لم يتوقف الحراك الثقافي ولا حوارات الرأي العام في الوطن العربي عند معنى اختتام تجربة تولي سدة الحكم لأحد أبرز نماذج رموز الوعي الفكري العربي الجديد وهو د. المنصف المرزوقي.
من أسباب هذا التجاهل كون التجربة حديثة التاريخ، ولكن هناك أسباباً أخرى كطبيعة العصف السياسي وجدله في التقييم، وظاهرة الفوضى في النقاش الثقافي العربي التي تزامنت مع مشروع اغتيال الربيع العربي، فاتحدت على الانغماس في وحل صراع النكبة السياسية والدموية، وغضّت الطرف عن معنى الوقوف أمام نقاط إشعاع للنجاح الثقافي العربي الجديد.
إن ما نعنيه بختام تجربة المنصف المرزوقي في تولي الحكم ليس انتهاء كفاحه السياسي الذي قرر تدشينه من جديد، وسواءً أثمرت حركته أم انتهت إلى ذوبان -لأي سبب كان- فستظل تجربة المنصف المرزوقي بصمة معالم مهمة، فالشخصية التي تجاوزت مرحلة الشباب منذ مدة ظلت فاعلة في مدار الكفاح للدفاع عن مفهوم الحريات والتقدم المدني وحقوق الفرد على مستوى الوطن العربي والقطر التونسي، فكانت كتابتها دفق فكر وحبر مهما للغاية.
لكنها اليوم تُعاد قولبتها في إطار مهم، وهو أن صاحب النظرية النضالية قد مارس العمل السياسي وتقلد السلطة المحاطة بالشهوات، ثم انتقل بسلاسة -ودون تردد ودون إقامة مجالس مجاملات ولا مناحة لختام تجربته السياسية- ليعود إلى صفوف العمل الشعبي والخطاب الثقافي. ففي التاريخ الإنساني -لا العربي فقط- هناك حشد من التجارب التي سقط فيها المثقف وانتقل إلى بأس الدكتاتورية بعد أن كان منظراً أو كادراً في حراك الحريات، وخاصة في المنظومة اليسارية التي يخلق فيها المنصف المرزوقي ظاهرة جديدة اليوم.
إن سجل المرزوقي المالي والحقوقي -كأول رئيس للجمهورية التونسية الثانية- يعزز هذا المعنى في النجاح، لكنه جزء من ممارسة تُعتبر أحد معالم إعلان المرزوقي ظاهرةً ثقافيةً جديرةً بالاحتفاء والاعتناء، فالمرزوقي أثبت بالفعل أن قدومه من المهجر كان ضمن هدف محدد يخدم الشعب في ربيعه، وليس نزوة اقتسام ولا احتكار. كما أن وجوده في مركز الحكم مثّل توازنا صعبا وقاسيا، عبرت به تونس بشخصيته التي تعاملت مع تنازلات النهضة الوطنية وصلف خصومها من اليسار المتطرف أو قوى إرث الرئيس بن علي المصلحية، بالقوة المرنة.
وما نقصده بالقوة المرنة هو أن الدفع كان شديدا لنقض مجتمع تونس التوافقي بعد انتفاضته المدنية عبر استنساخ النموذج المصري ودمويته، فحيّد المرزوقي هذا المدار من موقعه الرئاسي، في حين شجّع النهضة على التنازل دون أن تُقهر مؤسسات الربيع التونسي، بل مارست هي ذاتها هذا الانتقال الذي على الأقل سلّم البلد آمناً مطمئناً في عهدة ديمقراطية، ولن يُكلّف مستقبلاً بالمسؤولية عن نقضها حين يبطش بها ورثة الرئيس بن علي، فمهمته سلامة المجتمع والعملية السياسية وتعزيز فرص بقائها سلمياً عبر التوافق الشعبي إذا قُدّرت له العودة السياسية.
هذا هو الملف البارز للممارسة السياسية في الحكم للمفكر المنصف المرزوقي، وعليه فهي أحد أركان مشروعية إطلاق سمة الظاهرة على ما مثله المرزوقي للتاريخ العربي الحديث. ومؤكد أن للرئيس السوداني الأسبق عبد الرحمن سوار الذهب، وللرئيس الموريتاني الأسبق اعلي ولد محمد فال مبادرات في التنازل الطوعي للحق الشعبي في السلطة، ولكن هنا يُمثّل واحد من معالم المرزوقي إضافة إلى تقشفه غير الدعائي الذي استمر في الحكم حتى العودة إلى مقاعد شارع الشعب.
