تفكيك منظومات الاستبداد (50): رمضان.. شهر الجهاد والانتصارات
بقلم: د. جاسر عودة
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
بمناسبة اقتراب شهر رمضان المبارك -وفقكم الله ووفقنا
فيه لما يحبه ويرضاه- امتلأت الساحة الإعلامية بكافة أشكالها بحديث عن فضائل رمضان:
شهر الصيام، شهر قراءة القرآن، شهر الصدقات والزكوات، شهر الصلة والمرحمة، شهر العفو
والتسامح، شهر التراويح والذكر. وهذه الأوصاف والميزات كلها صحيحة وعليها أدلة من كتاب
ربنا وسنة نبينا ﷺ وما استقرت عليه أعراف مجتمعات المسلمين عبر الزمان والمكان، ولكننا
لا ينبغي أن ننسى أو نغفل عن صفة أخرى مميزة لهذا الشهر الفضيل، وعُرف من أعرافها له
تاريخ طويل كذلك، وله أهمية خاصة في واقعنا في سياق الحرب على أمتنا في قلبها النابض
في أرض الرباط في فلسطين، ألا وهي: رمضان شهر الجهاد، وشهر الانتصارات الفاصلة في تاريخ
أمة الإسلام.
لا ننسى أن (يَوْمَ ٱلْفُرْقَانِ يَوْمَ ٱلْتَقَى
ٱلْجَمْعَان - الأنفال ٤١)، الذي ذكره الله تعالى في القرآن، هو يوم بدر المجيد (سنة
٢ هـ)، يوم نصر الله المؤمنين المستضعفين وأعزهم بعد ذلة، كان يومًا من أيام رمضان،
وهو نفس اليوم الذي قال تعالى عنه أيضًا: (وَيَوۡمَئِذٖ يَفۡرَحُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ. بِنَصۡرِ ٱلله يَنصُرُ مَن
يَشَآء - الروم ٤-٥)، وكان المجاهدون من المهاجرين والأنصار قليلو العدد والعتاد،
ولكن علم الله ما في قلوبهم، وأراد أن يقضي أمرًا كان مفعولًا، وحانت لحظة التحول التاريخي،
فانتصر أهل الحق والإيمان على أهل الباطل والكفر، وبدأت الحضارة الإنسانية كلها دورة
جديدة بيوم بدر المجيد.
ولا ننسى أن فتح مكة (سنة ٨ هـ): (إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّه وَٱلۡفَتۡحُ.
وَرَأَيۡتَ ٱلنَّاسَ يَدۡخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفۡوَاجٗا - العصر
١-٢) - كان أيضًا يومًا من أيام رمضان، وشأنه في تاريخ الإسلام لا يخفى.
ولا ننسى أن المعارك الكبرى التي فصلت بين مراحل تاريخية
مفصلية في تاريخ أمتنا كانت في رمضان. لا ننسى معركة القادسية (سنة ١٥ هـ) في رمضان،
ورضي الله عن قائدها سعد بن أبي وقاص ومن كان معه من القادة والجند، وهي من المعارك
الفاصلة بين المسلمين والفرس آنذاك، وفتح الله على أهل الإسلام فتحًا تاريخيًا مبينًا.
ولا ننسى أن فتح الأندلس كان في رمضان (سنة ٩٢ هـ)،
ورحم الله القائد الخالد طارق بن زياد حين خطب خطبته التاريخية التي كان منها: (أيها
الناس، أين المفر والبحر من ورائكم والعدو أمامكم؟ فليس لكم والله إلا الصدق والصبر،
واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مآدب اللئام، وقد استقبلكم عدوكم بجيشه
وأسلحته، وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم غير سيوفكم، ولا أقوات لكم إلا ما تستخلصونه
من أيدي أعدائكم .. وإني لم أحذركم أمرًا أنا عنه بنجوة، ولا حملتكم على خطة أرخص مبتاع
فيها النفوس إلا وأنا أبدأ فيها بنفسي) .. فانتَصَروا، وكانت بداية لحضارة إسلامية
من أجمل وأرقى الحضارات التي عرفتها الدنيا.
