■ تركيزي على الوسطية من قديم:
لقد أكرمني الله تعالى بتبنِّي تيار الوسطية، ومنهج الوسطية من قديم، ولم يكن ذلك اعتباطاً، ولا تقليداً لأحد، أو اتباعاً لهوى، ولكن لما قام عندي من الدلائل الناصعة، والبراهين القاطعة، على أنَّ هذا المنهج هو الذي يُعبِّر عن حقيقة الإسلام. لا أعني إسلام بلد من البلدان، ولا فرقة من الفرق، ولا مذهب من المذاهب، ولا جماعة من الجماعات، ولا عصر من العصور. بل عَنَيْتُ به (الإسلام الأول) قبل أن تشوبه الشوائب، وتلحق به الزوائد والمبتدعات، وتُكدِّر صفاءه الخلافات المُفرِّقة للأمة، ويُصيبه رَذاذٌ من نِحَل الأمم التي دخلت فيه، والتصقت به أفكار دخيلة عليه، وثقافات غريبة عنه. وقبل أن تصنّف أمّته إلى فرق وجماعات شتى، تنتسب إلى زيد أو عمرو من الناس، فحسبنا أنها تنتمي إلى القرآن الحكيم، وإلى الرسول الكريم.
■ الإسلام الأول:
أعني بهذا الإسلام الأول: إسلام القرآن الكريم، والسنة النبَّوية الصحيحة، الإسلام الذي دَعَا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، بما أوحي إليه من ربه، وبما بيَّنه بقوله وفعله وتقريره وسيرته. إسلام أصحاب رسول الله، الذين تتلمذوا على يديه، وشاهدوا أسباب نزول القرآن، وورود الأحاديث، وكان لديهم من صفاء الفطرة، وصدق الإيمان، وتذوُّق اللغة: ما أعانهم على حُسْن فَهم هذا الدين، الذي أخذوه بقوة من مُعلِّمه الأول، وطبَّقوه على حياتهم تطبيقاً دقيقاً.
هؤلاء الصحابة، الذين أثنى عليهم القرآن في أواخر سورة الأنفال [1]، وفي أواسط سورة الفتح [2]، وآخرها [3]، وفي سورة التوبة حين قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100]. فشمل الثناء من اتّبعهم بإحسان، وشملهم قوله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}.
كما أثنى عليهم رسوله في أحاديث مستفيضة: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" [4].
هذا الإسلام النقيُّ من الإضافات والمُبْتَدَعات الذي أتمَّ الله به النعمة على الأمة، وامتنَّ عليها بإكماله، فقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً} [المائدة:3].
■ كتاب (الحلال والحرام في الإسلام) ومنهجي فيه:
لقد تَبَنَّيْتُ منهج الوسطيَّة منذ أكثر من نصف قرن، ولعل أول كتاب لي في هذا المجال هو كتاب (الحلال والحرام في الإسلام)، الذي وضح فيه هذا المنهج بجلاء في مقدمة طبعته الأولى التي ظهرت سنة 1960م، وكان مما قلت فيها:
(رأيت معظم الباحثين العصريين في الإسلام والمتحدِّثين عنه يكادون ينقسمون إلى فريقين:
فريق خطف أبصارهم بريق المدنية الغربية، وراعهم هذا الصنم الكبير، فتعبَّدوا له، وقدَّموا إليه القرابين، ووقفوا أمامه خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة، هؤلاء الذين اتَّخذوا مبادئ الغرب وتقاليده قضية مُسلَّمة، لا تُعارض ولا تُناقش، فإن وافقها الإسلام في شيء هلَّلوا وكبَّروا، وإن عارضها في شيء وقفوا يحاولون التوفيق والتقريب، أو الاعتذار والتبرير، أو التأويل والتحريف، كأنَّ الإسلام مفروض عليه أن يخضع لمدنية الغرب وفلسفته وتقاليده. ذلك ما نلمسه في حديثهم عما حرَّم الإسلام من مثل: التماثيل، واليانصيب، والفوائد الربوية، والخلوة بالأجنبية، وتمرُّد المرأة على أنوثتها، وتحلِّي الرجل بالذهب والحرير ... إلى آخر ما نعرف.
وفي حديثهم عمَّا أحل الإسلام من مثل: الطلاق، وتعُّدد الزوجات ... كأن الحلال في نظرهم ما أحلَّه الغرب، والحرام ما حرَّمه الغرب. ونسُوا أن الإسلام كلمة الله، وكلمة الله هي العليا دائما، فهو يُتَّبع ولا يَتَّبع، ويَعلو ولا يُعلَى، وكيف يتَّبع الربُ العبدَ، أم كيف يخضع الخالق لأهواء المخلوقين؟ {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون:71]، {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [يونس:35]. هذا فريق.
