ألا تخرج متطيبة، أو أصابت بخورا؛ لحديث أبي
هريرة رضي الله عنه: (وليخرجن تفلات) أي غير متطيبات،
وعنه أيضاً أن النبي -صلى الله
عليه وسلم- قال: (أيما امرأة أصابت بخوراً فلا تشهد معنا العشاء الآخرة)،
وحديث زينب رضي الله عنها
"إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيبا"، وأن تستأذن زوجَها أو وليَّها
كما هو واضح في الباب، وألا تتبرج ولا تلبس ثياب الزينة؛ لقوله تعالى: [وَلَا
تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى]
وألا تفوت بخروجها واجباً حل
وقت الخروج مثلاً. فكل شيء يقدر بقدره، والمواءمة بين الأمور وترتيب الأولويات لا
تخفى.
18- اترك الجدل والمراء والخصومة
والشحناء والغيبة والنميمة والكذب وبذاءة اللسان، فإنها مهلكات تذهب حلاوة الطاعة
من قلبك، والنور من وجهك، والقبول عند الله وعند خلقه.. قال -صلى الله عليه وسلم-:
(إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب ولا يجهل، فإن سابه أحد، فليقل إني
صائم..)
لاحظ معي قوله "فلا
يرفث" نهي واضح عن الرفث يقتضي التحريم، والرفث هو الكلام السيئ والبذيء
ومقدمات الجماع.
وقوله: "ولا يصخب"
الصخب هو رفع الصوت والخصومة والصياح كما هو حال الجهلة.
وقوله: "ولا يجهل"
الجهل هنا يراد به ما يُقابل الحِلْم، وأكثر ما يُستعمل ضد العلم.
وقوله: "فليقل إني
صائم" هو بلسان الحال والمقال.
إن الصيام أيها الأحبة مدرسة
جامعة للأخلاق والقيم، بل إن كل شعيرة من شعائر الإسلام، وكل ركن من أركانه يعلمنا
الأخلاق والحلم وتهذيب النفوس، وهذا واضح في بقية أركان الإسلام كالصلاة والحج.
19- الغاية والهدف من الصوم ليس
الجوع والعطش فحسب، وإنما هو تحقيق التقوى في قلوب المسلمين: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]،
لأن التقوى إذا تحققت في قلبك عرفت حق ربك وحق عباده. وهذا هو الهدف المقصود من
العبادات جميعها.
20- لا تنس محاسبة نفسك، وليكن لك
وقت معين للخلوة مع ربك، فإنه أصلح لقلبك.
21- جدد الإخلاص في كل عباداتك،
فإنه رأس مال العلم والعمل.
22- احرص أن تكون كل عباداتك
موافقة لهدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام رضي الله عنهم: [أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ
اقْتَدِهْ ۗ]
ولحديث: "عليكم بسنتي وسنة
الخلفاء الراشدين المهديّين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ".
23- حاول أن تجمع بين كثير من
العبادات في نفس اليوم إن استطعت، كعيادة المريض، واتباع الجنازة، وإطعام مسكين،
وهكذا؛ لأنها مظنة دخول الجنة..
كما في الصحيح عنه -صلى الله
عليه وسلم- قال: (من أصبح منكم اليوم صائماً؟ قال
أبو بكر أنا، قال فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر أنا، قال فمن أطعم منكم
اليوم مسكيناً قال أبو بكر أنا، قال فمن عاد منكم اليوم مريضاً قال أبو بكر أنا،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة).
24- إذا جاءت أيام العشر الأواخر
من رمضان فاعتكف، واقطع عنك مشاغل الدنيا إن استطعت، واجتهد في ختم القرآن ما أمكن
وتحري ليلة القدر، فإنها أعظم ليلة في الدنيا؛ لحديث "تحروا ليلة القدر في
الوتر من العشر الأواخر من رمضان" وفيها أنزل القرآن الكريم (إنّا أنزلناه في
ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر، ليلة القدر خير من ألف شهر، تنزل الملائكة
والروح فيها بإذن ربّهم من كلّ أمر، سلام هي حتى مطلع الفجر) فلعظمها وأهميتها
وفضلها وشرفها وقدرها؛ أنزل الله سورة كاملة لأجلها، ومن قامها غفر له ما تقدم من
ذنبه كما في الصحيح " من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم
من ذنبه".