وكان فتح عمورية في رمضان (سنة ٢٢٣ هـ)، وكانت من
هزائم الروم الكبرى أمام المسلمين، وبدأ القتال فيها استجابة لاستغاثة امرأة مضطهدة
للخليفة آنذاك المعتصم: ”وامعتصماه“، فاستجاب، وانتصر المسلمون انتصارًا تاريخيًا عظيمًا،
فهل من ”معتصم“ مجيب اليوم لمثلها من استغاثات الحرائر التي تعالت؟
وكان تحرير بيت المقدس من الصليبيين بمعركة حطين أيضًا
في رمضان (سنة ٥٨٤ هـ، على الراجح)، وقاده القائد الخالد صلاح الدين الأيوبي الكردي
الذي بدأ وزيرًا في الدولة الفاطمية، ولكنه استطاع أن يعيد صياغة تلك الدولة الفاسدة
من الداخل، وينهي حكم الجبروت والبدع والخرافات، وتناسى المسلمون آنذاك العرقيات والمذهبيات
والحميّات، وتوحدوا خلف راية واحدة -تمامًا كما ندعو أن يفعلوا هذه الأيام مع دولهم
ووطنياتهم وتحيزاتهم وراء الأشخاص لكي يواجهوا صليبيّي عصرنا-، وكانت نقطة تحول تاريخية
أخرى مجيدة في تاريخ أمتنا.
ومعركة عين جالوت المجيدة (سنة ٦٨٥ هـ) كانت في رمضان،
حين جمع المصريون أمرهم -أخيرًا- من أجل مواجهة مغول عصرهم -كما ندعو اليوم أيضًا أن
يفعلوا لكي يواجهوا مغول عصرنا-، ونقّوا صفوفهم من النفاق والمنافقين، وكتب سيف الدين
قطز اسمه بأحرف من نور في تاريخ هذه الأمة، ولمّا كُسر المغول في مصر كان اندحارهم
عن بقية أرض الإسلام مسألة وقت.
ولا ننسى معركة رمضانية أخرى خاضتها بعض الجيوش العربية
المعاصرة -شهدها وشارك فيها جيل ما زال حيًا اليوم- كانت في رمضان من عام ١٣٩٣ الهجري،
الموافق لعام ١٩٧٣ الميلادي، حيث كانت النية الغالبة على الجنود والقادة الميدانيين
هي نية الجهاد في سبيل الله وتحرير المسجد الأقصى، والنداء الغالب المسموع هو نداء
”الله أكبر“، اللهم إلا ما كان من الساسة في تلك الحرب، فالساسة هم الساسة، والسياسة
هي السياسة! ولذلك لم تستكمل جيوش العرب تلك الحرب حتى النصر الكامل للأسف، بقرار سياسي.
وبعد، ليت شعري هل آن الأوان لكي تستعيد هذه الأمة
أمجادها في رمضان من عام ١٤٤٦ هجرية؟ هل آن الأوان لكي يتغلب في قيادات جيوشها العربية
والإسلامية أهل الإيمان على أهل الخيانة؟ هل يعلو صوت الجهاد المتوكل الواثق على صوت
النفاق المتخاذل الخائف؟ هل تنتصر حمية الدين على حميات الجاهلية؟ هل يُتخذ قرار الاصطفاف
مع المجاهدين الأبطال المقاومين في فلسطين في مقابل الاصطفاف مع الأعداء الملحدين الملاعين؟
ندعو إلى ذلك ونتمناه، ولو أننا ندرك أيضًا سنة الله
تعالى الغالبة، وهي: (إنَّ ٱلله لَا يُصْلِحُ عَمَلَ ٱلْمُفْسِدِينَ - يونس ٨١)، فالأيدي
التي تلطخت بدماء وأعراض ومصائر وحريات أفضل وأشرف وأنبل من أنجبت هذه الأمة من علمائها
ومجاهديها وقرّائها ومثقفيها وشعرائها وفاعلو الخير فيها وشبابها الحر وفتياتها الماجدات،
لا يمكن لنفس الأيدي أن تبايع الله ورسوله ﷺ على الموت في سبيل الإسلام والدفاع عن
المقدسات. لن يحدث.
ولكن، هل يقوم الشرفاء الأخفياء في الجيوش العربية
والإسلامية من الصفوف الخلفية كما قام قطز ثم بيبرس، ونور الدين ثم صلاح الدين، وغيرهم؟
هل يقوم من حالهم كحال مؤمن آل فرعون فيستلموا راية الجهاد قبل فوات الأوان؟ اللهم
نسألك هذا، إنك على ما تشاء قدير، وأنت حسبنا ونعم الوكيل. (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى
أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ - يوسف ٢١).
رمضان كريم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحوظة: جميع المقالات
المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء
المسلمين.