يا غزة... هكذا انتصرت الثورة الجزائرية
بقلم: أ. د/ محمد دمان ذبيح
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على
سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين ثم أما بعد
إن
الثورة الجزائرية تعد من أعظم الثورات في القرن العشرين، بل هناك من يعدها الأنموذج
الأول الذي يجب أن يقتدى به في مجال الدفاع عن الأوطان، والوصول إلى مستوى التحرر
بأبعاده المختلفة.
ومن هذا المنطلق، ونطرا لأن السنن الكونية
لا تعرف التغيير، ولا التبديل، وكما يقال "لا جديد تحت الشمس"، أردت أن
أقدم لغزة عاملين اثنين، وهما من أهم العوامل التي ساعدت التورة الجزائرية على
الانتصار، وتحقيق المبتغى بكل ما تحمل الكلمة من معنى، وهذا من أجل أن تحذو حذوها
لتحقق النتائج نفسها، والأهداف ذاتها، وهذان
العاملان وبإيجاز هما:
العامل الأول: الإيمان بأن الجهاد في سبيل الله تعالى هو السبيل الوحيد للتحرر
قال الله تعالى: ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا
وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ
لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [التوبة: 41] ، وقال أيضا : ﴿
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ
مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ
ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ
وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الصف: 10 - 13]، وقال
النبي صلى الله عليه وسلم : " تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ، لَا
يُخْرِجُهُ إلَّا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ، وتَصْدِيقُ كَلِمَاتِهِ، بِأنْ
يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، أوْ يُرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ
مَعْ مَا نَالَ مِنْ أجْرٍ أوْ غَنِيمَةٍ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ!
مَا مِنْ كَلْمٍ، يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ، اللَّهِ إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
كَهَيْئَتِهِ حِينَ كُلِمَ، لَوْنُهُ لَوْنُ دَمٍ، وَرِيحُهُ مِسْكٌ، وَالَّذِي
نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ! لَوْلَا أَنْ يَشُقَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا قَعَدْتُ
خِلَافَ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَبَدًا، وَلَكِنْ لَا أَجِدُ
سَعَةً فَأَحْمِلَهُمْ، وَلَا يَجِدُونَ سَعَةً، وَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ
يَتَخَلَّفُوا عَنِّي، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ! لَوَدِدْتُ أَنِّي
أَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلُ، ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ، ثُمَّ أَغْزُو
فَأُقْتَلُ".
وقال العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى: "
يشرف البذل بشرف المبذول، وأفضل ما
بذله الإنسان نفسه وماله، ولما كانت الأنفس والأموال مبذولة في الجهاد، جعل الله
من بذل نفسه في أعلى رتب الطائعين وأشرفها لشرف ما بذله مع محو الكفر ومحق أهله،
وإعزاز الدين وصون دماء المسلمين ".
وهذا الذي آمن به مجاهدو الثورة الجزائرية
ضد الاستعمار الفرنسي، فلا مكان للمفاوضات، ولا المسيرات، ولا المظاهرات، ولا
غيرها من الوسائل الميتة في نظر فرنسا وأمثالها، فكلها وسائل لا تحرك شيئا من بيت
المحتل ، ولا تجدي نفعا، ذلك لأن اللغة الوحيدة التي يفهما الغاصب، والظالم هي لغة
السلاح والنار، "فما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة "، يقول
شاعر الثورة الجزائرية مفدي زكريا رحمة الله تعالى عليه :
ولعلع
صوت الرصـــــاص يدوي *** فعـــاف اليـــراع خرافات حبر
وتأبى
المدافع صوغ الكــــــلام *** إذا لــــم يكن من شواظ وجمـر
وتأبى
القنابل طبع الحــــروف *** إذا لــم تكن من سبائك حمـــر
العامل الثاني: الموت لكل من خان الدين والوطن
الأصل في المسلم أن يكون عونا لإخوانه في
الدفاع عن وطنه، أو عن أي وطن إسلامي آخر، لأننا أمة واحدة، وجسد واحد، وقلب واحد،
قال الله تعالى: ﴿إِنَّ
هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء:
92].
