مع الصلابي.. مسير حتى السحر!
كتب: أ.د. فضل بن عبد الله مراد
الأمين العام المساعد للاتحاد العالمي
لعلماء المسلمين
رجعت وقد كاد الليل أن يلج في ثلثه الثاني
وكنت في دورة علمية مكثفة طويلة لنخبة من علماء
المسلمين في فقه المصارف الإسلامية.
لقد قررت أن أقرأ كتاب صديقي مؤرخ الإسلام العلامة
علي محمد محمد الصلابي. عن يونس بن متى عليه السلام.
ولم ينعس لي جفن حتى أنهيته سحرا رغم التعب.
لكن آثرته مع ذلك لتجربة لي مع كتب الشيخ التي قربت
قصة الحضارة الإنسانية، وقادتها الأنبياء والمرسلين وإعادة عرضها بشكل تجديدي.
في عصر تهرع اللوبيهات الشيطانية إلى صناعة قيادات
وقدوات لتقديمها للأجيال قدوة وأسوة.
ومقصودهم من تسويق هذه المصنوعات الكرتونية من
القيادات إضلال الجيل والشباب وتدمير الأسرة والمجتمع.
لهذا خلّد القرآن أعظم القيادات وأجل الشخصيات التي
اختارها الله تعالى في النص القرآني، وقدمها للعالم.
والمقصد الشرعي من هذا أن نتخذها معلما للقيادة
والأسوة والمثل الأعلى للأخلاق والفضيلة والصبر والإيمان والإصلاح في الأرض.
إن أعظم طرق النهوض الحضاري بالأمة تتمثل في الكشف عن
قادة الحضارة الإنسانية المصطفين الأخيار حياتهم دعوتهم أخلاقهم إيمانهم استثمارهم
وفهم لسنن الله علاقتهم مع الله وخلقه عمارتهم وإصلاحهم الأرض.
لقد ذكرها الله -سبحانه- لنا في القرآن الخالد الذي
لا يأتي الباطل من بين يديه ولا من خلفه لنعلم بها العالم، ونوجه بها الأمم، ونفتح
بها القلوب، ونجادل بهداها وحواراتها المبطلين، فمن أراد منطق المناظرة والحوار
وفنونه، فهذا هو ومن أراد الشخصيات القيادية التي نهضت بالعالم وأنقذت البشرية
فهؤلاء هم.
من رام الأخلاق والقيم وفلسفتها فهي هنا
من قصد فهم الحياة، وسننها بعمق وبصيرة ليستثمرها في
الاستخلاف، فهذا هو المهيع الوحيد والحصري فقط.
لقد خدم شيخنا علي الصلابي هذا الجانب، وسد هذا
الفراغ في هذا الكتاب وإخوته في الموسوعة.
وفي سفراتي التي أدعى لها من أماكن شتى في العالم
لدورات علمية مكثفة ألفيت هذه الموسوعة هنا وهناك إما تدرس، أو تقرأ بالعربية، أو
مترجمة، سواء في حلقات الدعوة والعلم، أو التلفاز، أو وسائل الإعلام.
إن هذا وربي هو التوفيق والسداد من عند الله.
أن تبذر بذرة لله، ثم تتركها لله يتولاها.
ولأنك بذرتها لله خالصة، فإن من أخلصت له، وقصدته
العالم بسريرتك هو من يتولى تلك البذرة فتكون كما ذكر سبحانه: (حبة أنبتت سبعة
سنابل في كل سنبلة مئة حبة والله يضاعف لمن يشاء)
اترك ما علمته لله وحده، لا تنتظر ثناء الناس ولا
جزاءهم، ولا تبتغ منهم شكورا.
هنا يتولد التأثير، ويتكاثر ويتضاعف مسحا وعمقا.
حين تقرأ كتاب الشيخ في يونس ابن متى -عليه السلام-
وتتنقل في أفيائه الباذخة… تجد سلاسة الكلمة وعمقها في الوقت نفسه.
وجمع هذه الأمور ليس سهلا على الكاتب. إنما هو توفيق
الله وما وهب لعبده في ذلك.
لقد تواصل بي الشيخ علي، وهو يكتب هذا الكتاب، وحدثني
عن عظمة التسبيح وما فيه من الأسرار، وها أنا أقف على أسراره في جنبات هذا النص
المحرر.
