والدي -رحمه الله- شخصية مارست العمل السياسي في السفارات، وقبلها وأهم من هذه الممارسة، دراسته في المدارس السلفية، وتمسكه بها، ورعاية ما استطاع من العلماء والمفكرين من ذوي هذا التوجه، عندما كان مسؤولاً في عدد من السفارات في البلاد العربية، وقد وعى من الممارسة السياسية والمدرسة العلمية المزيد من التوازن والحكمة.
ورغم صداقته التي يفتخر بها، وينتمي لمدرسة أصحابها، من أصحاب الفقه والفكر السلفي (الداعين لمنهج السلف، لا السلفية السياسية أو المتسمية باسمها)، أقول: رغم ذلك، إلا أنه كان يعد وجود نماذج من أصحاب الفكر المعتدل، والتوسع في الفهم، والعمق في معرفة قضايا الأمة، مع التمكن العلمي، والأدب والمنهج، ممن يصون بهم المولى الأمة، أياً كانت مدرستهم الفقهية والدعوية.
وسأله عمي يوماً في مجلس عائلي: من ترى يا شيخ حمزة أبرز علماء الأمة اليوم؟ فقال مباشرة: أرى الشيخ عبدالعزيز بن باز، والشيخ يوسف القرضاوي، وأن كلًّا منهما مدرسة لا غنى للأمة عن فهمهما، ودروس حياتهما. وقد صدق -رحمه الله-.
أما الشيخ الإمام عبدالعزيز بن باز، فقد سبق الحديث عنه ، وأما الشيخ الإمام يوسف القرضاوي، فهذا أوان الحديث عنه في شذرات لا توفيه حقه، بقدر ما أسدُّ شيئاً مما في نفسي تجاهه، وحقه في أن يكون في مصاف من أكتب عنهم في حياتهم.
الشيخ يوسف القرضاوي (إمام عصره)، وقد أغناني شيخنا العلامة (عبدالله بن بيه) في ترجمة هذا الوصف عنه، إبَّان كلمة ألقاها في حفل تكريم الشيخ القرضاوي في (إثنينية) الوجيه السعودي: عبدالمقصود خوجه.
ومن كلمة الشيخ (بن بيه) عن الشيخ (القرضاوي)، قوله: "المحتفى به الذي نكرمه الليلة ليس عالماً فقط، وإنما هو إمام .. من هو الإمام؟
الإمام هو المتقدم على غيره، والإمام هو المـُـقتدى به، والإمام هو مَنْ يؤمُّه الناس من كل صوب؛ ليجدوا عنده ما يحتاجون إليه .. بهذه الاعتبارات وبهذه المعايير نعتبر أخانا العلامة الإمام الشيخ: يوسف القرضاوي من أئمة المسلمين، لا نزكيه على الله .. الشيخ القرضاوي هو فقيه -أيضاً- بما في هذه الكلمة من معنى، فقيه عالم بالأحكام، فقيه مستنبط للأحكام، فقيه نفسي، وفقيه واقعي، وفقيه عملي. كل كتبه تشهد على ذلك".
كما أنني أرى عبارة الشيخ (بن بيه) عنه قد لخَّصت مشروع العلامة القرضاوي في الفقه والفكر والسياسة، وذلك في قوله: "إن الشيخ (القرضاوي) ليس من الفقهاء الذين يكتفون بالعلاج النظري لقضايا الأمة الاجتماعية والاقتصادية، بل إنه رجل ميداني، ينزل إلى الميدان العملي والتطبيقي، فيسهم في إنشاء المراكز العلمية، والجامعات، والجمعيات الخيرية.
وخلاصة القول: إن الشيخ العلامة يوسف القرضاوي إمام من أئمة المسلمين في هذا العصر، وشيخ من شيوخ الإسلام في هذا الزمان.
قد توافقه فتقتنع بحجته وبرهانه، وقد تختلف معه فتحترم رأيه؛ لأنه رأي عالم تقي، لا يصدر عن جهل ولا عن هوى، وهما شرطان لا غنى عنهما لتكون للفتوى حرمتها، وللكلمة قيمتها.
