تفكيك منظومات الاستبداد (٥٢): ماذا حدث لشباب أمتنا العربية؟
بقلم: جاسر عودة
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
تحتاج أمتنا الإسلامية -وخاصة الأمة العربية- إلى
وقفة جادة لفهم ماذا حدث لشبابها! ما هذا الشلل التام لحراك الشباب العربي الجامعي
وغير الجامعي في ظل ما يحدث؟ في مقابل شباب العالم شرقًا، وغربًا، وشمالًا، وجنوبًا؟ ما هذا؟ كيف وصلنا إلى هذا الغياب شبه التام
لما يقوم به الشباب عادة في كل دين وملة وثقافة في مثل هذه الأوقات من الحروب الوجودية؟
ثم ما سر ندرة الشباب المجاهد ولو بكلمة حق عند سلطان جائر في عالمنا الإسلامي الواسع؟
في مقابل شباب العالم شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا الذي ما زال فيه عدد لا بأس به
من الصارخين بكلمة الحق والمغيّرين للشر بأيديهم وألسنتهم؟ تساءلت: ماذا حدث لهذا الجيل
العربي الجديد بالمقارنة مع جيل أمثالي الذين تخطوا الستين أو قاربوا؟
قد عاصرت في مرحلة الشباب -أي ما دون العشرين وما
بعدها- حروبًا شنّها الأباطرة والطغاة المعاصرون على أمتنا، بدءًا من المذابح التي
لا تتوقف في فلسطين، إلى غزو أفغانستان، ثم بعدها حرب العراق الأولى، وحروب الصومال،
وكشمير، والبوسنة والهرسك، والعراق الثانية، إلى آخرها، وكنا كشباب جامعي عربي ننفجر
غيظًا ونفيض حزنًا على ما نقرأ أو نشاهد من تقارير، رغم أن المعلومات والصور لم تكن
بدقة ولا كثرة ولا بشاعة ما يُنقل لشباب اليوم عبر ما تسمح به برامج التواصل الاجتماعي،
وكنا ندرك -على صغر السن وقلة العلم وبساطة الأحلام- أن هذه حروب على أمتنا الإسلامية
وعلى وجودنا كمسلمين وعرب وشرق وجنوب!
وكان من الطبيعي التلقائي -وكنت في بدايات الثمانينات
طالبًا في جامعة القاهرة- أن نتظاهر بعشرات الألوف في الحرم الجامعي، بل نخرج إلى الشوارع
لتوعية الناس وإغراق المدينة بالملصقات والمنشورات، إن لم يكن هناك رصاص حيّ أو مطاطي
من الشرطة، ولكننا حتى ولو استخدمت الشرطة الرصاص واضطررنا للاختباء، فإننا نعود في
اليوم التالي للتظاهر وتوزيع المنشورات على الطلبة، إلا أن يغلقوا الجامعة نفسها، وكنا
-كقيادات لاتحاد الطلاب- نتجنب الاعتقال قدر الإمكان بأن نبيت خارج بيوت أهلنا، في
المساجد أو عند بعض الأقارب خارج المدن، حتى إذا مضت الأزمة أو تحسنت الأوضاع عدنا
إلى الجامعة، وحتى ولو اعتقلنا كنا نمر بمحنة من أيام أو أسابيع نعود بعدها إلى الحياة
الطلابية نفسها، وكان من زملائنا في الجامعة من قرر أن يذهب بنفسه ليحارب في أفغانستان
أو البوسنة أو غيرهما، فمنهم من قضى نحبه هناك، ومنهم من استقر في الأرض الجديدة وتزوج
وعاش، ومنهم من عاد إلى بلاد العُرْب وانتهى به المقام -عاجلًا أو آجلًا- في السجن،
أو غاب عن الوعي مع أعباء الحياة وجمع المال، ومنهم من استقر أخيرًا لاجئًا أو مهاجرًا
في بلاد الغرب ليسهم بعد ذلك في ”الصحوة الإسلامية في الغرب“ منذ ثمانينيات القرن الماضي،
وحتى أحداث سبتمبر ٢٠٠١م التي غيرت أحوال المسلمين في الغرب.