لقد حملني ما قرأت في هذا السفر من أسفار الشيخ أن
أعيد النظر والتأمل في قصة يونس، وانظر من خلال الكتاب وتحليله للنص من أبعاد
وزوايا مختلفة، فظهر من الفوائد والاستنباطات من
خلال القراءة التحليلية لما ساقه الشيخ من الدلالات اللغوية والتفسيرية فمنها:
* إن قصة يونس
تتلخص في عظمة الدعاء، وفي خصوصية ذلك الدعاء الذي دعا به
* وفيه:
قدرة الله المطلقة الذي يقول للشيء كن فيكون.
* وفيه:
أن على المؤمن يذكر الله على كل أحواله وظروفه وخلواته وجلواته وأزماته وحياته
كلها.
* وفيه:
ملازمة الصلاة والتسبيح على قدر وسعه في التكليف، سواء كان المكان معدا للصلاة، أم
لا كان عاديا أم اضطراريا فيه ماء الوضوء أم لا علم القبلة أم لا.
وكانت هذه حال يونس عليه السلام.
* وفيه:
عظيم قدر الصلاة والتسبيح، فقد أخرج الله بها يونس من أخطر سجن بحري متنقل
لا يقدر عليه أحد، ويستحيل أن يعيش فيه أحد لولا لطف
الله به.
وقد أطنب الشيخ في موضعه في الكتاب في ذلك.
* وفيه:
أثر العمل الصالح في النجاة حتى ولو كان الشخص من الأنبياء المرسلين فالعمل الصالح
الخاص مطلوب لدفع المصائب والخروج من الأزمات والمحن.
* وفيه:
عظمة الدعاء بدعاء ذي النون.
وفيه: أن لكل داهية
مقاما خاصا من دعاء خاص لدفعها، فليس كل دعاء يؤثر في دفع كل المصيبة المعينة، بل
دعاء مخصوص.
* وفيه:
قدرة الله المطلقة في التصرف في الكون ومخلوقاته برا وبحرا، فكلها تسير وفق أمره.
* وفيه:
أن المكلف لا يترك الدعوة لعدم حصول الأثر؛ لأن الأثر على الله وما عليه إلا
البلاغ المبين.
* وفيه:
عدم جواز اليأس من لطف الله ورحمته، ولو كنت في بطن حوت مفترس لا نجاة منه عادة
فضلا أن تكون في سجن أو شدة؛ مما جرت به الحياة.
* وفيه:
لزوم الدعاء حتى مع انعدام الأسباب إلى مستوى المعادلة الصفرية والاستحالة الظاهرة.
فمن في بطن حوت كيف ينجو ومع ذلك لزم يونس الدعاء
والصلاة والتسبيح.
ودعا زكريا ربه، وقد وهن عظمه، وعقرت وعجزت امرأته،
ولا تلد عادة في هذا السن ومع ذلك لزم الدعاء بالولد في سن يمتنع عادة لكن الله لا
يعجزه شيء.
* وفيه:
أن سلسلة النسب لا قيمة لها، فهذا النبي لا نعرف ولا أحد الآن آباؤه كما حقق ذلك
الشيخ في نسبه في هذا الكتاب، وذكر أنهم اختلفوا كثيرا في ذلك لهذا إنما يقال له
يونس ابن متى.
فالأنساب ليست من القيم الاعتبارية عند الله بل
الأعمال.
* وفيه:
جواز أن يلقب الإنسان بما يعرف به، ومنه لقب يونس -عليه السلام- ذو النون -أي
الحوت العظيم- وصاحب الحوت.
* وفيه:
أن الغم يصيب حتى الأنبياء، فينجيهم الله منه بالدعاء.
* وفيه:
أن السجن غم كيف وهو في بطن حوت في ظلمات المحيط، وقد جمعت هذه الغموم ليونس -عليه
السلام- حتى بلغ حد الكظيم وهي شدة الغم وكثرته.
* وفيه:
سرعة استجابة الله لدعائه إذ عقبها بالفاء، فاستجبنا له فهو دليل على عظمة ما
دعا، وعلى عظيم لطف الله وامتنانه.
* وفيه:
أن الله ينجي المؤمنين بشيئين بدعائهم وإيمانهم والإشارة في كذلك ننجي المؤمنين أي
بالدعاء الخاص من المؤمن.
وعلى كل حال ففوائد القصة كثيرة لمن تأمل وتدبر.
فعليك بهذا المورد العذب الزلال.
مع تأمل وتفكر وتمعن تزيده هداية وفتوحا.