رمضان: شهر المقاومة والسياحة والاستجمام
كتبه: التهامي مجوري
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
يصعب الجمع بين المقاومة والسياحة والاستجمام، لما بين
معاني هذه الألفاظ من تباعد، فالمقاومة بذل وجهد وعطاء وإيثار، بينما السياحة
والاستجمام، فمتعة، وراحة، وفرح، وسرور.
ولذلك نحن نعيش هذه البثنائية ونمارسها وكأنها كلية
واحدة تجمع بين متباينين، ولكن بصيغة مختلفة عن المألوف، بسبب اختفاء آثار إحداها
في تذوق ثمار الأخرى.
فالمقاومة على فيها من مصاعب ومتاعب، ولكن ممارستها بصقد
حسن ونية صادقة وإيثار طلبا للمثل العليا، تحول تلك الموصاعب المتاعب إلى متعة
وسياحة روحية واستجمام، وراحة ومتعة من سلطان العادة والألفة ومن الشعور بظلم
الظالمين واستبداد المستبدين.
ألا ترون أن الإنسان يأخذ في كل عام عطلة –إجازة- مدفوعة
الأجر لأجل الراحة والاستجمام، ولكنه في ذلك الشهر يعاني معاناة كبيرة، بسبب ما
يخصصه لتلك العطلة من التزامات وإمكانات لما سيلاقي من متاعب السفر والتنقل
والزيارات، بل ويتعب تعبا كبيرا جسديا وماديا...، ولكنه لا يشعر بذلك، بفضل ما يجد
من الراحة والمتعة في ذلك مما لا يراه في سائر الأيام الأخرى.
وشهر رمضان المبارك الذي نستقبله فيقضي معنا شهرا كاملا،
نعيش فيه أياما فاضلة فيها من الراحة المادية والمعنوية ما لا نراه في غيره من
الأيام... لا شك أن متاعب الإمساك عن الأكل والشرب وغير ذلك من المفطرات، ولكن فيه
من المقاومة للنفس الأمارة بالسوء، ما لا يقل أهمية عن مقاومة الشر والظلم
والاستبداد، وكما أطلق على هذا الشهر المبارك الأستاذ مصطفى صادق الرافعي
"شهر الثورة على الشهوات"...
إي والله ثورة على العادة، وثورة على التحكم المادي في
الحياة، وثورة على إملاءات البطن والفرج، وكل ذلك من قوى التحكم التي يغفل عنها
الإنسان في غير هذا الشهر من الأيام... ألا ترى المرء يطلب منه الإمساك عن الشيء،
فلا يستطيع بحكم العادة والألفة، ولكنه في رمضان يترك الشيء الذي تعلق به وأحبه،
بفصل القرار الإلهي (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ
كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا
مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ
أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ
فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ۚ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ
إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة 183-184]؛ بل إن الشائع في عاداتنا الجزائرية
قديما أن شارب الخمر يترك الشرب أربعين يوما قبل رمضان طمعا في قبول صومه، وربما
كان ذلك قياسا على المعاصي التي أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عنها أن ألله لا
يقبل عمل أربعين يوما بسببها مثل معصية السحر...
ذلك هو فعل المقاومة لهذا الشهر المبارك، الذي يمد فيه
الله العباد بقوة غير معهودة... وكما ذكرت لو أن شخصا قيل له إنك قادر على ترك
الفعل الفلاني من عاداتك لما صدق، ولكنه يفعل ذلك في رمضان عن طواعية وطيب خاطر؛
بل يفعل ذلك طمعا في رضوان الله سبحانه الذي وعد عباده الصائمين باجر غير محدود
ولا مُعيَّن؛ لأنه فعل فُعِل لأجله سبحان "كلُّ عملِ ابنِ آدمَ يضاعَفُ: الحسنةُ عشر أمثالها إلى
سبعمائةِ ضِعْف، قال الله عزَّ وجلَّ: إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به، يَدَع
شهوتَهُ وطعامَه من أجْلي، للصائم فرحتان، فرحة عند فِطْره، وفرحة عند لقاءِ
ربِّه، ولَخُلُوفُ فيه أطيب عند الله من ريح المسكِ".
