البحث

التفاصيل

رمضان: شهر المصالحة مع الذات العريقة

الرابط المختصر :

بسم الله الرحمن الرحيم

رمضان: شهر المصالحة مع الذات العريقة

كتبه: أ.د. عبد الرزاق قسوم

عضو مجلس أمناء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

أكرم بها من أيام؛ إنها أيام معدودات تحل علينا كل سنة مع شهر رمضان، فتغير نظام حياتنا، وتبعث بنا في رحلة جديدة نحو حياة روحية، تنعش طاقتنا الفكرية، وتنظم نبضات قلوبنا على وضع القرآن والأذكار النبوية.

فبعد سنة من الرتابة والجمود، ووسط بيئة يطبعها الخمود والركود، يهل علينا رمضان، ليعلن فينا ثورة الخصوبة والنماء، وليسمو بنا من الركون إلى الأرض، إلى التعلق بأحكام السماء.

يقلع المذنب عن الضياع في عالم التائهين بلا شراع، ويقدم على تطهير القلب، وإعداد النفس بحسن التلقي، وإحداث القابلية للطاعة والا تباع.

كل شيء في حياتنا يتغير، فسيدة البيت تقبل على غسل الجدران، وتغيير الألوان، وتطهير كل شيء استعدادا لرمضان.

والمكتبات، والمؤسسات، والمنشئات، كلها تعلن حالة طوارئ، لإعادة تنظيم التصالح مع الرواد، والزوار، وكل المقبلين عليها، لمواءمة أنظمتها، في محاولة لبعث النشاط العلمي والفكري، وإنعاش الأفكار بالمسابقات، والمنافسات، إكراما لشهر المبادرات.

وهكذا، وبدل أن يقض المسلم منا يومه "نائم"، وليله "هائم"، ها هو يعيش يومه "صائم"، وليله "قائم".

سبحانك اللهم، جعلت من رمضان، عكس بقية الأيام، شهرا، يعلو فيه الذكر، وينتعش فيه الفكر، فيعم القرآن البيوت والأرجاء، ويزدهر سوق الإقراء والقراء.

إنه شهر المصالحة مع الذات العريقة، التي تعيد الجميع إلى عمق الانتماء، وإلى تحسين خط السلوك والاقتداء، وإعادة بناء المجتمع المسلم الإنساني النموذج، والمثالي النماء، والإخاء، والوفاء، والصفاء.

ليت كل أيامنا تغدو أياما رمضانية، ففي رمضان تصفد الشياطين من كل جنس، ويحل بدل ذلك التضامن، والتعاون، والإحسان، والأنس.

فمن مزايا رمضان –كما يجب أن يكون- أن يقل جشع التجار، والمحتكرين للدينار، وأن تنخفض الأسعار، ويغيب الاحتكار، حتى يتنفس المعوزون، والمستضعفون، والمحرومون مما يعانوه من أضرار.

وعلى عكس ما يفهمه خطأ، بعض محدودي الثقافة الدينية، فإن رمضان هو شهر الفتوحات الإسلامية، في المشرق والمغرب، وشهر الجهاد بامتياز، كما أثبت ذلك حديثا مجاهدو نوفمبر في الجزائر، ومجاهدو القسام في غزة وفلسطين.

بل إن الصيام رابط مقدس، يجب أن يربطنا بعدالة السماء، فيبعث فينا الإيمان الصحيح بالعزة، والكرامة، ويحررنا من ذل العبودية لغير الله.

بالصيام ينزل الحاكم إلى معاناة المحكومين، فيحس بما يلاقونه من شظف العيش، وهول التقلبات، فيلين قلبه، ويرق شعوره.

وتؤكد الإحصائيات أن المجتمع الإسلامي، في شهر الصوم، تقل فيه الجريمة، وتنتعش فيه المصالحة الكريمة، فيكثر التزاور، ويعم التشاور، إعدادا واستعدادا لمعجزات ليلة القدر، وسموا بالنفوس إلى عيد الأفراح، والخروج من الأحزان والأتراح.

إن في الصيام تحقيقا لغايات وأهداف ومقاصد نبيلة، لو أن المسلمين تدبروا حقا فلسفة الصوم.

ففي ثنايا الصوم، يدرك المتأمل لمقاصده، أن الصوم سمو بالإنسان، من بهيميته البشرية التي تسود بالأكل، إلى إنسانيته المثالية التي تتحقق بالصوم.

فبالصوم نتعلم قوة الإرادة التي تشحذ عزيمتنا، فتجعلنا نعلو عن الغرائزية التي سببها الأكل، إلى الإنسانية العليا التي تتولد لدينا بالصوم، الذي نتميز به عن باقي البهائم.

نحن المجتمع المسلم الصائم، نكون في شهر رمضان أشبه ما نكون بمجتمع الملائكة، كما أننا ندرك بالصوم، ما نستفيده من حِمْيَةٍ نستلهمها من الحكمة الإسلامية "صوموا تصحوا".

كما أن الصوم هو الذي استنبط منه بعض القادة العقلاء من غير المسلمين، كزعيم الهندي غاندي، الذي استخدم الصوم –وهو غير المسلم- للمصالحة مع شعبه، وتوحيد صفوفه ضد الانجليز، فقال عنه الكاتب الجزائري ابن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الأستاذ أحمد توفيق المدني، قال عن غاندي: "رجل يصوم وأمة تنقاد".

وفعلا انقادت أمة الهند، بصيام غاندي، ضد الاستعمار الانجليزي، وعلى نفس المنوال سار زعماء المقاومة في كل مكان، وخاصة في السجون، الذين استخدموا الصوم كمنهج بامتياز، فولدت حكمة "المقاومة بالأمعاء الخاوية"، كما حصل في السجون الإسرائيلية، على أيدي المقاومين الفلسطينيين.

كل هذا يقودنا إلى الاستنتاج بأن الصوم هو حقا شهر المصالحة مع الذات العريقة، بكل أبعادها الأفقية والعمودية، وذلك هو المقصد الأسمى من فلسفة الصوم في الإسلام.


: الأوسمة


المرفقات

التالي
رمضان شهر قيام الليل
السابق
آدم عليه السلام: بداية الخلق بين الوحي والعلم (فيديو)

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع