البحث

التفاصيل

الكُليّات الجامعة والطاقات الدافعة في السبع المثاني

الرابط المختصر :

الكُليّات الجامعة والطاقات الدافعة في السبع المثاني

بقلم: د. عطية عدلان

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

لكي نفهم فاتحة الكتاب فهمًا يستخرج كليّاتها الجامعة وطاقاتها الدافعة؛ لا بدّ أن ننطلق من هذا الحديث القدسيّ، الذي هندس طريقة التأمّل فيها على هذا النحو: ‌«قَسَمْتُ ‌الصَّلَاةَ ‌بَيْنِي ‌وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، قَالَ اللهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، قَالَ اللهُ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، قَالَ الله: فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي، وإِذَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قَالَ الله: هَذه بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} قَالَ الله: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ»، ومن الواضح من خلال هذا التقسيم الهندسيّ لمعاني الفاتحة أنّ آية (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) تتوسط الفاتحة، وأنّها قسمة بين الله تعالى وعبده، فما قبلها تحميد وتمجيد لله؛ ترتب عليه أن يتوجه العبد إلى ربه بالعبادة والاستعانة، ثم الدعاء بالهداية والرشاد.

الكُليّات الجامعة في السبع المثاني

تتميّز السبع المثاني بأنّها تنطوي على الكليات الجامعة لهدايات القرآن، ففي فاتحة الكتاب كليات ثلاث، ليست هي جميع ما في الفاتحة من كليّات، ولكنّها الكليّات العظمى، الأولى: الربوبية، الثانية: الألوهية، الثالثة: المنهج المسلوك في التعامل مع مقتضيات الربوبية والألوهية، كلّيّة الربوبية تمدّ جذرها المتين في آية: (الحمد لله ربّ العالمين)، ثمّ تتجلّى بمظاهرها ومشاهدها وآثارها في جميع آيات الربوبية، التي تحدثنا عن الخلق والرزق والإنعام والرعاية والعناية والتصريف والتدبير والمِلْك والسيادة، وكليّة الألوهية تضرب بجذريها في آية: (إيّاك نعبد وإيّاك نستعين)، ثمّ تنسرب في ثنايا الكتاب العزيز بكلّ تجلّيات التوحيد والتوكل وجميع معاني وصور العبادة الكامنة في كلمة الإخلاص (لا إله إلا الله)، وكليّة المنهج المسلوك تتشابك جذورها في: (اهدنا الصراطَ المستقيم صراطَ الذين أنعمتَ عليهم غيرِ المغضوبِ عليهم ولا الضالين)، ثم تتشعب في طول القرآن وعرضه تقعيدًا وتشريعًا وتأصيلًا وتفريعًا، هذا هو المثلث العظيم الناظم لجميع الحقائق، شرعيّها وكونيّها على السواء، وبحسن التصور لهذا المثلث، وبجودة الفهم لما بين زواياه وأضلاعه من علاقات، ينضبط فهمنا لدين الله ولشريعته، ولسائر العلوم، ويتحول العلم بكافّة أفرعه إلى نهر جار متدفق منتظم، لا جداول متشاكسة متعاكسة؛ وهذا أعظم دور تؤديه أمّ القرآن.

فربوبية الله تعالى لخلقه ولعباده هي الأصل الكبير لفهم الدين ولفهم أسرار الكون، ولفهم طبيعة العلاقة بين الله وعباده، وهنا تَعِنُّ كليّتان تكتنفان هذه الكليّة العظمى، الأولى: استحقاق الله للحمد والثناء، كأصل لعلاقة العباد بربهم (الحمد لله)، والثانية: رحمة الله الواسعة كأصل لعلاقة الربّ بعباده (الرحمن الرحيم)، ثمّ تأتي كلّيّة متوسطة بين الربوبية والألوهية، وهي كلّية (المسئولية)، وإنّها – وربِّي – لكليّة ذات شأن وخطر، ولولا أنّها بين جبليّ (الربوبية والألوهية) لَبَدَتْ ضخامتها، ولولا أنّها مترتّبةٌ عليهما ومتفرعةٌ عنهما لبدت وكأنّها عمود فسطاط الخيمة، هذه الكلّية تنطلق من آية: (مالك يوم الدين)، ثم يمتدّ نهرها على استقامته وتمتدّ تفاريعه عن يمينه وشماله، حتى يكاد القرآن لا يتحدّث إلا عن يوم الدين، يوم الحساب، الذي يتفرد الله تعالى بالْمِلْك والْمُلْك فيه، ويتعلق بأهداب الكلية العظمى الثالثة كليّة المنهج المسلوك كليّات أصغر منها وزنًا، لكنّها أكثر تفاعلًا واحتكاكًا، الأولى: أنّ الهداية بيد الله تعالى، الثانية: أنّ الطريق المستقيم هو طريق الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدقين والشهداء والصالحين، الثالثة: أنّ الذين حادوا عن الصراط فريقان، الأول: جَهِلَ الحقَّ بسبب إعراضه عن طلبه فَضَلَّ، والثاني: عَلِمَ الحقَّ فَتَنَكَّبَهُ عنادًا وإعراضًا فغضب الله عليه، الأول مثاله النصارى والثاني مثاله اليهود.

