رمضان المبارك 1446هـ..
و«طوفان الأقصى»
بقلم: أ.د. وصفي عاشور
أبو زيد
عضو الاتحاد العالمي
لعلماء المسلمين
من المسلَّم به تاريخياً أن رمضان شهر انتصارات؛ فعلى حين يعد كثير من الناس
رمضان شهراً للراحة والدَّعة، وتقليل ساعات العمل، وتقليص المهام، وترك الأعمال الثقيلة
لما بعد رمضان، وإشغال النفس بالأعمال الخفيفة، رغم قيام الناس بذلك وبخاصة المسلمون؛
فإن التاريخ سطَّر لنا انتصارات المسلمين في رمضان.
فقد رأينا غزوة «بدر» الكبرى التي تحول
بها تاريخ المسلمين، وكانت في 17 رمضان 2هـ، وفتح مكة (20 رمضان 8هـ)، ومعركة القادسية
(رمضان 15هـ) بقيادة سعد بن أبي وقاص، وفتح بلاد الأندلس (رمضان 92هـ) بقيادة طارق
بن زياد، ومعركة الزلاقة، وهي في جنوب دولة إسبانيا حالياً (رمضان 479هـ)، ومعركة عين
جالوت (رمضان 685هـ) بقيادة السلطان المظفر قطز، والقائد العسكري المتمرس بيبرس، وموقعة
حطين (رمضان 584هـ) بقيادة القائد العظيم صلاح الدين الأيوبي.
ثم حرب 6 أكتوبر 1973م (10 رمضان 1393هـ)،
وفيها تمكنت القوات العربية المسلمة من الانتصار على القوات الصهيونية الغاصبة، فعبرت
الجيوش العربية قناة السويس، وحطمت أسطورة الجيش «الإسرائيلي» الذي لا يُقهر، وهدموا
بحمد الله «خط بارليف».. حتى جاءت معركة «طوفان الأقصى».
معركة «طوفان الأقصى»
وظلت الأمة العربية المسلمة ما يقرب من
نصف قرن؛ حيث تركت الجهاد وتبعت أذناب البقر، وتبايعت بالعينة، فكتب الله عليها الذل؛
مصداقاً لما أخرجه أبو داود، والطبراني، وغيرهما بسندهم، عن عبدالله بن عمر أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: «إذا تبايعتُم بالعِينةِ وأخذتم أذنابَ البقرِ، ورضيتُم بالزرعِ،
وتركتمُ الجهادَ، سلَّطَ اللهُ عليكم ذُلًّا لا ينزعُه حتى ترجعوا إلى دِينِكم»(1).
رمضان شهر
انتصارات.. بدر وفتح مكة والقادسية والزلاقة وعين جالوت وحطين والسادس من أكتوبر
ظلت الأمة نصف قرن من الزمان تاركة الجهاد
في سبيل الله، ومتبايعة بالعينة، بل بالربا الصريح وما تزال، حتى قامت ثلة مباركة في
بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، فعن أبي أمامة الباهلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: «لا تَزالُ طائفةٌ مِن أُمَّتي على الدِّينِ ظاهرينَ لعَدوِّهم قاهرينَ، لا يَضُرُّهم
مَن خالَفَهم، إلّا ما أصابَهم مِن لَأواءَ حتى يَأتيَهم أمْرُ اللهِ وهم كذلك»، قالوا:
يا رسولَ اللهِ، وأين هم؟ قال: «ببَيتِ المَقدِسِ وأكنافِ بَيتِ المَقدِسِ»(2).
قامت هذه الثلة بغسل هذا العار، وبالنيابة
عن الأمة في مراجعة دينها، فتصدت للعدو الأشرس في تاريخها؛ ذلك العدو الذي رسم لنفسه
صورة القوة التي لا تُقهر، والجيش الذي لا يُغلب، والترسانة النووية التي لا يمكن لأحد
أن يفكر في مواجهتها والوقوف أمامها؛ فضلاً عن جهادها وتمريغ أنفها في التراب، وإساءة
وجهها أمام العالم كله.
قامت كتائب المقاومة في 7 أكتوبر 2023م
بما أعاد للأمة توازنها، وجدّد صلتها بعقيدتها وإيمانها، وعزز صلتها بكتاب ربها وسُنة
نبيها، وأعاد لها الوعي العميق بتاريخها وحضارتها، ووثق ثقتها بنفسها، وصحح لها كثيراً
من المفاهيم التي كانت راكدة مدة نصف قرن، بل كانت مغلوطة على كثير من المستويات وفي
عدد من المجالات.
مجموعة من الجنود لا يتجاوزون 1500 جندي
مجاهد، خرجوا جميعاً لم يتخلف منهم واحد حين فاتحتهم القيادة في الأمر، خرجوا من تحت
الأرض إلى سطحها، وضربوا العدو ضربة أصيب معها بالدوار، وما يزال لم يفق من آثار هذه
الضربة، بل أصيب العالم المتصهين في مقتل، فأجلب بخيلِه ورَجِلِه، وماله وعتاده، وزياراته
ودعمه المادي والمعنوي، وأنفق مئات ملايين الدولارات على العدو، ولكن صدق قول الله
تعالى في هذا كله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ
عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ
وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) (الأنفال: 36).
