إن العنصر المهم اليوم للعقل العربي من الدرس التركي خاصة ذوي التوجه أو الفكر الإسلامي يحمل لهم مساحة مهمة جدا تتضمنها هذه التجربة في تركيا الجديدة.
فقصة الصعود الفكري الإسلامي العربي وقدراته في الشارع الوطني العام حالة مستمرة رغم حجم المواجهات القمعية الشرسة من خصومه أو الانتكاسات الداخلية التي عاشها التيار الإسلامي خاصة في عهد ما يُطلق عليه الثقافة والفقه الصحوي، الذي توقفت في عهده أفكار رئيسية لحركة الإحياء الإسلامي التي انطلقت في آخر عهود الدولة العثمانية ثم تقلصت مساحة خطابها بعد هيمنة السلفية الطائفية وتأثر العهد الصحوي بها والذي حيّد مدارس الفقه الإسلامي السني ومخزون تواصلها الحضاري في المنطقة العربية ومراكز حواضره.
كما أنه أطلق الصراع في قضايا الفقه وفروع العقائد مع أهل السنة، وشدد على السلوك الفردي المظهري، في حين تراجعت لديه قواعد فقه المقاصد والمواطنة والتعامل مع الطوائف ومنهاج السلوك الأخلاقي العام، ولكن هذا التيار اليوم يشهد عمليات مراجعة ضخمة، كان من أهم مصادرها نجاح تجربة الإسلاميين في تركيا، رغم ما تعرضت له الحركة الإسلامية العربية بعد الربيع من مواجهة عنيفة حولت بلدانها بين خريف دام وفقدان توازن اضطراري.
إلا أن التجربة التركية أتت في فترة زمنية مهمة جدا تقدم فيها إلى الميدان أيضا مشروع السلفية الجهادية بشقيه القاعدي أو العنف اليميني الديني في داعش وجماعات أخرى، وعليه أضحى ظهور كلا المشروعين في هذا التوقيت من تاريخ المشرق الإسلامي مسار توجيه لأنصار المشروع الإسلامي وهم تيار الغالبية الأكبر عربيا لتتوجه أفكارهم بين المشروع الديمقراطي المستقل الحديث، ومشروع السلفية الطائفية كداعش (تنظيم الدولة الإسلامية) ونظيراتها أو القاعدة أو ما تفرع منها من جماعات أخرى.
ورغم أن المحافظين في التيار الإسلامي العام ومنهم أقطاب ومجموعات لا تزال تنتمي للعهد الصحوي لهم تحفظات واسعة على انفتاح الحركة الإسلامية التركية ومشروعها الحديث، إلا أن غالبيتهم الساحقة تضامنت مع هذا المشروع في ظل المواجهة التي تعانيها أقطار العالم العربي بعد إسقاط الربيع وما قدمته حكومات العدالة من مواقف تضامن للمضطهدين ولحرب غزة وتطوير معاصر ودفاع عن حقوق الإسلاميين المحافظين في تركيا دستوريا وثقافيا وقانونيا.
وهذه الدلالة ليست سوى مؤشر واحد ضمن مؤشرات عديدة تؤكد تأثر التيار الإسلامي العربي بالتجربة التركية الديمقراطية لإسلامييها ومتابعتهم الحثيثة لها، والأهم خطاب الوجدان الداخلي والجدل الفطري والثقافي الذي تعيشه هذه المحاض ورموزها الثقافية من التنوير الإسلامي إلى المحافظ الأصولي رغم حجم الخلافات بينهم وتعددها.
إن فكرة النقد الذاتي للإسلاميين التي بدأت تصعد مع مراقبة هذه التجربة ورواج مصطلحات الدستور والحقوق المدنية والمنافسة لتحقيق الخدمات التنموية للشعوب وليس وعظها بالجنة والنار في منصة الانتخابات البلدية والبرلمانية، تؤكد أهمية هذا المشهد التركي وتداخله الدقيق مع الحالة السياسية والفكرية التي يعيشها التيار الإسلامي في المنطقة العربية وبقية المشرق الإسلامي.
وهو ما يطرح أسئلة الوعي الإسلامي الجديد وموقفه من الديمقراطية كوسيط مدني لتحقيق الحريات والعدالة والتقدم الصناعي والبيئي كمقاصد لفقه الشريعة الإسلامية وليس كأداة لإقصائها، ورغم أن هذه الفكرة تُشاهد وتراقب في جمهور الإسلاميين، فإن حدود تصورها حتى الآن يحتل المخزون العاطفي ولم يتوغل في تفاصيل أو أصول هذه التجربة وكيف وصلت الحركة الإسلامية في تركيا إلى ذلك وما المتطلبات لمن أراد أن يقتدي بها، ليس بالضرورة كمناسخة تطابقية ولكن كأفكار أساسية للتعامل مع قيم ووسائط الحريات المدنية المعاصرة.