ولكنني أتساءل الآن: ماذا حدث للحركة الطلابية؟ كيف
تغيرت الصورة في القاهرة التي عرفتها شابًا، وللقاهرة أهمية استراتيجية خاصة؟ وماذا
حدث في بقية حواضر وعواصم العالمين العربي والإسلامي؟ كيف وصلنا إلى هذا الشلل التام
للحركة الطلابية والشعبية والمدنية والسياسية العربية حتى وصلت إلى الصفر، بل هي الآن
حركة ضارة سالبة تحت الصفر؟ كيف قامت النظم الحاكمة بهذا التحول التاريخي الخطير؟ خاصة
وأن تلك التحركات الشعبية المحدودة كانت تخدم مصالحهم ونظمهم (هكذا فهمنا بعد أن كبرنا
وتعلمنا)؟ إذن، لمصلحة من يتم القضاء على الحياة السياسية والحركات الطلابية تمامًا،
خاصة وأن أول المتضررين من ذلك هي النظم الحاكمة نفسها، والتي أصبح لا حجة لها لكي
تُبقي على بعض ماء الوجه أمام الأعداء؟ ويعرف أهل السياسة من العرب عداوة الأعداء وكيدهم
جيدًا مهما كان توجههم، يمينًا أو يسارًا، ملكيات أو جمهوريات، عروبيين أو وطنيين،
فكيف نفسر الواقع العجيب الغريب؟
في رأيي -وباختصار كما يسمح المقام- أن الذي حدث هو
انكشاف أقنعة النفاق العقدي والسياسي عند مراكز التأثير الحقيقية منذ ”الربيع العربي“، فدخلت حكومات ”الثورة المضادة“ التي استطاعت
البقاء -أو التي عادت بعد غياب مرحلي قصير بوجوه جديدة- في صراع وجودي وصفري مع الشعوب
نفسها! تغيرت عقيدة الجيوش والنظم الحاكمة في كل العالم العربي -إلا في دويلات محدودة-
من خليط من المشاعر الوطنية والأدلوجات العلمانية والمصالح الشخصية والعمالة الجزئية
لبعض أجهزة المستعمر القديم، تغير كل هذا إلى مَهمة واحدة واضحة وضعها الأباطرة المعاصرون
بناء على مستشاريهم من شياطين الإنس خاصة في الكيان، وهي مهمة:” القضاء على الشعوب“، كل نظام مهمته في الحياة الآن هي القضاء
على الشعب! صدق ما أقول أو لا تصدق، ولكنّ المنطق السليم لا يصل بالعاقل إلا إلى هذه
النتيجة.
فمن رضي بهذا من أهل السياسة -على مختلف المستويات
الحاكمة وأيًا كانت ملّته- استمر في الحكم، والذي لا يرضى بها يُقتل ويؤتى بغيره، وإن
استعصى ذلك تبدأ الدولة في التفكيك والتقسيم على طريقة ”الكاوبوي“ التقليدية، كما رأينا
ونرى في السودان واليمن وليبيا والصومال والعراق وسوريا، وهلم جرًا. ثم أعطت مهمة ”القضاء على الشعوب“ الضوء الأخضر لقتل مئات الألوف من كل
شعب بلا سقف.
”اقتل كل من يقول لا“ هو شعارهم غير المعلن الذي وضعه لهم أسيادهم من المحتلين الجدد
ومستشاريهم من دولة الكيان، خاصة في الشرائح التي استهدفتها الثورة المضادة كأولويات:
العلماء والقدوات الحسنة وأصحاب الرأي والمثقفين والمؤثرين بكل ألوانهم وأنواعهم، والهدف
الصريح هو قتل كل هؤلاء جميعًا، إلا من يرتد فيشرك بالله، ويعبد النظام لا معبود له
سواه، أو المغفلين سفهاء الأحلام الذين يديرون تروسًا في دواليب الدول لا يعرفون إلام
تؤدي ولا يرون الصورة الكلية بالمرة.