وهذان الشرطان جمعهما - فيما أحسب - هذا الإمام".
وفي موضع نفيس آخر يقول الشيخ (عبدالله بن بيه) عنه: "الشيخ يوسف يقول بعض الناس عنه إنه يرخِّص ويوسِّع، وهذا دليل على فقهه، فهو إذا رخَّص ووسَّع يهيئ الضوابط، وإذا ضيَّق وشدَّد يُهيئ المخارج".
لقد وددتُ نقل هذه الكلمات عنه؛ لدقتها ونفاستها وصواب وصفها - فيما أعتقد -، وإلا ففي ذهني ونفسي ما سأقول بعضه، وما سيوفق الله تعالى لقول أكثره في وقت آخر.
ولئن رأى البعض فيما سأقول غلواً في وصف منهجية الشيخ العلمية والفكرية التي غيَّر بها فكر الكثير من أقرانه العلماء والدعاة فضلاً عن عموم التلامذة والمتابعين في كل قارات الدنيا، فهو مما يسوغ طالما كان منضبطاً، مستعيرين كلمات شوقي:
قيلَ غالٍ في الرأي، قلتُ: هَبوهُ
قد يكونُ الغلوُّ شيئاً أصيلا
وقديماً بنى الغُلوُّ نفوساً
وقديماً بنى الغلو عقولا
وكم استنهضَ الشيوخ وأذكى
في الشباب الطِّماح والتأميلا
إنني لا أظن أن عالماً معاصراً - بعد الإمام حسن البنا - كُتبت عنه رسائل علمية عالمية (ماجستير - دكتوراه)، بقدر ما كُتب عن الشيخ القرضاوي، كما لا أظن أنه قد كتب في فكر أحد ومنهجيته مثلما كُتب عنه، وهو في كل ذلك يستحق الإشادة وأكثر، - ولا نزكيه على الله -، ولعل موسوعة (يوسف القرضاوي .. كلمات في تكريمه وبحوث في فكره وفقهه)، والجمع المبارك الذي شارك فيها، والكتابة التي صيغت من علماء الأمة ومفكريها ومثقفيها عنه، لتدلُّ على مكانة الرجل، وعلو كعبه، وحجم دوره في فكر الأمة وترسيخ هويتها.
[2]
إن مما فتح الله سبحانه وتعالى به على الشيخ القرضاوي، أموراً نادرة، ومواهب فريدة، وخصائص جليلة، يمكن الإشادة ببعضها، ومنها:
1- رجل تاريخ ومرحلة: فالشيخ -حفظه الله- عاش عمره المديد، منذ ريعان شبابه في الدعوة، تعلماً وتعليماً. وعاصر مرحلة تكوين الحركة الإسلامية، وما أعقبها من الصحوة الإسلامية، ثم تحولات الأمة، وما صاحب ذلك من تغيرات وتجديدات، عاش ذلك وهو بكامل وعيه، وناضج فكره، وتمام فقهه، وجميل سيره، ترقب ذلك في خطِّ خطبه الأولى، وقصائده ومسرحياته في بدايات عرضها، وكتبه في أوائل نشرها؛ ومشروعاته ومؤسساته منذ إعلانها لترى الموازين الغالبة وثبوتها منهجاً، وتطورها فنَّاً.
ففي الفقه: العمق، والبحث عن الأدلة، والمقاصد، والاجتهاد.
وفي الفكر: الشمولية، والسعة، والربط بالسيرة، والتمحور حولها.
وفي الدعوة: البناء والتكامل، والنقد الهادف، ورسم السياسات والأولويات، والاستقلالية.
وفي السياسة: الوضوح، والحكمة، والحق.
وفي المشروعات: المبادرة، والمأْسَسَة، والإنتاج، والعَصْرنَة.
وفي كل مجال ما يمكن رصده بعمق وتحليل ..
