د. جميلة تِلوت*
لا يختلف اثنان في أن الشيخ يوسف القرضاوي من أبرز علماء العصر، سواء اتفقت معه أم اختلفت.. مسألة تميزه حقيقة لا يمكن إنكارها..
هو من العلماء المتفردين بحق.. إذا آمن بفكرة، كيفما كانت، فإنه يدافع عنها حتى النهاية ولا يخاف في الله لومة لائم..
عالم يمتلك الشجاعة العلمية.. فكم من الآراء خالف وانتقد.. بل واعتُبر نقده لها مستفزاً في البداية.. وأنا من أولئكم الذين استفزتهم بعص هذه الآراء في مرحلة ما.. ولن يذوق طعم هذا الاستفزاز العلمي إلا من احْتَكَّ بالكتابات التراثية أو المتحفظة المعاصرة، فإما أن يكون ذلك حافزا لمزيد من الاطلاع والحفر المعرفي حتى يتم تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود..
وإما أن تكيل الاتهامات كما فعل البعض ممن ظهر لهم الشيخ القرضاوي بمظهر المتفلت من عقال الشرع أو المتسيب.. كما روج لذلك الكثير من قصيري النظر، بل وألفت كتابات في سبه وشتمه بدءا من العنوان ظنا منهم أن ذلك قمة العلم.. والحال أنها قلة أدب ينزه عنها أهل العلم..
والجميل في الجانب العلمي أن الشيخ لا يفتأ يراجع نفسه ويتراجع عن بعض الفتاوى إذا ظهر له غير ذلك.. وهذه من الأخلاق العلمية التي نحتاجها في زماننا هذا..
وكلمة حق تقال أيضا.. فقد أعاد الشيخ الموازين لعدد من الأحكام الفقهية وانتقدها وحاكمها في ضوء نصوص الوحي ولم يغلب "قيل وقالوا" على النص الشرعي.. بل حتى نظرته للمرأة كانت منفتحة جدا.. وكم انتقد من الفتاوى والآراء التي بخست حق المرأة.. كل ذلك في ضوء الشرع دون إفراط أو تفريط..دون تشدد أو تسيب.. منهج واضح لا يحابي أحدا..
وقد يرى الكثيرون أن آراءَه عاديةٌ.. لكنه نظر باعتبار الواقع المعاصر.. أما حين قيلت هذه الآراء فقد كانت مخالفة للسائد وقتها في ظل عقلية تقدس التراث وتجله في الغالب الأعم..
ولا نخالف في أهمية التراث.. لكن نختلف في تنزيل الحاكمية الحقيقية للوحي وتفعيلها في النظر الفقهي والاجتهادي.. والتنزيل هو محل الخلاف أما التنظير فالكل يقول بحاكمية النص الشرعي.. والقليل من يمتلك الجسارة العلمية لتطبيق ذلك..
كما يمتلك الرجل الشجاعة السياسية كذلك.. فقليلون من يؤمنون بالفكرة ويدافعون عنها حتى الأخير رغم المنغصات.. ورغم الاتهامات.. وقد أثبت التاريخ أن ذوي المواقف هم من يُتهمون في علمهم وعرضهم ودينهم بل وعقلهم أيضا..
وهذا لا يعني أن حقل السياسة محل القواطع والمطلقات.. فهو مجال الصواب والخطأ بلا خلاف.. ومحل تضارب الأنظار.. ولا تكاد تتفق العقول على رأي واحد.. فحتى وإن اتفقت في فهم النص، فإنها تختلف في فهم الواقع، هذا بالإضافة إلى الخلفيات التي تؤطر كل ناظر والتي توجه في غالب الأحيان فهمه للنص والواقع على حد سواء..
لكن رغم هذا الاختلاف فقد كان الرجل مناهضا لكل سفاك أثيم.. فالدماء لا خلاف في حرمتها.. مهما أبدع المؤولون صنوف التفسير والتبرير والتسويغ تظل رائحة الدم تنسف كل ذلك.. ومهما تم الاتفاق مع الشيخ في بعض مواقفه السياسية أو الاختلاف معه..
فمن الواجب التنويه بثباته على مبادئه وشجاعته ورساليته وحرقته وهمه بل وجعله الأمة أولى همومه- واسألوا مقرَّبيه تتأكدوا..وقد فعلتُ- هذا بالإضافة إلى مواقفه التي لا يحابي فيها أحدا.. وجل من لا يخطئ..
وفي الختام.. يظل الشيخ يوسف القرضاوي عالم الأمة بامتياز.. كلمة ارتأيت أن أقولها في حقه وهو حي بيننا.. سائلة المولى عز وجل أن يحفظه ويسدد قوله وعمله..
ــــــــــ
* كاتبة وباحثة – المغرب