والفريق الثاني جمد على آراء معينة في مسائل الحلال والحرام، تبعا لنص أو عبارة في كتاب، وظنَّ ذلك هو الإسلام، فلم يتزحزح عن رأيه قِيد شعرة، ولم يحاول أن يمتحن أدلة مذهبه أو رأيه، ويزنها بأدلة الآخرين، ويستخلص الحق بعد الموازنة والتمحيص.
فإذا سُئل عن حكم الموسيقى، أو الغناء، أو الشطرنج، أو تعليم المرأة، أو إبداء وجهها وكفيها... أو نحو ذلك من المسائل، كان أقرب شيء إلى لسانه أو قلمه: كلمة (حرام). ونسي هذا الفريق أدب السلف الصالح في هذا، حيث لم يكونوا يطلقون الحرام إلا على ما عُلم تحريمه قطعاً. وما عدا ذلك قالوا فيه: نكره، أو لا نحب، أو نحو هذه العبارات.
وقد حاولت ألا أكون واحداً من الفريقين. فلم أرضَ لديني أن أتخذَ الغرب معبوداً لي، بعد أن رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً. ولم أرضَ لعقلي أن أقلِّد مذهبا معيناً في كل القضايا والمسائل أخطأ أو أصاب، فإن المقلد، كما قال ابن الجوزي: على غير ثقة فيما قلد فيه، وفي التقليد إبطال منفعة العقل، لأنه خلق للتأمل والتدبر. وقبيح بمن أعطي شمعة يستضيء بها أن يطفئها ويمشي في الظلمة [5].
أجل، لم أحاول أن أُقيِّد نفسي بمذهب فقهيّ من المذاهب السائدة في العالم الإسلامي، ذلك أنَّ الحق لا يشتمل عليه مذهب واحد. وأئمة هذه المذاهب المتبوعة لم يدَّعوا لأنفسهم العصمة، وإنما هم مجتهدون في تَعرُّف الحق، فإن أخطؤوا فلهم أجر، وإن أصابوا فلهم أجران. قال الإمام مالك: كلُّ أحد يُؤْخذ من كلامه ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الإمام الشافعي: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب.
وغير لائق بعالم مسلم يملك وسائل الموازنة والترجيح: أن يكون أسير مذهب واحد، أو خاضعاً لرأي فقيه معيَّن. بل الواجب أن يكون أسير الحُجَّة والدليل. فما صحَّ دليله، وقويت حُجته، فهو أوْلى بالاتِّباع. وما ضعف سنده، وَوَهَت حُجَّته، فهو مرفوض مهما يكن مَن قال به، وقديماً قال الإمام علي رضي الله عنه: لا تعرف الحق بالرجال، بل اعرف الحق تعرف أهله) [6] .
■ تأكيدي على منهج الوسطية منذ طلوع فجر الصحوة الإسلامية المعاصرة:
هذا ما ذكرته من قديم في مقدمة الطبعة الأولى من كتابي (الحلال والحرام) سنة 1959م . وزاد تأكيدي لهذا المنهج وتركيزي عليه ما لمسته من الضرورة إليه، منذ طلع فجر الصحوة الإسلامية المعاصرة منذ أوائل السبعينيات من القرن العشرين، أي منذ ما يقرب من نصف قرن من الزمان. وما شاهدته من خلال رحلاتي في أنحاء العالم الإسلامي ولقاء الأقليات الإسلامية، في الشرق والغرب، من ضياع الأمة بين الغلاة والمتطرفين وخصومهم من المتحلّلين والمتسيّبين.
وكان من دلائل هذا الاتجاه: ما لاحظه بعضهم في عناوين عدد من كتبي: أنَّ فيها كلمة (بَيْن) مثل: (الفقه الإسلامي بين الأصالة والتجديد)، (الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف)، (الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم)، (الفتوى بين الانضباط والتسيب)، (الاجتهاد بين الانضباط والانفراط)، (ثقافتنا بين الانفتاح والانغلاق)، (ثقافتنا العربية الإسلامية بين الأصالة والمعاصرة)، وغيرها. وكلها تدل على أن هناك موقفاً وسطاً بين طرفين.
■ حديثي في عدد من كتبي عن ملامح منهج الوسطية:
وقد تحدَّثت في عدد من كتبي عن ملامح هذا المنهج، أو عن بعضها بإيجاز، كما في كتبي: (الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف)، و(الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي والإسلامي)، و(أولويات الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة)، و(الصحوة الإسلامية من المراهقة إلى الرشد)، و(خطابنا الإسلامي في عصر العولمة)، وغيرها. ولكن لم أُفصِّلها في كتاب مستقل. وحسبي هنا أن أذكر نموذجا لاهتمامي بالوسطية ما جاء في كتابي (أولويات الحركة الإسلامية) عن الفكر الذي ننشده للحركة الإسلامية في العالم، فهو فكر علمي سلفي تجديدي، وسطي، وما قلته آنذاك في تجلية معاني هذه الوسطية هذه الفقرات:
ومن معالم الفكر الذي ننشده: أنه فكري وسطي الوجهة والنزعة، فهو فكر تتجلى فيه النظرة الوسطية المعتدلة المتكاملة للناس وللحياة، النظرة التي تمثل المنهج الوسط للأمة الوسط، بعيداً عن الغلو والتقصير.