إن (الخَضْرمة) التي عاشها الشيخ يوسف، لم تُحقَّق لأكثر علماء جيله، بل حتى بعض أصدقائه وتلاميذه، وهي فتح من الله وتوفيق، ساهمت في تراكم خبرته، وترتيب مرحلته، وتوجيه رسالته.
وأرى من واجب دعاة اليوم، وشباب الأمة قراءة سيرته ومسيرته التي دونها بيده (ابن القرية والكتاب)، فهي مسيرة حافلة بالعطاء وأعجب العبر، وأبدع الدروس في عوالم السياسة والدعوة والتربية.
2- رجل حرية وقيادة: لقد قادت حرية الشيخ أن يقول رأيه منذ كان قول الرأي في مسائل صغيرة وكبيرة تناله الأقلام بالردود والتشنيع، والألسن بالتوبيخ والتصنيف والتفسيق.
لكنَّ الشيخ مارس حريته في محاضراته، وخطبه، وكتبه، ومبادراته، وآرائه، ومواقفه، واختياراته، وقراراته الحاسمة، ولو خالفت فقهاء وساسة، ودعاة وجماعات وحركات إسلامية.
نعم قد يكون الشيخ - نفسه - رجع عن بعضها، واعتذر عن شيء فيها، ولكنه ظلَّ جبلاً راسخاً، في خطاب لا يتلون، رغم تَغَيُّرِ بعض الأحداث لصالحه!
فهو مع الحق وللحق، لا يهاب، ولا يتزعزع، ومع المنهج يدور معه حيث كان.
زانه في هذه المواقف (هيبة) منَّها الله سبحانه وتعالى عليه بها، (ومصداقية) توشحت قوله وفعله، فكان حضوره، ولقاؤه، موضع احتفاء وانتظار، وتقدير وإجلال، ونهَمٍ وإنصات وانشداه.
وسانده في ذلك فصاحة وبلاغة، وتسلسل في الحديث ومنطق، وفنٌّ في جذب الجماهير، وتحريك مشاعرهم، وإقناع عقولهم.
وقد سمعت له محاضرات وندوات وخطب في عدد من دول العالم، في مجالس وقصور، ومساجد وقاعات، وهو إذا ناقش أقنع، وإذا تكلم أسمع، وإذا دلَّل مَنْطق، وإذا تحمَّس أثَّر، وإذا رقَّ بكى وغيَّر.
وفي هذا السياق أتذكر في إحدى جلسات (المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث) عندما احتدم النقاش حول مسألة (طلاق الهَزْل) بين العَلَمين العلاَّمتين الشيخ: عبدالله بن بيه، والشيخ علي القرة داغي، وشردتْ بعض التعليقات هنا وهناك!
فلمَّا حان وقت نهاية النقاش تحدَّث الشيخ القرضاوي عن رأيه في المسألة، وعرضه القديم لها في كتابه (فتاوى معاصرة) قبل عشرين عاماً من عُمْر الجلسة، ثم داعب الشيخ (بن بيه) قائلاً: أنت يا شيخ عبدالله أحياناً تأخذ برخص ابن عباس، وأحياناً تأخذ بشدائد ابن عمر.
ثم أثنى على الشيخين، وختم بدعاء جامع، ذرفت له العيون، ورقَّت له القلوب، فأقبل الجميع يقبل رأس الشيخ القرضاوي على صنيعه وحسن تأتيه في الموقف، كما أقبل الشيخان (بن بيه) و(القرة داغي) يقبل كل منهما رأس الآخر، ويقر بفضله، وسابق علمه.
ومن المواقف التي تدلُّ على هيبة الشيخ يوسف، ومكانته العلمية، احترام أولي العلم له، مهما بدا الاختلاف بينهم، وقد عرضت لأحد هذه المواقف المؤثرة في روايتي (سلفي في الكافيه): " حضرَ ذاتَ يوم لفندق (الأنتركونتيننتال) بمكة، أثناء فعاليات أحد المجالس الفقهية للمجمع.
وقد حصلت سخونة علمية في اللقاء، كان فرسانها في المنصة الشيخ عبدالعزيز بن باز، والشيخ أبو الحسن الندوي، والشيخ يوسف القرضاوي.