إن جوهر المقاومة في حياة الإنسان يكمن في حضورها
الدائم، وذلك هو المطلوب من كل مؤمن؛ لأنه مطالب بمقاومة الشيطان (إِنَّ
الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۚ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ
لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [فاطر 6]، ومطالب أيضا بالدعوة إلى الخير
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى
الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ
هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران 104]، ومأمور بمخالفة مقاومة جمي المخالفات، وكل
ذلك لمحاربة الضعف البشري أمام المغريات، ومجابهة المعاصي والعادات السيئة بما
يقابلها من الطاعات والعادات الحسنة، ومحاربة الظلم بجميع صوره وفي جميع ساحاته
الخاصة والعامة، وذلك هو جهاد النفس الذي حثنا عليه الرسول صلى الله عليه وسلم
"المجاهد من جاهد نفسه"،
ولعل سر انتصارات المسلمين في جهادهم في التاريخ في هذا الشهر الفضيل والمبارك،
يعود إلى هذا المستوى الرفيع الذي ترتقي إليه نفس المؤمن إلى مستويات أعلى من
الأيام العادية... لا شك أن الصوم بالنسبة للمجاهد ليس كالمؤمن العادي الصحيح
المقيم، ولكن ممارسته للجهاد في تلك الأيام بارك الله فيها وحولها، بفضل انتقال
المؤمن فيها إلى ثائر على شهواته وعاداته المألوف، ومن ثم فلها من المميزات ما ليس
لغيرها من الأيام.
ولكن الطبيعة البشرية أمام مغريات الحياة وجاذبيتها، في
الطريق إلى مواجهة سنن الابتلاء والمدافعة التي هي قانون الله في خلقه، قد يصاب
المؤمن في تلك الطريق وأمام مغرياتها بالغفلة والضعف والتهاون، فيما أوجب الله
عليه من واجبات دينية ودنيوية، فكان هذا الشهر الفضيل مكرمة من الله يتفضل بها
عليها في كل عام، لإيقاظ الهمم وإعادتها إلى طبيعتها المُقاوِمَة، التي ينبغي أن
تكون عليها دائما...، تذكيرا منه سبحانه لهذا الإنسان بالقوى الكامنة فيه والقادرة
على قلب موازين الواقع السلبي الذي يكون عليه، ومهما كان مشتوى رداءته وسلبيته ووقعه
المنفر الباعث على اليأس...، وقد شاء الله لهذه المقاومة أن تكون مثل المتاعب التي
يعانيها المرء في سياحاته واستجمامه الذي يتلقاه وهو في عطلته السنوية كما أسلفنا.
أما السياحة والاستجمام التي يشعر بها الصائم وهو صائم،
فهي راحة حقيقية يحس بها الإنسان، وهو يعاني متاعب مقاومة العادات والمألوفات التي
لا يحدث الإنسان نفسه بتركها في العادة، بل منها ما هو من ضرورات الحياة فيصبر
عليها حينا من الزمن... فيجد الإنسان نفسه غير الذي كان، بسبب تغير العادات التي
تقتضيها عبادة الصوم من ترك للمباحات وغيرها من التروك...
فيتلذذ المؤمن بفضل ذلك الصوم، طعم كل ما يقوم به من
أعمال، ويتذوق روح رمضان هدوءا وطمأنينة وسمو روحي، لا يشعر به في غير هذا الشهر
المبارك...، إضافة إلى العبادات التي سنت في هذا الشهر المبارك مثل صلاة التراويح
والاعتكاف في ثلثه الأخير من العشر الأواخر منه، وما سن الناس كذلك من عادات حسنة
في التكثير من زيارات الأقارب لبعضهم البعض، وما توسِّع به العائلات على نفسها
سرورا بهذا الشهر المبارك احتفاء به... لا شك أن ذلك ليس من العبادات المأمور بها،
وإنما هي من السياحة والاستجمام الذي يشعر به المؤمن، وهو في هذا الشهر فيخصه ببعض
العادات الحسنة، المقررة في الأصل في توجيهات الشارع العامة، فالتوسعة على العيال
مأمور بها وصلة الرحم مأمور بها أيضا، ولكن في هذا الشهر أخذت صورة المتعة والسرور
في شكل سهرات عائلية وزايارات وتبادل التهاني والتبريكات...
فالله تقبل منا منكم الصيام والقيام، وأبقى في نفوسها
روح المقاومة بعده.