يعتقد بعض الناس أن العلامة يوسف القرضاوي لم يجرؤ على انتقاد النظام السوري ونظام حسني مبارك والنظام المخلوع في تونس، إلا بعد قيام ثورات الربيع العربي، ولكن هذا ليس صحيحًا. فيا أيها القارئ الحبيب، ليس كل ما لا تعرفه يكون معدومًا وغير موجود، بل لا بد من التعمق في القراءة والاطلاع لمعرفة الحقيقة، حتى تتبين أن الشيء كان موجودا من قبل، ولكنه كان مجهولا لمن لا يعلمه فقط.
عندما قرأت صفحات من مذكرات الشيخ القرضاوي في أجزائها الثلاثة الأولى، التي نُشرت قبل أن يبدأ الربيع العربي بفترة طويلة، اكتشفت أشياء جديدة لم أكن أعرفها. فقد كتب الشيخ في مذكراته عن معاناته في السجون المصرية، وكيف أنه سجن مرتين وعُذِّب، وعلى الرغم من ذلك كله لم يذعن لهم. وكان الشيخ القرضاوي مطلوبًا من نظام جمال عبد الناصر، ولكن رفضت قطر تسليمه، ثم سُحِبَ منه الجواز المصري، وبعد فترة أعطته قطر جواز سفر قطريا، حتى يتمكن من السفر إلى المؤتمرات والندوات العالمية. وكان الشيخ القرضاوي يُوقَف مُدَدًا طويلة في مطار القاهرة أيام حسني مبارك، قبل أن يتم السماح له بالدخول، كلما أراد زيارة مصر في إجازاته الصيفية.
وكتب في مذكراته كيف أنه رفض الإلحاح المصري من أعلى المستويات بأن يظهر في برنامج ديني على التلفزيون الحكومي، قائلًا لهم: إنه لا يقبل أن يقوموا بتحسين صورتهم به، ناصحًا لهم إن أرادوا فعلًا تحسين صورتهم، فلا بد لهم من إخراج المعتقلين من السجون، وإيقاف المحاكمات الظالمة، وإفساح المجال للإخوان المسلمين للعمل بحرية، وإيقاف الخلاعة والمجون التي تظهر على التلفاز، وأن يسمحوا للإعلاميات المحجبات بالظهور.
كما كتب الشيخ القرضاوي في مذكراته أنه كان ممنوعا من دخول سوريا، فدخلها أول مرة متخفيا باسم "عبد الله المصري"، ودخلها مرة ثانية- بعد سنوات- باسمه الحقيقي، ولكن باعتباره سائحًا قطريًّا وليس داعية إسلامي، ولم يسمح له بدخول سوريا باعتباره داعية إسلاميا حتى عام 2003، حيث سُمِح له بحضور مؤتمر إسلامي.
وكتب الشيخ في مذكراته أيضا انتقاده لحزب البعث في سوريا، واصفا إياه بأنه حزب ظالم وطاغٍ، وأنه حزب لا علاقة له لا بالصلاة ولا بالمسجد.
قرأت ذلك في الأجزاء الثلاثة الأولى من المذكرات، والتي نشرت- كما قلت- قبل الربيع العربي بفترة طويلة.
وكان الشيخ القرضاوي يرفض دخول العراق أيام حكم حزب البعث، وذلك رفضا منه للظلم والبطش والقهر، الذي كان يمارسه ذلك النظام، فكان لا يذهب للمؤتمرات التي تقام في العراق، كما وقف الشيخ القرضاوي بحزم ضد احتلال صدام حسين للكويت، وكان موقفه واضحًا في خطب الجمعة، وبالإمكان أيضًا الرجوع إلى موقفه من تلك الأحداث في كتابه الرائع "فقه الجهاد".
وفي الجزء الرابع من مذكراته، والذي نُشِر في 2011 نشر فيه الشيخ القرضاوي رسالته المفتوحة الشديدة اللهجة التي وجهها إلى حسني مبارك عام 1990، ونبهه فيها على المظالم التي تقع في مصر، وكتب الشيخ في نهايتها أن الله سبحانه وتعالى قد انتقم من فرعون الكبير، فما بالك بفرعون صغير؟!
وقد رأيت بنفسي الشيخ القرضاوي وهو يهاجم النظام المصري بقوة من فوق المنبر في خطبة الجمعة، أيام بناء ما يعرف بالجدار الفولاذي بين مصر وقطاع غزة. وما زال بالإمكان الرجوع إلى تلك الخطبة على يوتيوب تحت عنوان: "القرضاوي خطبة الجمعة 01-01-2010 الجدار الفولاذي".