وكلما استشهد أحدهم بحديث استشهد الآخر بحديث آخر، وكلما استنبط أحدهم مفهوماً استنبط الآخر دلالة أخرى، وطال الحوار بين قولٍ لفقيه، واستشهادٍ لغوي من بيت شاعر أو تقعيد تأصيلي...
وعندما ختم الشيخ بن باز الجلسة، نزل الجميع لصالة الغداء، وسأل الشيخ بن باز -رحمه الله- قبل البدء، أين الشيخ القرضاوي؟
قالوا: لم نره، ربما ذهب لأمر ما، فلنبدأ نحنُ ويدركنا.
قال الشيخ: بل ننتظره حتى يأتي، وبقي العلماء وأعضاء المجمع ينتظرون الدقائق المتتالية، والطعام دونهم، لم يبدأوا تأدباً!!
واستمر هذا الحال حتى قيل للشيخ بن باز: سيبرد الطعام، والقوم ينتظرونك. قال الشيخ: لا، حتى يأتي الشيخ القرضاوي!
وبعد قرابة نصف الساعة، حضر الشيخ القرضاوي، فقال المقربون: هيا يا شيخ، قل للناس: (تموا، الله يحييكم). فقال الشيخ: أين هو؟ فاقترب الشيخ القرضاوي، فأمسك الشيخ بن باز -رحمه الله- بيده، وقال: أهلاً بالشيخ العلاَّمة!"
ومن (هيبته) و(رسوخه)، أنه لم يكن له أن يمشي على الأرض إلا قائداً.
فهو مُقدَّم وفي الصفوف الأولى منذ مراحل مبكرة من عمره، وقيادته للأمة في الفقه والفكر كان قبلها وبعدها سرٌّ رباني في التوفيق.
وإلا فبأيِّ تفسير تصل كتبه إلى كل أنحاء العالم، بل بعضها في صدر المكتبات في أوروبا، وفي محاريب بعض المساجد في الصين؟!
وبأيِّ تفسير تلْقى القبول في مشرق الأرض ومغربه قبل عصر الفضائيات والاتصالات، ويُختار لإمامة الصلاة على العلامة "أبو الأعلى المودودي" في باكستان؟!
وبأيِّ تفسير تحسب له الدول حساباً، ويَلقى وهو بمكانته العلمية جل حكَّام العرب، ويستقبلونه، ويحسنون وفادته، وهو يوجههم للحسنى، وربما قَسا على من بغى منهم؟!
وبأيِّ تفسير كان له الدور البارز، والإرشاد الظاهر في قيادة عدد من المنشآت الإسلامية، والمؤسسات الخيرية، والاقتصادية، وعمادة الكليات والهيئات الشرعية، والمجامع الفقهية، في العديد من قارات العالم؟!
[3]
3- رجل رسوخ وعمق: افتح أي كتاب من كتبه؛ لتجد بشكل غالب وظاهر، عمق الكتابة، ورسوخ الفكرة، جامعاً حول الموضوع الذي يكتب فيه ما يصعب حصره في كتاب، مع تعقيبات وتصويبات، وفوق ذلك لمسات من جمال الأسلوب، ودقة التحرير، ووسطية الخطاب، وواقعية التوجيه.
نعم قد يجد المتخصص ما قد يعترض على الشيخ القرضاوي في نتيجة ما وصل إليه، واهتدى لفهمه، لكنه لا يشكُّ أنه يزاوج بين عين النص وعين المقاصد، ويبحر في شواهد النقل، مع واسع الفهم.
وهذه المنهجية يجدها من قرأ له في الفقه، مثل (فتاوى معاصرة - فقه الجهاد - أحكام الطهارة، ...)، أو حتى في الفكر، مثل (ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده، السياسة الشرعية، ...)، بل حتى في موسوعة الطريق إلى الله، مثل (التوبة، الزهد، ...).