وهناك كلام نفيس جدا لعلماء
الإسلام حول لطائف سورة القدر، ومن أفضلها قول العلامة بن عاشور في التحرير
والتنوير، حيث قال: " والتعريف في (القدر) تعريف الجنس، ولم يقل في ليلةِ
قدرٍ، بالتنكير لأنه قُصد جعل هذا المركب بمنزلة العلَم لتلك الليلة كالعلَم بالغلبة؛
لأن تعريف المضاف إليه باللام مع تعريف المضاف بالإِضافة أوْغَلُ في جعل ذلك
المركب لَقَباً لاجتماع تعريفين فيه".
وقال "والمقصود من تشريف
الليلة التي كان ابتداء إنزال القرآن فيها تشريف آخر للقرآن بتشريف زمان ظهوره،
تنبيهاً على أنه تعالى اختار لابتداء إنزاله وقتاً شريفاً مباركاً؛ لأن عظم قدر
الفعل يقتضي أن يُختار لإِيقاعه فَضْل الأوقات والأمكنة، فاختيار فضلِ الأوقات
لابتداء إنزاله، ينبئ عن علوّ قدره عند الله تعالى، كقوله: (لا يمسه إلا المطهرون)
الوجهين في المراد من المطهرين".
وليس هنا موضع البسط عن السورة
وجميع لطائفها، وإنما القصد الإشارة والتنبيه؛ لأنا قد تكلمنا عن سورة القدر ضمن
حديث سابق بعنوان: "الصيام والتراويح" من أراد الاستزادة؛ فليرجع إليه.
25-
لا تخرج من معتكفك إلا للحاجة
والضرورة.
26- احرص على إخراج زكاة المال في
رمضان؛ لبركته وعظم مكانته، ومضاعفة الأجر في ليلة القدر وحاجة الفقراء والمساكين
فيه أكثر من غيره، والمهم مراعاة حولان الحول وبلوغ النصاب.
27- صدقة الفطر يجوز إخراجها حتى
في بداية رمضان، وقبل العيد بيوم أو يومين، وإعطائها للفقير تكون في يوم العيد قبل
خروج الناس إلى المصلى.
والأفضل إخراجها عيناً من غالب
قوت البلد، ولا مانع لدينا من إخراجها نقداً كون الفقير يحتاج إليه أكثر في
زماننا، وقد بينا هذه المسألة بفتوى سابقة.
28- أحسن لوالديك وصل أرحامك
وجيرانك، فإن الإحسان واجب وعظيم، بل من أوجب الواجبات.
والأدلة في بر الوالدين وصلة
الأرحام والإحسان إلى الجيران كثيرة مشهورة، كقوله تعالى: [وبالوالدين إحسانا]،
وقوله: [۞ وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا
إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ
الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا
تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ
الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)] (سورة الإسراء).
وفي الصحيح مرفوعا: (من أحق
الناس بحسن صحابتي قال أمك قال ثم من قال أمك قال ثم من قال أبوك).
وأما صلة الرحم فقال تعالى: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي
الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ
فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ)
وفي الصحيح من حديث عائشة
مرفوعا " الرحم معلقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله"
وأما الإحسان إلى الجار، فقال
تعالى: [وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ
إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي
الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ
وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ]
وحديث ابن عمر وعائشة -رضي الله
عنهما- في الصحيحين عنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما زال جبريل يوصيني
بالجار حتى ظننت أنه سيورثه".
وحديث أبي ذر في الصحيح قال له
-صلى الله عليه وسلم-: "يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها، وتعاهد جيرانك"
29- اجعل نصب عينيك أخي الصائم
وأختي الصائمة دائماً وأبداً قوله صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من
لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه).