فهو وسط بين دعاة المذهبية الضيقة، ودعاة اللامذهبية المفرطة.
وسط بين أتباع التصوف وإن انحرف وابتدع، وأعداء التصوف وإن التزم واتبع.
وسط بين دعاة الانفتاح على العالم بلا ضوابط، ودعاة الانغلاق على النفس بلا مبرر.
وسط بين المحكِّمين للعقل وإن خالف النص القاطع، والمغيِّبين للعقل ولو في فهم النص.
وسط بين المقدِّسين للتراث، وإن بدا فيه قصور البشر، والمُلْغين للتراث، وإن تجلَّت فيه روائع الهداية.
وسط بين المستغرقين في السياسة على حساب التربية، والمهملين للسياسة كليَّة بدعوى التربية.
وسط بين المستعجلين لقطف الثمرة قبل أوانها، والغافلين عنها حتى تسقط في أيدي غيرهم بعد نضجها.
وسط بين المستغرقين في الحاضر الغائبين عن المستقبل، والمبالغين في التنبؤ بالمستقبل كأنه كتاب يقرؤونه.
وسط بين المقدّسين للأشكال التنظيمية كأنها أوثان تُعبد، والمتحلِّلين من أي عمل منظَّم كأنهم حبات عقد منفرط.
وسط بين الغلاة في إطاعة الفرد للشيخ والقائد، كأنه الميت بين يدي الغاسل، والمسرفين في تحرره كأنه ليس عضواً في جماعة.
وسط بين الدعاة إلى العالمية دون رعاية للظروف والملابسات المحلية، والدعاة إلى الإقليمية الضيقة دون أدنى ارتباط بالحركة العالمية.
وسط بين المسرفين في التفاؤل، متجاهلين العوائق والمخاطر، والمسرفين في التشاؤم، فلا يرون إلا الظلام، ولا يرقبون للظلام فجراً.
وسط بين المغالين في التحريم كأنه لا يوجد في الدنيا شيء حلال، والمبالغين في التحليل كأنه لا يوجد في الدين شيء حرام.
هذه هي الوسطية التي يتبناها هذا الفكر، وإن كان الغالب على مجتمعاتنا اليوم السقوط بين طرفي الإفراط والتفريط، إلام مَن رحِم ربك، وقليل ما هم. أ.هـ
■ رفض بعض المتدبنين منهجنا الوسطي وعودتهم إليه وتبنيهم له:
وكان بعض المتدينين قبل عدة سنين يرفضون هذا المنهج، ويتهموننا –نحن دعاة الوسطية – بالتساهل في الدين، والتفريط في أحكام الشرع، على حين يتهمنا العلمانيون والحداثيون والماركسيون وأمثالهم بالتشدد والتطرف! وهذا شأن (الوسط) دائماً، يرفضه الطرفان: الغلاة والمقصرون.
واليوم قد أصبح الكثيرون ممن كانوا ينتقدوننا بالأمس، ينادون بنفس منهجنا اليوم: الوسطية، حتى كثير من الحُكام، باتوا يذكرون الوسطية وينوهون بها. لأن هذا الاتجاه إنما يؤكده منطق العصر، ومنطق الأوضاع العالمية، والظروف الإقليمية، ومنطق المحن التي تمر بها الأمة.. وكلها تدل على ترجيح منهجنا، وضرورة التشبُّث به. وقد أنشئت مراكز للوسطية في أكثر من بلد، وغدا هناك تنافس على احتضان هذا المنهج. فلله الفضل والشكر، ولله الحمد والمنة.
---------
هوامش :
[1] اقرأ الآيات : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَٰئِكَ مِنكُمْ ۚ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75) [الأنفال:74 ، 75].
[2] اقرأ الآية: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} [الفتح:18].
[3] اقرأ الآية: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} [الفتح:29].
[4] متفق عليه: رواه البخاري في فضائِل أَصحَابِ النبِي (3651)، ومسلم في فضائل الصحابة (3594)، كما رواه أحمد في المسند (2533)، والترمذي في المناقِب (3859)، وابن ماجه في الأحكام (2362) عن ابن مسعود.
[5] تلبيس إبليس صـ81.
[6] انظر: كتابنا (الحلال والحرام) صـ10-12.