ولكنّ الشياطين يعلمون أن القتل بلا سقف في عصر التواصل
الاجتماعي -خاصة مع تنافس الصين فيه- قد يأتي بنتائج عكسية، سواء في استفاقة الجسم
الأكبر من كل شعب إذا أحسوا بالخطر على حياتهم أو جاعوا طويلًا، فتتكرر مشاهد فيضانات
الناس التي لا قبَل لهم بها لاقتلاع الحكومات العميلة، أو النتائج العكسية للقتل في
تظاهرات في الدول الغربية تهتز لها بعض موازين السياسة عندهم على غير ما يرغبون لعنصرهم
المتفوق في الرفاه والسلام الداخلي، أو لشبابهم في اللهو والترف، وبالتالي فقد حرص
النظام العالمي الجديد على أن يتم القتل الجماعي لشعوب المنطقة سرًا -وسوريا مثال صارخ
كاشف واضح-، أو القتل الجماعي بالتصوير البطيء جدًا كما هو الحال في عموم السجون العربية،
حيث ”الداخل مفقود والخارج مولود“ كما يقول المثل الشعبي المصري، ومع كل من يُقتل لابد
أن يُقتل الآباء والأمهات والأبناء والأقارب الأقربين ولابد من اغتصاب الأخوات والزوجات
والبنات -جسديًا أو معنويًا إن تعذر الاغتصاب الجسدي-، ولابد من هدم البيوت وسرقة الأموال،
قولًا واحدًا لا تراجع فيه وسياسة ثابتة محمية بكل أدوات القانون المحلي والدولي، إلا
من بعض الحالات التي يسمحون بها على سبيل الدعاية الانتخابية في الدول ”الديمقراطية“.
وأتى على رأس قائمة المطلوبين للقتل الشعب الفلسطيني الأبيّ، خاصة شعب غزة، وهي المدينة
الوحيدة التي ظلت حرة في العالم العربي وظل الإسلام فيها حيًا لم ينهدم ولم يشيع فيها
الزنا والخنا كما شاع في بقية بلاد العرب.
ومع آلة القتل تدور آلة أخرى -ولعرضها مقام آخر- وهي
آلة الإلحاد والزنا والخنا والتجهيل والفتنة والتسطيح وتحويل الشاب المسلم العربي إلى
مسخ لا عقل له، موظف ممتاز أو موظفة نشيطة في منظومة نادي الواحد في المائة الرأسمالية
الاحتكارية، ليس إلا، وفيما عدا ذلك يعيش كدابة ويموت كدابة، بل هم أضل سبيلًا. وهل
بعد هذا الفيض الهائل هذا العام من المسلسلات الرمضانية الفاسدة المُفسدة من دليل على
حجم المؤامرة؟
هذا البطش الشديد والقتل الحاسم والتجهيل الخطير لكل
أصحاب الوعي من الشعوب العربية هو في تقديري ما يفسر الشلل السياسي التام الذي يعاني
منه عالمنا العربي، خاصة الغياب التام للحركة الطلابية إلا من مسوخ من الشباب والشابات
من عَبَد الطاغوت، وهذا ”تفسير تآمري“ بامتياز لا يكاد يصدقه العاقل، ولكن الواقع يصدقه
كل يوم ألف مرة. المهمة الجديدة للنظم العربية هي: ”القضاء على الشعوب العربية بالقتل
أو المسخ لكل العقلاء والشرفاء والمسلمين الحقيقيين فيها“.
ولكن التحولات التاريخية العميقة ستأتي على أي حال،
مهما استمرت الأمور على هذا الحال المزري، وأتوقع أن ينفجر بركان التغيير في العالم
العربي -ومن ورائه العالم الإسلامي- خلال سنوات معدودة إن شاء الله، وقد بدأت إرهاصاته
فعلًا شرقًا وغربًا -ولهذا حديث آخر-، وحينها ستعود الشعوب الكبرى هادرة حين تدرك أنها
إما تحارب جلاديها وأعداءها الحقيقيين، وإما أن تستكمل الذبح فيها إلى آخر مؤمن أو
شريف أو عاقل أو كريم فيها. وإن ذبحتم هذا الجيل كله -ولا أظنه يحدث إن شاء الله- فقد
أنذرناكم أن الجيل القادم سيكون جيلًا غليظًا لا يعرف الرحمة، ولا
التعايش ولا الوسطية ولا التدريج.
فهل ينهض ”مؤمنو آل فرعون“ في بلادنا العربية ليدركوا
الوضع المتردي قبل فوات الأوان وانفجار البركان؟ أرجو ذلك وأدعو به، [وَاللَّهُ
غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُون] (يوسف ٢١).
لك الله يا فلسطين!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*
ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي
الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.