الرموز
الغائبة "ليلة القدر .. غزة .. وامعتصماه"
بقلم: أ.د/ محمد
دمان ذبيح
عضو الاتحاد
العالمي لعلماء المسلمين
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على
سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين ثم أما بعد..
وفي هذه الأيام الفاضلة، ومع أمة تتخبط
في دائرة من الوهن والانتكاس، حتى وكأنك ترى فيها حديث النبي صلى الله عليه وسلم
متجليا وواضحا لدرجة أنه لا يخفى حتى على كفيف، أو على من فقد الرؤية والرؤيا معا،
إنه حديث: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال
قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل،
ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، فقال
قائل يا رسول الله: وما الوهن؟ قال حب الدنيا وكراهية الموت."
وأمام هذا الواقع المرير أين يموت بالعشرات،
أو بالمئات، عفوا أين يستثهد القلب، والفؤاد، والسمع، والبصر، والروح، وروح الروح،
ارتأيت أن أضع رموزا مهمة أراها للأسف الشديد غائبة، وما أحوجنا إليها اليوم،
وبمفهوم وتفكير اليوم، عسى أن تجد أذانا مصغية لتضع أمتنا على الطريق الصحيح،
والذي فقدناه يوم فقدنا تاريخنا وهويتنا، ووسيلتنا وغايتنا، وإنني أرى هذه
الرموز تتمثل فيما يلي:
أولا: ليلة
القدر
إنها
عروس الليالي ، إنها الليلة المباركة ، ليلة القرآن الكريم قال الله تعالى ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ
الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ
مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ
رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ * ﴾ [القدر
:1 - 5]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : "من قام ليلة القدر إيمانا
واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه"،
ويقول في حديث آخر: " إن هذا الشهر قد حضركم وفيه ليلة خير من ألف
شهر من حرمها فقد حرم الخير كله ولا يحرم
خيرها إلا محروم".
ثم إنها الليلة التي ترمز إلى ارتباط الروح
بالسماء ارتباطا ترتفع فيه عن الأرض، وما تحمل من ذل أو صغار ، قال الله تعالى : ﴿وَاتْلُ
عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ
الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا
وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ
الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ
مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ
لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا
بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ*﴾ [ الأعراف : 175- 177].
وهذه الليلة يجب أن تستشعرها الأمة طوال
السنة، وليس في رمضان فقط، وهذا حتى تتميز عن بقية الأمم بقوة روحية تذوب معها كل
الصور والأشكال الفانية، بعيدة كل البعد عن حب الدنيا وكراهية الموت، وهو ما سيجعل
منها وبلا شك أمة مجاهدة، تدافع عن مبادئها، وتقاتل لإعلاء كلمة " لا إله
إلا الله محمد رسول الله".
إنها ليلة القدر التي نراها في هذه الآية: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ
وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا
بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ *﴾ [التوبة:
111].
إنها ليلة القدر التي نراها في هذا الحديث الشريف:
" ما من أحدٍ يدخلُ الجنة يحبُّ أن يرجعَ إلى الدنيا، وأن له ما على الأرض
من شيءٍ، غيرُ الشهيد، فإنه يتمنَّى أن يرجعَ فيُقتل عشر مرات، لما يرى من الكرامةِ."
ثانيا: غزة
عندما نتحدث عن غزة فإننا نتحدث عن قضية القضايا،
عن الآلام، عن المعاناة، عن الدموع، عن حقد العدو، وخيبة وخذلان القريب أو الصديق،
وصدق طرفة بن العبد عندما قال:
وَظُلمُ ذَوي القُربى أَشَدُّ مَضاضَةً *** عَلى
المَرءِ مِن وَقعِ الحُسامِ المُهَنَّدِ
ولكن في الوقت نفسه فإن غزة ترمز إلى
الرجولة الحقة التي يحب أن تتعلمها الأمة جيلا بعد جيل، فهي تعبر عن الصدق مع الله
تعالى ، والتمسك بالمبدأ ، وعدم المساومة ،أو خيانة الأمانة ولو بالإشارة ،قال
الله تعال:﴿مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ
عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا
بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِّيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ
وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ
كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا*﴾[الأحزاب : 23، 24]، و قال النبي صلى الله عليه
وسلم : " لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا
يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتيهم أمر الله. وهم كذلك"،
قالوا: يا رسول الله وأين هم؟ قال: "ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس".
إنها غزة التي تعمل على
الحفاظ على الدين، والدفاع عن المقدسات، بالصورة التي ترى فيها سلف الأمة رضوان
الله عليهم جميعا، والتي يجب أن تتحلى بها الأمة في شرقها وغربها، وشمالها
وجنوبها، من أجل كرامة لا تموت، وعزة لا تغيب ولا تفنى.
ثالثا:
وامعتصماه
يحكى في الأثر أن رجلا قدم للمعتصم، قال له:
"يا أمير المؤمنين كنت بعمورية فرأيت امرأة عربية في السوق مهيبة جليلة تسحل
إلى السجن، فصاحت في لهفة: وامعتصماه وامعتصماه.
وتقول رواية أخرى: إن الرجل
قال له: يا أمير المؤمنين، كنت بعمورية، فرأيت امرأة عربية تساوم علجا من الروم في
بضاعة، فاختلفا فصفعها على حر وجهها، فصرخت: وامعتصماه، فضحك العلج، وقال: انتظريه
حتى يأتيك على حصانه الأبلق لينصرك.
فأرسل المعتصم رسالة إلى أمير عمورية قائلا: من
أمير المؤمنين إلى كلب الروم أخرج المرأة من السجن، وإلا أتيتك بجيش بدايته عندك
ونهايته عندي، فلم يستجب الأمير الرومي، وانطلق المعتصم بجيشه ليستعد لمحاصرة
عمورية فمضى إليها".
ومهما اختلفت الروايات وتعددت، أو حتى من
حيث صحتها أو عدمها فالمستفاد من الخبر أن استغاثة تلك المسلمة المكلومة وصلت إلى
قصر الخلافة، وحركت مشاعر الخليفة العباسي المعروف بالإباء والعزة والغيرة على
دينه وأمته.
وإنها الصرخة التي نسمعها يوميا من غزة، ولكن
أين المعتصم؟ والذي يرمز إلى الحاكم الغيور على عرضه وشرفه، فتراه يسخر جيشه وماله
خدمة للدين وللأمة، يتقدم الصفوف في شجاعة لا توصف، ويدافع عن مبادئه بطريقة يتعجب
لها القريب والبعيد.
إنه الحاكم الذي يتخذ من هذه الآية مبدأ ﴿يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ
أَقْدَامَكُمْ *﴾ [محمد: 07]، ومن هذا الحديث الشريف شعارا:
"إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد،
سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم".
إنه الحاكم الذي يضع دائما نصب عينيه
" كيف أبتسم والأقصى أسير؟!"، فما أحوج الأمة إلى هذه النماذج
الحاكمة، التي تعيد لها كرامتها وعزتها.
وأخيرا أقول: إن قوة العلاقة بالمولى عز وجل، والتحلي بأخلاق الرجال،
مع وجود الحاكم العادل المجاهد أسباب ووسائل تجعل أمتنا في مقدمة الأمم، تعيش
بشخصيتها ومبادئها.