إن المتأمل المدقِّق في كل ما مضى ليجد بوضوح أن الشيخ لم يكتب ليذوِّق كتابته بواسع النقول، بقدر ما هو يقنِّن المسائل، ويضعها في نصابها بعد طول بحث، وعمق فهم؛ ليصل بذلك إلى كليات الإسلام ومقاصده الكبرى.
ومن هذه الغزارة، يمكن القول إن الشيخ (يوسف القرضاوي) هو من أوائل من هَنْدس (فقه الأقليات)، وضبط معالمه، وبنى قواعده، سانده في كل ذلك مخزونه المعرفي في الأحكام والمقاصد، وخبرته الطويلة، وفهمه لطبائع النفوس.
لذا لا غرو أن يدرس العشرات من كبار علماء العصر اليوم هذه الحالة (القرضاوية المقاصدية)، ويشيدوا بها، بفلسفة ودراية، ولعل من أواخر وأعمق ما كتب عن الشيخ القرضاوي في هذا المعنى: مبحث في كتاب (من أعلام الفكر المقاصدي) للشيخ المقاصدي الفقيه د. أحمد الريسوني. ومبحث في كتاب (السياسة الشرعية عند أعلام الفقهاء المعاصرين)، وهو رسالة دكتوراه في (جامعة مكة المكرمة المفتوحة)، للدكتورة: هند لرضي، بإشراف د. أحمد الريسوني، ومن قبلها فقيه الدعوة الأستاذ محمد أحمد الراشد في مبحث من كتابه (أصول الاجتهاد التطبيقي). وسواهم ممن إذ سنحت الفرصة عرضت لـ (ببليوغرافيا) بأعمالهم المهمة عن الشيخ القرضاوي، ومشروعاته.
وأظنُّ أن للشيخ فتوحات وترجيحات لم يُسبق إليها، كما في كتابه الحفيل (فقه الزكاة) وكتاب العصر (فقه الجهاد)، وموسوعته البحثية (فتاوى معاصرة) في أجزائها الأربعة، وسواها.
وكم اغتبطت بعد أن رأيتُ الرسالة العلمية (فتاوى الدكتور القرضاوي التي خالف فيها المذاهب الأربعة في العبادات) للدكتور: عبدالرحيم توفيق قاسم خليل، والتي قدَّم لها الشيخ المجاهد: رائد صلاح، وهي رسالة دكتوراه مطبوعة مؤخراً عن (دار الفاروق) بعَمَّان.
لذا أوصي عدداً من طلبة العلم في (رابطة تلاميذ الإمام يوسف القرضاوي)، أن يسهموا في تقريب علم الشيخ، ونظراته المسدَّدة، وترجيحاته الموفَّقة، وخاصة في قضايا الأمة الكبرى، وما يشغل بال شبابها، ويؤثِّر على مسيرتهم.
كما أن الفرصة سانحة لكل جاد ليستلهم رؤى الشيخ في الفقه والأصول والسيرة، والتي كثيراً ما يمنِّي النفس بالكتابة فيها، وأظن أن فكرة مدارستها مع الشيخ بطريقة منهجية ثم طباعتها، ستسهم في تحريك بعض دوائر الركود في مثل بعض الموضوعات المفصلية التي يتقنها الشيخ، وذلك على طريقة كتاب (كيف نتعامل مع القرآن؟) بين الشيخ: محمد الغزالي، والأستاذ: عمر عبيد حسنه.
كما أعتقد أن من مهام الجادين من الباحثين كتابة (فقه الشيخ القرضاوي) المنثور بين فتاواه في أجزائها الأربعة، وكتبه المستقلة في موضوعات فقهية بعينها، على غرار ما بُذل وأُنتج عن فقه سماحة الشيخ العلامة عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - من مجموع فتاواه وبعض كتبه، وصدر فيما بعد في كتب، مثل: (آراء الإمام عبدالعزيز بن باز الفقهية) لياسين الحاشدي، و(اختيارات الشيخ ابن باز الفقهية) للدكتور: خالد آل حامد.