كما سمعته في برنامج الشريعة والحياة على قناة الجزيرة وهو يقول بأن الواجب الشرعي على مصر أن تقاتل دفاعًا عن غزة، والحلقة بفضل الله موجودة على يوتيوب تحت عنوان: "رد الشيخ القرضاوي على فتوى الأزهر".
كما رأيت الشيخ القرضاوي في خطبة الجمعة التي بثتها فضائية قطر على الهواء مباشرة- أيام فضيحة غولدستون- وهو يقول من فوق المنبر: لو صحت الإتهامات الموجهة إلى رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، فإنه لا يستحق الإعدام فقط، وإنما يستحق أن يرجم. وما زال بالإمكان الرجوع إلى هذا الفيديو في يوتيوب تحت عنوان: "العلامة الشيخ القرضاوي والرد على محمود عباس".
كما انتقد الشيخ القرضاوي أيضا النظام في تونس والنظام العلماني في تركيا (في ذلك الوقت) في كتابه "التطرف العلماني في مواجهة الإسلام: تونس وتركيا نموذجا" والذي صدر قبل الثورات العربية بمدة طويلة.
ولقد قرأت في إحدى فتاوى الشيخ القرضاوي (التي نشرت عام 2006، أي قبل ثورات الربيع العربي بسنوات) أنه ذكر ثلاثة طرق لتغيير المنكر باليد في هذا العصر إن كان ذلك المنكر من جانب الحكومات، وذكر الطريقة الثالثة وهي قوة الجماهير الشعبية العارمة، فقال بالحرف: "قوة الجماهير الشعبية العارمة التي تشبه الإجماع، والتي إذا تحركت لا يستطيع أحد أن يواجهها، أو يصد مسيرتها؛ لأنها كموج البحر الهادر أو السيل العرم، لا يقف أمامه شيء، حتى القوات المسلحة نفسها؛ لأنها في النهاية جزء منها، وهذه الجماهير ليسوا إلا أهليهم وآباءهم وأبناءهم وإخوانهم". وبالإمكان الرجوع إلى هذه الفتوى من خلال موقعه على الإنترنت www.qaradawi.net تحت عنوان "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر".
ورأينا الوقوف الشجاع للشيخ القرضاوي ضد الإحتلال الأمريكي للعراق وأفغانستان. وللدلالة على مدى صلابة وشجاعة موقفه من الإحتلال الأمريكي، أرجو الرجوع إلى خطبة الجمعة التي خطبها الشيخ القرضاوي في 14 مارس 2003م، وتلك الخطبة منشورة في الجزء السادس من كتاب "خطب القرضاوي"، كما يمكن الرجوع إلى تلك الخطبة على يوتيوب تحت عنوان: "الإمام القرضاوي: لا أخاف الاغتيال بل أتمنى الشهادة ختامًا لحياتي".
أما ما يقوله البعض من أن الشيخ القرضاوي كان يقابل الزعماء العرب بالمودة والثغر الباسم، فإن ذلك كان من باب النصح لهم، وليس من باب التزلف والنفاق وطلب الدنيا والمناصب، فالشيخ القرضاوي لم يترك كلمة حق يجب أن تقال لحاكم إلا قالها، وكان له مواقف مع القذافي (قبل الربيع العربي) شهد بها تلاميذه الحاضرون، ومنهم الشيخ عصام تليمة، وسجل الشيخ تلك المواقف في مذكراته.
كما رأينا كيف أن الشيخ القرضاوي حفظه الله وقف وقفة عالم يخاف على أمته، عندما طاف مع أخوانه العلماء في الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين (والذي يرأسه الشيخ القرضاوي) على الزعماء العرب أيام حرب غزة 2009، لينصحوا الحكام بأن يقوموا بواجبهم تجاه غزة، ورأينا كيف أن حسني مبارك لم يستقبلهم.