فلا معنى ولا قيمة للصيام
والقيام، وأنت تطلق لسانك في أعراض الناس، أو سبهم، أو تحقيرهم، أو الانتقاص منهم
أو جوارحك في إيذاء الناس.
فمن لم تنهه صلاته عن الفحشاء
والمنكر فلا صلاة له، وقس عليه الصيام وغيره.
والله يقول: (إن الصلاة تنهى عن
الفحشاء والمنكر)
ويقول -صلى الله عليه وسلم- عن
جملة من آداب الصيام كما في الصحيح "من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله
حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"
وقال أيضاً -عليه الصلاة
والسلام- في واجب المسلم نحو إخوانه المسلمين بشكل عام "المسلم أخو المسلم لا
يظلمه، ولا يسلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى هاهنا - وأشار إلى صدره ثلاث مرات -
بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله
وعرضه".
30- الناس في صيام رمضان ليسوا على
درجة واحدة من تحقيق التقوى والمجاهدة للنفس وتهذبيها وإصلاح السلوك وتقويم
اعوجاجها، ولكنهم متفاوتون بحسب قوة الإيمان وضعفه.
ولهذا
قسم الإمام الغزالي -رحمه الله أحد أشهر علماء السلوك والتزكية- الصوم إلى ثلاثة
أقسام:
- الأول صوم العموم، وهو
الامتناع عن الطعام والشراب والجماع وسائر المفطرات من طلوع الشمس وحتى غروبها.
- والثاني صوم الخصوص، وهو كف
الجوارح عن الوقوع في الآثام والمعاصي، كأن تكف عينك عن الحرام، وسمعك ويديك
ورجليك عن الحرام..
- والثالث صوم خصوص الخصوص، وهو
صوم القلب عما سوى الله تعالى بالكلية، فلا يحب ولا يبغض إلا في الله، ولا يتوكل
إلا عليه، ولا يرجوا إلا هو ولا يخاف إلا منه وهكذا..
فأما القسم الأول، فيشترك فيه
جميع الصائمين وهو صيام كل مسلم.
وأما الثاني والثالث فهو صيام
المؤمنين الصادقين، والمتقين الذين جاهدوا أنفسهم، فهداهم الله سبله.
31- ابتعد عن كل عادة سيئة كنت
تعملها من قبل، فإن رمضان شهر تهذيب النفوس وتزكيتها، وهو فرصة لا تتكرر في العام
إلا مرة أعني رمضان، واهجر مشاهدة المسلسلات والأفلام، وكل ما لا ينفعك في دنياك
وآخرتك، فإنه مضيعة للوقت ممحق للعمر، مفوت للواجبات والطاعات.
32-
احرص أشد الحرص على كتم الغيض
وتخلق بالحلم، خصوصاً قبيل الإفطار وعند السحر، وجاهد نفسك وابتعد عن كل ما يثير
أو يؤدي إلى سوء الخلق مع الناس.
33- لا تسرع في مشيك بغية الحرص
على الإفطار في البيت، فربما وقعت في مكروه، وكان بإمكانك الإفطار في أي مكان تكون
فيه، فالسلامة وحفظ النفس من الكليات الضرورية والمقاصد التي أمرت الشريعة بحفظها
وصونها، ولهذا كم نرى ونسمع عن حوادث السير بسبب السرعة.
34- رمضان شهر الجد والعمل
والإنتاج، وليس شهر الكسل والنوم طوال ساعات النهار، ولنا في النبي -صلى الله عليه
وسلم- وصحابته الكرام والتابعين لهم بإحسان خير قدوة، فقد وقعت في رمضان عدة معارك
وغزوات، منها غزوة بدر، وكانت في السابع عشر من رمضان من السنة الثانية للهجرة،
وفتح مكة، كانت في العاشر من شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة، ومعركة القادسية،
كانت في رمضان سنة خمسة عشر للهجرة بقيادة سعد بن أبي وقاص، ومعركة بلاط الشهداء
كانت عام 114هـ بين المسلمين والصليبيين في أواخر شعبان من العام نفسه، واستمرت
تسعة أيام حتى أوائل شهر رمضان، وفتح عمورية كانت سنة 223هـ، ومعركة عين جالوت
كانت في رمضان سنة 658 هـ، وكانت بين المسلمين والتتار، وعين جالوت مكاناً بين
بيسان ونابلس بفلسطين، وكان المسلمون بقيادة المظفر "سيف الدين قطز"
والمغول بقيادة "كيتوبوقا"، وقد كتب الله النصر للمسلمين، فحققوا فوزًا
عظيماً، ومعركة شقحب
وكانت بين المسلمين والتتار في
رمضان سنة (702) هـ.