[4]
4- رجل جَذْب وحُبْ: فبرغم قوة الشيخ الظاهرة في عدد من المواقف، إلا أنه رجل عواطف، بل ربما عواطف ذات عواصف!
فالشيخ - حفظه الله - إنسان سريع الدمعة، ظاهر الخشية، مشرق الروح، غني الإحساس.
إذا تحدَّث في الوجدانيات أشجى، وإذا استغرق في الروحانيات تولَّه، وإذا ذكر الدعوة ورجالها تألَّق.
فله مع الابتسامة الآسرة، والضحكات الأنيقة، مُلَح وجلسات، يؤنسك بها، ويغريك بإزاحة الهم، وفسح مساحة للأمل.
إنك لتخرج بعد الحديث معه عن هموم الأمة وقضاياها من ضيق إلى سعة، ومن يأس إلى تفاؤل وبشر!
يجذبك بسؤاله، وتودده، وإكرامه، ولطفه، وحنوه، وكأنَّ شيئاً من أثقال اليوم لم يكن.
ما لقيته إلا وسألني عن أعمالي وآخر كتاباتي، وأحوال المشايخ في بلدي.
وإن سألته مبادلاً عن أعماله وكتاباته، شاركك همه وما يرغب بإنجازه، وأمنياته، ورغباته، فلا تشعر في حديثه لا بفارق العمر، ولا بفارق الحب!
في كل مرة تلقاه تجده كما هو، في حبه، وسؤاله، وسلامه، وابتسامه، وحتى مصافحته.
لا يردُّ لكَ طلباً إن طلبتَ منه أن يُنشدَ، أو أن يتحفكَ بعذب قصيدة، وصوت حب، أليس هو من يقول:
يا حبيبي جُدْ بوصلٍ
دمتَ لي واجْمَع شتاتي
لا تعذبني كفاني
ما مضى من سنواتِ
بتُّ أشكو الوجْد منها
شارباً من عبراتي
إنك تعيش مع الشيخ في جلوسك معه حالة الوجد والجذب، ولن تفارقك أبداً وأنت تقرأ له، حتى ولو كنتَ بعيداً عنه.
اقرأ ما كتبه ويكتبه كلما فارق صديقاً له، أو حبيباً، اقرأ ثم اسكب في نفسك مقادير من الحب والسكينة والعطف والتحنان والود.
إنني لا أفارقه إلا وأحبُّ أن يسرع زمن العودة إليه، ولو للجلوس معه، والأنس بوده وحبه وجذبه، فهل على مثليَ لوم؟!
[5]
5- رجل موقف ومبدأ: إن الإمام العلامة (يوسف القرضاوي) ممن سخرهم الله تعالى؛ ليكونوا (صمام أمان الأمة).
صمام أمان .. فهو الذي أعاد للعلماء مكانتهم وهيبتهم في قول الحق، دون أن يخشى في الله لومة لائم، ودون أن يتلون حسب الأحوال وتقلبات الخريف بعد الربيع!
وصمام أمان .. يوم وسَّع على المسلمين أمور دينهم، وما جعلهم في حرج أمام شريعتهم، ولا العيش الطيب في عصرهم.
وصمام أمان .. يوم جاهر وواجه خطاب العنف، وفكَّك أفكاره، وأنار أمام العقول المغلقة، بشعلة البرهان والبيان الطريق للحائرين.
وصمام أمان .. بصوته، وفكره، وقلمه، ومؤسساته، وعالميته، حتى غدت الأمة في الملمات تنتظر صوته، ورأيه، المثبِّت للحق وأهله.
وبعد، فهذه كما قلت شذرات عن إمام معاصر، ادخر الله تعالى عمره الطويل؛ ليكون قدوة وشاهداً على سبيل أولي العلم والهدى.
زاده الله تعالى من نعيمه، وسدَّده في قوله وفعله وعمره، ونفع به الأمة، وجزاه في سبيل الحق والخير والجمال والدعوة أحسن ما جزى عباده المؤمنين، وأولياءه الصالحين، ورفعه كلما صبر وناضل ونفع واحتسب.