ورغم حداثة العهد الإسلامي اليوم مع فكر ومصطلحات الديمقراطية فإن حجم القبول والتعاطي والنقد يتطور ويتفاعل، لكنه لا يزال يحتاج إلى عكس المرآة أمام التجربة التركية المعاصرة. في المقابل فإن تحول قطاع واسع من العلمانيين العرب من قوميين وليبراليين ويساريين لمهاجمة أردوغان ومشروع حزب العدالة والتنمية، أظهر بعدا جديدا لإشكالية المصداقية السياسية في الجدل الفكري العربي.
وأعاد من جديد التذكير بهذه التجربة وما تعكسه من واقع ثقافي مهم لتاريخ المشرق العربي مع شقه الإسلامي والممتد من عهود السلطنة العثمانية إلى الاتحاد والترقي، والحاجة إلى التوقف عند هذه التجربة وأصولها لدى إسلاميي تركيا الحديثة وأسئلة المستقبل عنها وعن جذور الفكرة الديمقراطية مع الشريعة وهل هناك بعد هذه المرحلة ما يمكن أن تنطلق به تركيا لتسمية المشروع الجامع بين الهوية والتشريع والتقدم بالديمقراطية الإسلامية.
ويبقى السؤال المتكرر: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟
فمنذ 1924 تاريخ إلغاء كمال أتاتورك للسلطنة العثمانية وما سبقها من عقود لا يوجد هناك خلاف كبير بين الإسلاميين العرب ونظرائهم الأتراك الذين تبنوا معادلة الإصلاح في السلطنة العثمانية وأقاليمها أو عند أول عهود الاستقلال للأقطار الحديثة بعد احتلال الإمبراطورية البريطانية وفرنسا وإيطاليا أقطارا عديدة من العالم الإسلامي.
فالفكر التصحيحي لتقدم الأمة كان يصعد في كتابات الإسلاميين العرب من عبد الرحمن الكواكبي إلى الشيخ محمد الغزالي المعاصر وبينهما نماذج عديدة من الشخصيات العربية كمالك بن نبي أو الإمام محمد عبده ومصطفى السباعي ويوسف القرضاوي وكُثر بين المشرق والمغرب العربي ليس هذا مقام إحصائهم، وحتى داخل الفكر المشيخي المحافظ كالشيخ محمد الحامد ورؤى عديدة لمشايخ الأزهر قبل تأميم الناصريين له ووضعه تحت التوجيه السياسي فقد كانت الرؤية الإصلاحية قائمة للبحث عن وسائط الإنقاذ من تخلف العالم الإسلامي ودفعه للتقدم الذاتي ومواجهة سلطات الاستعمار بالآلة التعليمية وقوة الوسائط الصناعية والمعرفية للحداثة.
ومن ذلك السؤال الشهير الذي وجهه الأستاذ محمد رشيد رضا ودوّن فيه شكيب أرسلان جوابه في كتيب انتشر في العالم الإسلامي وفتح الباب واسعا للحوار والتفاعل مع هذه المعادلة الحرجة للشرق الإسلامي:
لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟
وهذا السؤال كذلك كان حاضرا في كتاب العلامة والمفكر الهندي أبو الحسن الندوي في كتابه: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين.
إن السياق كان متفاعلا في تركيا من حيث جذور هذه النزعة لدى الإسلاميين الأوائل فيها في آخر العهد العثماني وكانوا يدفعون السلطات بحافز الجامعة الإسلامية والهوية على أن تتبنى مسارات إصلاح دستورية بدلا من أن تفرض عليها في سياق مشروع الغرب السياسي، لكن قضية المصطلح ظلت تمثل حالة تتردد لدى الإسلاميين الإصلاحيين والمحافظين ومواسم خلاف بينهم.
فمن حيث الإرث التطبيقي في تاريخ الإسلام ومصطلحات الفقه الشرعي لا يوجد مصطلح الديمقراطية ولا الحداثة التقنية والمعرفية وإنما توجد إشادة وتخصيص لمراحل التجديد الإسلامي للحياة تقوم بها شخصيات أو أفراد، وتوجد أحاديث ونصوص تدور على محور النص النبوي الشريف "الحكمة ضالة المؤمن أين وجدها" بنص الحديث أو بالمعنى المساند للفكرة، مع أصول شرعية واضحة وجلية لتعظيم العدالة وتجريم الظلم.
لكن مدرسة المقاصد والفقه السياسي للسلف التي كانت غنية في هذه المعاني عانت من إقصاء أو تهميش متعمد لقوة آرائها السياسية وتأثيراتها على هيمنة واستبداد الحاكم طوال الألف عام، أو كانت في دائرة الاستنباط الفرعي الذي لم يَعرِض بتوسع لهذا الفقه السياسي الذي دفع العديد من الأئمة إلى معارضة السلطان حينها لأنه أخلَّ بجانب العدالة في توليه الحكم أو في ممارسته له وهي تضم نماذج كبرى من تاريخ السلف المتقدمين.
وفي جانب الفترة التشريعية الكبرى التي تلزم الأمة للاستفادة من فقهها وهي عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهود الخلفاء الراشدين كان هناك تأسيس لمعنى الشورى وولاية المسلمين على متابعة ونقد حاكمهم بل ورد أمر انتخابه إليهم، لكن في دائرة محددة في أول العهد الإسلامي أقرت ونفذت وسائط الشورى تدريجيا بما يناسب ذلك العصر من خلال تحديد عمر للهيئة الانتخابية الأولى بعد طعنه واشتراطه ألا يُنتخب ابنه.