فالشاهد أن شهر رمضان كان
المسلمون يجوبون العالم، وحقق الله على أيديهم الانتصارات والفتوحات العظيمة، ولم
يتخذوه وقتاً للنوم والراحة والكسل والخمول، بل هو الجد والمثابرة، وعليه فإنا
نؤكد وننصح كل موظف أو عامل أن يؤدي عمله الموكل إليه دون تقصير أو إهمال بحجة
الصيام.
وفي المقابل على الحكومات
الإسلامية أن تراعي خصوصية رمضان، وأن تسن قوانين وتشريعات كافية ومرنة توازن بين
العمل والعبادات في رمضان، حتى يتسنى للمسلم الجمع بين العمل وأداء العبادات في
وقتها دون تفريط أو ضياع.
35-
سل أهل العلم وتفقه في دينك،
خصوصاً فيما يتعلق بالصيام ومسائله.
36- احرص على النظافة الشخصية ما
استطعت؛ فإنك تقبل على الله تعالى في كل يوم خمس مرات [خذوا زينتكم عند كل مسجد]،
جاء في "التفسير
الكبير" للإمام الرازي أن الزينة المأمور بها تشمل جميع أنواع الزينة، فيدخل
تحت الزينة جميع أنواع التزيين، ويدخل تحتها تنظيف البدن من جميع الوجوه.أ. هــ.
وتجنب كل ريحة كريهة وتفقد
نفسك، لأن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم كما في الصحيح.
فإذا أردت الذهاب إلى المسجد
سواء في الصلوات الخمس، أو في التراويح مثلا، فلا تأكل الثوم والبصل والكراث
والبقل للنهي الصريح الصحيح عن ذلك "من أكل ثوماً أو بصلاً فلا يقربن مسجدنا
" وفي رواية " فليعتزل مصلانا"
فمن ذهب إلى المسجد، وقد أكل
شيئاً من هذه الأشياء، فقد أثم إن كان يعلم هذا النهي، بل ذهب بعض الفقهاء إلى
التحريم وهو ظاهر كلام الإمام أحمد بن حنبل.
قال الإمام النووي في تعليقه
على الحديث السابق: هذا تصريح بنهي من أكل الثوم ونحوه عن دخول كل مسجد، وهذا مذهب
العلماء كافة إلا ما حكاه القاضي عن بعضهم أن النهي خاص بمسجد النبي صلى الله عليه
وسلم.
وقد كان بعض الصحابة -رضي الله
عنهم- يميتونه طبخاً؛ حتى لا تظهر منهم رائحة كريهة؛ كما في الصحيح.
ويقاس على هذا كل ريحة كريهة
يتأذى منها الناس كريحة الدخان (التبغ) مثلاً، سواء سيجارة أو شيشة؛ لأن هذا وغيره
يؤذي المسلمين، والملائكة تتأذى منه كذلك.
ومما يؤسف له عندما ترى وتشاهد
من يفطر على الدخان ممن ابتلوا بهذا؛ فإنها عادة منكرة مخالفة للدين والعقل والصحة.
فيجب على من بلي بهذا التوبة
النصوح والإقلاع عن هذا، ويجب على من يراه نصحه برفق ولين وإظهار الحرص عليه ومحبة
الخير له، حتى يكون أدعى للقبول.