وبالخيانة عانت الأمة الويلات ، وتجرعت
المرارات، وفقدت بسببها أفضل الرجال، وأعظم القادة، وتاريخنا إلى يوم الناس هذا، و
للأسف الشديد يتحدث بشكل مطول عن هذا الخلق السيء، أو بتعبير آخر عن" أبي
رغال"
من ذلك مقتل عمر، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم جميعا، لذلك كان النهي شديدا عن
الغدر والخيانة، قال الله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا
اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنفال
: 27]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ من شر الخيانة " اللَّهُمَّ
إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُوعِ؛ فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ، وَأَعُوذُ بِكَ
مِنَ الْخِيَانَةِ؛ فَإِنَّهَا بِئْسَتِ الْبِطَانَةُ"
وقال الإمام القرطبي في تفسير قوله تعالى: ﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ
تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ...﴾ [الممتحنة: 1]، قال:
"من كثر تطلعه على عورات المسلمين وينبه عليهم، ويعرف عدوهم بأخبارهم لم
يكن بذلك كافرا إذا كان فعله لغرض دنيوي، واعتقاده على ذلك سليم، كما فعل حاطب حين
قصد بذلك اتخاذ اليد، ولم ينو الردة عن الدين.
وإذا قلنا لا يكون بذلك كافرا فهل يقتل بذلك حدا
أم لا؟ اختلف الناس فيه: فقال مالك، وابن القاسم وأشهب: يجتهد في ذلك الإمام، وقال
عبد الملك: إذا كانت عادته تلك قتل لأنه جاسوس، وقد قال مالك بقتل الجاسوس، وهو
صحيح لإضراره بالمسلمين، وسعيه بالفساد في الأرض".
وقتل الخائن ، أو من كان عميلا للعدو، أو
مواليا له من أكثر الأحكام الشرعية التي جسدتها الثورة الجزائرية على أرض الواقع ،
وهذا إيمانا منها بأن هذا النوع من البشر خطر عظيم على حاضر المجتمع ومستقبله،
ولذلك صدق من قال : "إذا أردت
تحرير وطن، ضع في مسدسك عشر رصاصات؛ تسع رصاصات لخونة الوطن، وواحدة لعدوك، فلولا
خونة الداخل ما تجرأ عدو الخارج على وطنك"!
ويقول الأستاذ رشيد ولد بوسيافة في مقال له
بعنوان " خذوا العبرة من خونة
الجزائر !" :
" وإذا كان الفلسطينيون معجبين بتاريخ الجزائر، وثورتها المباركة،
فعليهم أن يسْتَلْهِموا العبرَ والدّروسَ من هذا التّاريخ، وعليهم أن يُدْرِكُوا
أنّ المتعاوِنين مع فرنسا خلال الثّورة الجزائرية كانت تُطَبَّق عليهم أحكامُ
الإعدامِ الميداني، لأنَّ ما كانوا يقومون به هو خيانة للوطن، وتعاونٌ مع الأعداء
المحتلين، وقد انتهى بهم المطاف في مزبلة التاريخ، حتى أن النّاجين منهم تعرّضوا
لأقسى أنواعِ الإذلال، والتّهميش في فرنسا البلد الذي باعوا شرفهم لأجلِه."
ولا شك هذا مايظهر جليا فيما قاله رائد
النهضة الجزائرية عبد الحميد بن باديس رحمة الله تعالى عليه:
واقلع
جذور الخائــنيـن فمنهم كل العطب
وأذق
نفوس الظالمين السم يمزج بالرهب
واهزز
نفوس الجامدين فربما حي الخشب
من كان
يبغي ودنا فعلى الكرامة والرحب
أو كان
يبغي ذلنا فله المهانة والحرب
هذا نظام
حياتنا بالنور خط وباللهب
حتى يعود
لقومنا من مجدهم ما قد ذهب
هذا لكم
عهدي به حتى أوسد في الترب
فإذا
هلكت فصيحتي تحيا الجزائر و العرب
وأخيرا أقول: يا غزة، ويا قضية القلب والفؤاد معا ، فأنت في مستوى
هذين العاملين، وأنت في الوقت نفسه تعلمين كل العلم بأننا نحسن الظن بك، فقد برهنت أكثر من مرة على الرجولة التي أصبحنا
نبحث عنها في عز النهار ، وأبشري فإن الله تعالى لا يخلف وعده ﴿ وَعَدَ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي
الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ
دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ
أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ
ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [النور : 55].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة
تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.