الأمة ظلت
نصف قرن تاركة الجهاد حتى قامت ثلة مباركة ببيت المقدس فتصدت للعدو الأشرس في تاريخها
يقول الشيخ عبدالرحمن السعدي: «أي: فسيصدرون
هذه النفقة، وتخف عليهم لتمسكهم بالباطل، وشدة بغضهم للحق، ولكنها ستكون عليهم حسرة؛
أي: ندامة وخزياً وذلاً، ويغلبون فتذهب أموالهم وما أملوا، ويعذبون في الآخرة أشد
العذاب، ولهذا قال: (وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ)؛ أي:
يجمعون إليها، ليذوقوا عذابها، وذلك لأنها دار الخبث والخبثاء»(3).
رمضان في ظل الطوفان
لقد مر على معركة «طوفان الأقصى» رمضان
واحد، وفلسطين والأمة في هذه المحنة الشديدة التي تجسدت فيها منحٌ، وظل المجاهدون مرابطين
على ثغورهم، وشعوب المسلمين يتجاوبون مع هذا الجهاد المبارك بقدر استطاعتها لولا تكبيل
يدها بكوابح الاستبداد ومنع النصرة، فحشدت الأمة ما استطاعت، وجمعت من الأموال ما قدرت
عليه، وتضامنت على قدر طاقتها في ظل ما تحياه من حدود «سايكس بيكو» التي فرقت الأمة،
وأقامت الحواجز والجدران للحيلولة دون أن يكون مفهوم «الأمة الواحدة» تجسيداً عملياً
على الأرض.
وفي هذا العام (رمضان
1446هـ) وقد بدأت الهدنة، وبدأ تنفيذها على الأرض، فما الواجب علينا في ظل ما عشناه،
وما نراه اليوم؟
إن واجبنا أن نقوم بطوفان جديد، من نوع
آخر؛ فإذا كان المجاهدون قاموا بطوفان مسلح، مثَّلوا فيه الأمة خير تمثيل باستخدام
سلاحهم، وتقديم أرواحهم ودمائهم، وبذل عذاباتهم ومعاناتهم، وما يزالون، فإنه من الواجب
علينا أن نقوم بطوفان آخر، وهو طوفان العون والإسناد، طوفان القيام بواجب المؤازرة
والمعاونة والمساندة، وتجسيد ما أخرجه البخاري، ومسلم، بسندهما، عن عبدالله بن عمر
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المُسْلِمُ أخُو المُسْلِمِ لا يَظْلِمُهُ ولا يُسْلِمُهُ،
ومَن كانَ في حاجَةِ أخِيهِ كانَ اللَّهُ في حاجَتِهِ، ومَن فَرَّجَ عن مُسْلِمٍ كُرْبَةً،
فَرَّجَ اللَّهُ عنْه كُرْبَةً مِن كُرُباتِ يَومِ القِيامَةِ، ومَن سَتَرَ مُسْلِمًا
سَتَرَهُ اللَّهُ يَومَ القِيامَةِ»(4).
إنْ كان
المجاهدون قاموا بطوفان مسلح فإنَّ من الواجب علينا أن نقوم بطوفان آخر وهو العون والإسناد
إن غزة تنادي المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها،
بل تنادي البشرية كلها أن يقوموا بواجبهم الإنساني نحو غزة المحطمة، التي لم يترك فيها
العدو بناء قائماً، وإنما خربها ودمرها وجعلها أطلالاً، وإن لم يقدر على تحطيم قوة
الإيمان، ورابطة الإسلام، ومعاني العزة والجهاد التي رأيناها على منصات تبادل الأسرى؛
روحاً وثابة، وعزة شامخة، ومغالبة للقرح الذي أصابهم، لكنه لم ينل من قوة إيمانهم،
وصلابة دينهم.
غزة اليوم تحتاج إلى الإسناد والإعمار والعون
والتأييد؛ لأننا سنشهد في الأيام القادمة تجديداً لهذه المعركة مرة أخرى –كما يبدو
من ممارسات العدو وتصريحاته ومعاونيه– ولهذا فالواجب علينا أن نكون سنداً لهم وعوناً
لقضيتنا وقضيتهم، وألا نخذلهم أو نُسْلمهم؛ فإن لهذا أثره في دفعهم للأمام، وفي تقوية
عزمهم، وإشعارهم بأن لهم إخوة لن يتركوهم، ولن يُسْلموهم، وهذا مما يشد أزرهم ويقوي
بأسهم في مواجهة هذا العدو، والدال على الخير كفاعله، ومن خلَّف غازياً في أهله بخير
فقد غزا، والمؤمنون إخوة، والله في عون العبد ما كان في عون أخيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر
عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.
* مراجع
(1) أخرجه أبو داود (3462)، والبزار (5887)، والطبراني
في مسند الشاميين (2417)، ابن تيمية، بيان الدليل (109): إسناده صحيح.
(2) أخرجه أحمد في مسنده (22320)، وقال الأرناؤوط: صحيح
لغيره.
(3) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (3/
618)، طبعة دار ابن الجوزي.
(4) صحيح البخاري (2442)، وصحيح مسلم (2580) باختلاف
يسير.