وسمعت الشيخ القرضاوي أيضا في إحدى حلقات الشريعة والحياة وهو يتكلم عن تلك الجولة ويعقب على زيارة العلماء إلى الزعماء العرب قائلا:
لقد أسمعت لو ناديت حيًّا ولكن لا حياة لمن ينادي
والبعض يعترف بذلك كله، ولكنهم يزعمون أن الشيخ القرضاوي لم يجرؤ قط على انتقاد سياسة قطر، ولكن ذلك ليس صحيحا، فعدم علمهم بالشيء لا يعني عدم وجوده، ولكن يعني عدم اطلاعهم. فالشيخ القرضاوي انتقد قطر على استضافتها لبيريز المجرم، فعندما قام أمير قطر بمصافحة بيريز، قام الشيخ القرضاوي على المنبر في خطبة الجمعة في العاصمة القطرية الدوحة، والتي يبثها التلفزيون القطري وأيضا إذاعة قطر على الهواء مباشرة، قام بانتقاد قطر على هذه الاستضافة، وقال بصوت عال: على الذين صافحوا بيريز أن يغسلوا أيديهم سبع مرات إحداهن بالتراب. كما انتقد قطر على استضافتها للقواعد الأمريكية، وانتقد ذلك أيضا في لقاء أجرته معه قناة BBC. وبالإمكان الرجوع إلى هذه الحلقة في يوتيوب تحت عنوان: "الشيخ القرضاوي يدين وجود القواعد الأمريكية في قطر". ويمكن الرجوع إلى رأيه عن القواعد الأمريكية الموجودة في الخليج في كتابه فقه الجهاد، والذي صدر قبل ثورات الربيع العربي، كما انتقد قطر على استضافتها لليهود في مؤتمر حوار الأديان وقد قاطعه الشيخ القرضاوي لذلك السبب.
وقد كتب الشيخ القرضاوي (قبل ثورات الربيع العربي) أكثر من كتاب في الرد على الفكر العلماني، وتلك الكتب هي: الإسلام والعلمانية وجها لوجه، التطرف العلماني في مواجهة الإسلام.. تونس وتركيا نموذجا، بينات الحل الإسلامي وشبهات العلمانيين والمتغربين، أعداء الحل الإسلامي، الحل الإسلامي فريضة وضرورة، الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا.
كما كتب الشيخ (قبل ثورات الربيع العربي) أكثر من كتاب في علاقة الدين بالسياسة وفي مفهوم الدولة الإسلامية المنشودة، ومن تلك الكتب: الدين والسياسة، نحن والغرب، الإسلام والعنف، الأمة الإسلامية حقيقة لا وهم، درس النكبة الثانية، من فقه الدولة في الإسلام، غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، القدس قضية كل مسلم، وكتابه الموسوعة "فقه الجهاد".
وقبل أن تبدأ الثورات العربية كان الشيخ القرضاوي– وما زال– ممنوعا من دخول عدد من الدول، وتلك الدول هي: أمريكا وبريطانيا ودول الاتحاد الأوربي، والإمارات.
تلك هي مواقف شيخ الإسلام يوسف القرضاوي من قبل أن تبدأ ثورات الربيع العربي، وما زال الشيخ على ذلك المنهج الرباني لم ولن يتغير، قال تعالى: {الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا} (سورة الأحزاب، الآية 39).
فحتى بعدما بدأت ثورات الربيع العربي ثبت الشيخ القرضاوي على مبدئه وعلى دينه، فلم يبع دينه بعرض من الدنيا كما فعل آخرون، ففي بداية أيام الثورة السورية حاول الشيخ من خلال خطب الجمعة التي كانت تبث على الهواء مباشرة أن ينصح بشار الأسد بالحكمة والموعظة الحسنة فلم يستجب بشار، بل على العكس زاد بشار الأسد قمعًا وإجرامًا، فما كان من الشيخ القرضاوي إلا أن صعد من اللهجة واصفًا بشار ونظامه بما يستحقون من أوصاف.
الشيخ القرضاوي ما زال ثابتا على موقفه ولم ولن يتنازل عن الحق أبدا، ولن يبيع دينه لإرضاء زيد أو عمرو من الناس. وبالإمكان متابعة آراء الشيخ من خلال موقعه على الإنترنت ومن خلال موقع الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وليس من خلال المواقع الصفراء على الإنترنت التي تمتهن نشر الكذب والبهتان والزور.
فبارك الله في الشيخ القرضاوي هذا العالم الجليل الذي أصبح شيخا للإسلام في هذا العصر وما سبقه من العصور.
اللهم احشرنا مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين والعلماء الربانيين، واحشرنا مع شيخ الإسلام يوسف القرضاوي العالم الرباني الذي يقول الحق ولا يخشى في الله لومة لائم، وحسن أولئك رفيقا.
والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.