المرزوقي بين يسارين
المتابع لكتابات المنصف المرزوقي منذ 2003، يدرك تماما نموذج التجديد الذي يقدمه في رحلة اليسار القومي العربي المثخن بفواجعه الذاتية من شراكة حكم أشقائه الفكريين القوميين العرب، أو من أزمة الصراع الثقافي في داخله التي جعلته رهناً لمواسم استثمار عابرة أو مستنسخة، لإصراره الدائم على مصارعة المكون الإسلامي في الضمير الثقافي العربي، وهو ما جعل اليسار القومي مطية لأنظمة الاستبداد النفطي أو القومي، أو ضحية لصراخه وزجره للمجتمع: لماذا يظل الإسلام عامل حضور وهوية فيه؟ وهنا لا نقصد الصراع مع الخطاب الديني الملتحف بالنظام أو التخلف والجهل أو داعش المدنية، بل مشكلته مع مجمل الروح الإسلامية في المشرق.
هذا هو اليسار الأول، وقد بات اليوم اليسار التقليدي الذي خرج المنصف عليه بصورة واضحة فكراً وثقافة قبل أن يُمارس العمل السياسي الحاكم ويستجيب للربيع التونسي، فاخترق المرزوقي الحصار النفسي البائس الذي يطوق به اليسار جمهوريته العقلية، وانفتح -في كتاباته وتنظيراته- على معاني الفكر الإسلامي غير المُصادَر حزبياً والوعي الذاتي فيه لمضامين الحريات وتوازن الدولة المدنية، مع فكر الفضيلة وأخلاقيات الفرد والسلوك.
وأدرك أن هذه الرحلة الروحية ليست جزءا تراثياً فقط كما يصر على ذلك القوميون، بل هي نقلة تاريخية للمشرق الإنساني عبر الشرق العربي حين تبنّى بلاغ هذه الرسالة، فجدلية نزعه منها ستظل واهية منذ تحالف الاستعمار وجزء من ماكينة العلمانيين العرب وحتى تحالف هذه الماكينة مجدداً مع الاستبداد العائد على جثمان الربيع العربي.
ففي مقالات عديدة كان خطاب المرزوقي يُدرك هذه العلاقة، ويكسر قاعدة التردد في فهم الرسالة الإسلامية كمكون وشريك للمشروع الجديد للحلم العربي، ليس رهنا لجمود فقهاء ولا نزوة جماعات ولكن اعترافا برسالة قدّمت ثورة روحية وفكرية اقترنت بروح العرب منذ أكثر من 1400 عام.
أمّا اليسار الثاني فهو ما يُمكن أن يُطلق عليه اليسار الفوضوي الذي انتشر في الخليج العربي وفي مصر، ربما كردة فعل مُنفَعِلة على خطاب ديني قاهر للفرد وحريته، أو لتحالف هذا الخطاب مع مشروع الاستبداد السياسي قبل أن يتحوّل هذا التحالف إلى حالة شكلية لم تحمِ كثيرين تقاطعوا مع هذا الخطاب في حملة اغتيال الربيع العربي.
كما أن جزءا مهما من تشكل موقف اليسار الفوضوي -الذي اُستخدم خطابه في مصر بفاعلية للتحضير لـ"30 يونيو" وغيرها- هو أزمة تحويل الخلاف مع كل ما هو إسلامي إلى موقف صراع وتخندق بين طائفتين، ويستشعر على الدوام أن السخرية من المثقف الإسلامي هي جزء من دلالة الوعي أمام قبيلة اليسار الفوضوي، الذي لم يُقدم -وبالإحصاء المؤكد- رصيدا كفاحيا للربيع العربي يبلغ عُشر ما حصده القمع من معتقلات وأرواح الإسلاميين.
هذا اليسار الفوضوي انشغل -في توتر دائم- بالسخرية من فروع الفقه والتشكيك في قضايا الجوهر، ومكافحة أي فكرة تشرح مضامين الفكر الإسلامي المعتدل، في حين شكّل فكر المرزوقي قاعدة وعي ثقافي ليسار أو مسار ثقافي عربي مستقل، يَعبُر كل هذا الضجيج من اليساريين ويصنع فارقا بل وفريقا حيويا، يتعامل باعتراف معتبر مع الإسلام ويرفض أن يكون جزءا من سمفونية الصراع أو استدراج المثقف لمناكفة الإسلاميين لصالح الاستبداد.
ولا نستطيع أن نُطلق على ظاهرة المنصف المرزوقي أنها النسخة العربية من اليسار اللاتيني الجديد، فهناك أبعاد مختلفة ومتفقة، لكنه يُقدم مشروعاً فكرياً جديداً توافقت فيه الفكرة مع التجربة.
ولذلك تعتبر رسالة المنصف المرزوقي -بين هذين اليسارين وفي سجل الكفاح التحريري للإنسان العربي- ظاهرةً جديرةً فعلا بالدراسة في برنامج تشكُّل أو صناعة الوعي العربي الجديد الذي يعيش حالة مخاض كبيرة، لكنّها تبقى في مدار رصده الصامت.
وفي يوم ما سيتذكر ماذا تعني له كعربي شخصية جمعت الفكر وشملت الفرقاء وقادتهم فكراً وسياسة لنهضة وطن ضد الاستبداد، ووقعّت في تاريخ سجلها العربي.
المصدر : الجزيرة