روى مسلم في صحيحه من حديث تميم
الداري وله شواهد عند غير مسلم، يقول صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة
قلنا لمن يا رسول الله قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم"
وقال جرير بن عبد الله البجلي
رضي الله عنه - كما في الصحيح - "بايعتُ النبي -صلى الله عليه وسلم- على إقام
الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم"
فيجب على الجميع ممارسة النصح
لكل مسلم، كما قال: "والنصح لكل مسلم"
وابدأ بنفسك وأهلك وأقاربك
وجيرانك، ثم الأبعد فالأبعد وهكذا، هذا من حيث الجملة.
37- يسن ويستحب الإفطار على الرطب
أو التمر أو الماء على هذا الترتيب، جاء عن أنس بن مالك قال: كان النبي -صلى الله
عليه وسلم- يفطر على رطبات قبل أن يصلي، فإن لم يكن رطبات فعلى تمرات، فإن لم يكن
حسا حسوات من ماء.
38-
اجعل من رمضان مدرسة لسائر
العام، قولاً وعملاً، فما تفعله في رمضان تستطيع فعله في العام كله.
39- أخيراً أنصح نفسي وإخواني
الكرام طلاب العلم والمشايخ، ومن له صلة بهذا الشأن جددوا أساليبكم مع الناس عند
الوعظ والإرشاد، أدخلوا أنفسكم من جملة المخاطَبين؛ فإنه أدعى للقبول، تكلم معهم
بأساليب التشويق المتنوعة مثل القصص، والسؤال والجواب، والحوار والنقاش وضرب
الأمثال ما أمكن، وعلى حسب المكان والزمان، فهذا كله له أصل في الشريعة من حياته
-صلى الله عليه وسلم- في كثير من مواقفه كما في الصحاح وغيرها.
اترك الرسميات والخطاب التقليدي
إلا في حدود المتعارف عليه، هذا كله في المحاضرات والندوات واللقاءات العادية منها
أو المتلفزة.
تحرى النقل الصحيح وبسط للناس
الألفاظ، وليكن كلامك واضحاً لا يحتمل معاني مختلفة.
حببهم إلى الله وجنته، وحذرهم
من التهاون في الموبقات.
اجعل شهر رمضان فرصة للقرب من
الله أكثر.
ختاماً: الأدلة فيما قلناه كثيرة مشهورة أشرنا إلى بعضها خشية الإطالة، وحتى تحفظ
بسهولة ويسر.
بينا فقه القدوم على شهر رمضان
المبارك، وأهم ما ينبغي فعله فيه؛ بلغة سهلة مبسطة؛ ليكون تذكيراً وحافزاً لنا
جميعا، وأما الأحكام الفقهية الخاصة بالصيام والقيام، أو مسائل الصوم والفتاوى
الخاصة به؛ فقد كتبتها وأفردتها مستقلة في مقالين سابقين بعنوان "من فقه
الصيام.. الصيام أحكام ومسائل " وكذلك "الصيام والتراويح"
فقد ذكرنا في "فقه
الصيام" وأجبنا عن مسائل الصوم المعاصرة التي لا غنى للصائم والصائمة عنها.
وأما مقال "الصيام
والتراويح" فذكرنا فيه الأحكام الفقهية الخاصة به.
وهما منشوران على منصة الاتحاد،
فمن أحب الاستفادة من ذلك؛ فليرجع إليهما؛ لعله يجد ما ينفعه ويغنيه، ويجيب عن
سؤالاته، ويحل إشكالاته إن شاء الله تعالى.
حرصنا في هذه وغيرها أن تكون
عوناً لطالب العلم، والمبتدئ، وتذكيراً للفقيه، ومقصداً للداعية النبيه.
هذا ما تيسر لي كتبته على
عجالة؛ لعل الله أن ينفعني بها، وتكون خالصة لوجه، وأن ينفع بها المسلمين
والمسلمات آمين.
ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين
يوم يقوم الحساب. وصلى الله، وسلم على نبينا محمد، وعلى أصحابه أجمعين.
وآخر دعوانا أن الحمدلله رب
العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* د. عبدالله الخديري؛ أستاذ
الفقه والقضايا المعاصرة، عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، عضو هيئة علماء
اليمـــن.
* ملحوظة: جميع المقالات
المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء
المسلمين.