وهي أصل في رفض التوريث للحكم العام للخليفة المركزي للمسلمين والمواقع التي تليه كالحكم الإقليمي، كما أن اعتناء جملة من علماء السلف بإدراج حكم الحسن بن علي ومعاوية بن يزيد وعمر بن عبد العزيز في حكم الراشدين دون سواهم، يثبت دلالة هذا المعنى السياسي الدستوري، وأما بوابة الحداثة فلها دلالات عديدة في تطوير القضاء والدواوين وعدم تردد المسلمين في ذلك التحديث منذ عهد عمر بن الخطاب حتى المأمون العباسي.
ومع أن هذه المعاني كانت تحت مداولات الإسلاميين وشاركوا من خلالها في الانتخابات الديمقراطية النسبية في مصر وسوريا في الأربعينيات، إلا أن تقعيد هذه التجربة في السياق الفكري الإسلامي المعاصر كان ضعيفا وتجتاحه عواصف الجدل، وهي الصورة التي انتقل منها موقف بعض الإسلاميين والمحافظين للتجربة الديمقراطية من خلال كلمة الأستاذ الإمام بديع الزمان النورسي (نعوذ بالله من الشيطان ومن السياسة) بعد صدمته من أن تلك التجربة لم تكفل الحرية للشعب التركي ولكن نظمت وقننت الاستبداد على الشعب وأطلقت حرية مهاجمة الإسلام لا ممارسته.
حيث كان النظام الجمهوري الأتاتوركي عنيفا في مصادرة ومنع أي ممارسة للقيم الإسلامية من الأذان حتى الحجاب، وفي الوقت نفسه كان يُقدم على أنه نظام برلماني ديمقراطي، وهذا غير صحيح، فقد كان نظاما جمهوريا مستبدا وإن شرع بعض السلوكيات والأدوات الديمقراطية وفتح باب الحداثة، وعليه أعلن النورسي وهو أبو الحركة الصوفية الإسلامية الجديدة في تركيا موقفه من الديمقراطية بعد مشاركته في ذلك النموذج.
وليس لهذه المعادلة أو النظرية السياسية في مسار الديمقراطية وتقنينها للشرق الإسلامي، ولكن للنموذج التطبيقي الذي عاشه معها فرفضه وكافح استبداده ثم حوكم ونفي عبر محاكمة ظالمة لم تكن تتردد في إنزال الأحكام العنيفة ومواجهة الرأي على كل معارض للنظام الجمهوري، وهو نظام جمهوري حديث ولكنه لم يكن ديمقراطيا بل نزع للاستبداد مع التحديثات المدنية للدولة المعاصرة.
ومنذ ذلك التاريخ كافحت شخصيات إسلامية تركية نظام الاستبداد الجمهوري بمفاهيم الديمقراطية الوطنية المدنية التي تنتمي لميثاق وهوية الشرق الإسلامي، قبل وبعد البروفيسور نجم الدين أربكان، الذي تجنب مصادمة الجيش التركي، وهو أحد أهم قلاع العلمانية المتطرفة للعهد الجمهوري المستبد، وفضّل أن تعيد الحركة الإسلامية تأسيس مشاريع بديلة في كل منعطفاتها فيما تحافظ على حياة المدنيين من شعبها ومن مناضليها.
ولذلك يرى كثير من المراقبين أن مرحلة أربكان جزء رئيس من صعود الحركة الإسلامية في تركيا بالمشروع الديمقراطي الجديد الذي يحكم في أنقرة اليوم رغم رفضه وخلافه مع الجيل الجديد بقيادة أردوغان وعبد الله غل، ولذلك سمّاه أردوغان في آخر خطاباته -رئيسا للوزراء- بالنموذج الهام لمشروع تركيا الجديدة.
من هنا يتضح لنا أهمية الوعي التاريخي لمسار المشروع الديمقراطي للحركة الإسلامية في تركيا وقصة الانفتاح على الفقه الإسلامي، من بوابته الواسعة لا من مضايق أزمة العقل الديني وثقافته المحلية التي فاقمت الأزمات في بعض مسارات الوطن العربي وخلقت بؤر صراع مع مجتمع وشخصيات كان من الممكن أن يكونوا طلائع أو شركاء في مشروع الإنقاذ الجديد لأقاليمهم ولأوطانهم وأمتهم.
وهذا لا يعني أن الفكر الإسلامي المعاصر وتجارب المشاريع الإسلامية لدى العرب، لا تعاني من طغيان وبطش وتحالف دولي وعربي وإقليمي، ولكن المقصود ألا تزيد هذه الحركات من عناصر حصارها وقمعها بفقه قاصر واستعداءات متعددة وعواطف سطحية، وغياب للوعي الإستراتيجي والديمقراطية الداخلية، التي ستعزز بطش أعدائها بها وبشعوبها وتمكّن لتحالفات القهر والاستعمار من قبر ربيع الشعوب وأحلامها.