الطاقات الدافعة في السبع المثاني

وفاتحة الكتاب مفجرةٌ للطاقات الوجدانية الكبرى في الكيان الإنسانيّ، والمحور الذي تدور حوله كلّ هذه الطاقات هو هذه الآية المحورية: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، إنّها الآية التي توسطت الفاتحة معلنة دينونة المسلم لله بالتوحيد الخالص، توحيد العبادة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) وتوحيد التوكل (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، من هذا الموقع في قلب الفاتحة تنبثق قوتان من قوى الدفع المتوازن: (الانكسار والافتقار)، فطاقة الانكسار تتفجر من (إياك نعبد)، الانكسار والخضوع والخشوع، وطاقة الافتقار من (إياك نستعين)، الانكسار واللجأ، وحول هذا المحور تدور الطاقات الكبرى التي تفجرها أمّ القرآن في وجدان الإنسان، فالبسملة تفجر طاقة التعلق الدائم بالله، التعلق الذي يورث الشعور الدائم بحاجة العبد لربه، وعدم استغنائه عنه في أيّ لحظه، وتبركه المستمر باسمه سبحانه، ودورانه الدائم في كل ما يأتي ويذر حول اسم الله، والحمد يفجر في القلب طاقة التعظيم والإجلال والتوقير لله تعالى، ومن (الرحمن الرحيم)، من هذين الإسمين من الأسماء الحسنى الدالين بوجوه مختلفة على صفة الرحمة الثابتة لله تعالى، تتفجر طاقة الرجاء، وعلى التوازي مع طاقة الرجاء تمضي طاقة الخوف والخشية المنطلقة من (مالك يوم الدين).

فإذا تحرك الإنسان بهذه الطاقات الروحية الوجدانية الشعورية؛ فسوف يدرك الهداية بشقّيها، الهداية المعرفية والهداية العملية، سوف يهتدي إلى الصراط المستقيم معرفة وعملا، وسوف يندفع فيه وراء الذين أنعم الله عليهم بالهداية من قبله، وسوف ينجو ويسلم من مصير أولئك الذين لم يعلموا الصراط المستقيم لأنّهم يفرون منه ولا يريدونه (الضالين)، ومن مصير الذين علموا الصراط المستقيم فتنكبوه رغبة عنه وإعراضا واستنكافًا (المغضوب عليهم)، هذه الهداية التي ينالها المسلمون الموحدون ولا ينالها المغضوب عليهم ولا الضالون، هذه الهداية التي يمنحها الله لمن يستحقها ويمنعها ممن لا يستحقها، هذه الهداية وهذا الصراط المستقيم، وهذه الجملة المتسقة من الحقائق الدائرة حول الهداية والصراط المستقيم، هذا المنهج المسلوك الذي يتسنم رأس مثلث قاعدتاه الربوبية والألوهية، يُعَدُّ الكلية العملية الجامعة لكلّ ما اشتمل عليه الكتاب العزيز من تشريعات وقوانين وأحكام ونواميس وأخلاق وآداب، وغير ذلك مما يرسم بتفصيل طريق الهداية وسبيل الاستقامة ودرب الفلاح ومنهج الحياة، وباجتماع الكليات والطاقات تكون الفاتحة جامعة لعلم جميع الكتب كما جاء في الأثر، والله أعلم.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.


: الأوسمة


المرفقات

السابق
رمضان شهر قيام الليل

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع