لماذا هجرنا قواعد الجرح والتعديل؟!
بقلم: د. ونيس المبروك
الأمين المساعد للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
تزكية الآخرين
دون التأمل في ما كتبوا أو التدبر في ما قالوا، بدافع التقليد أو المجاملة، منكرٌ لا
يقل خطورة عن بخس أهل العلم والمعرفة بدافع الحسد أو قلة الإنصاف!
كلاهما عندي
ضرب من ضروب التدليس، وباب من أبواب تضليل عقول الناس واللعب بعواطفهم.
من أدب الإسلام
مجاملة الناس ومخاطبتهم بالقول الحسن وتشجيعهم، ولكن لا يستقيم خلقا وعلما فعل ذلك
على حساب تقييم علومهم وخبراتهم، أو عدالتهم وورعهم.
لقد تسلل
لساحة العلماء والمتحدثين في "الشأن الديني العام" كثير من المنتفعين وأنصاف
المتعلمين، دون أن تُعرَف لهم سيرة مرضية، ولا مسيرة علمية، ولا يعرف مَن شيوخهم ولا
تلاميذهم، ولا آثارهم ولا مآثرهم.
يقول أحدهم:
"شيوخي الذين أخدت عنهم العلم فلان وفلان، وربما سمع لأحدهم خاطرة عابرة أو درسا
يتيما".
ويقول الآخر:
قرأت ذاك المرجع ودرست ذاك الكتاب، وهو عند التحقيق لم يكلف نفسه إلا تصفح الفهرس أو
نُتَف من أبوابه!
ويستكثر الآخر
بذكر أسانيده من شيوخ، وهم ما بين ميتٍ لا يمكن التَثَبُت منه، وما بين حيٍ يستحيي
من إحراج المُدعي!!!
هذا التدليس
لا يتضرر منه أهل البحث وصناعة المعرفة!
لماذا؟
لأنهم يعلمون
بأيسر أدوات القياس مَنْ الدخيل والأصيل، ويفرقون بين المتضلع على مُكث، والمُتشبِع
بما لم يُعط، ويعرفون مَن عجَمت عُودَه الأيامُ فتكوّنت لديه ملكة علمية وفقهية لا
تخطئها عين الناقد -إن لم يكن حاسدا-
لكن الضرر
الأكبر يقع على شريحة طلبة العلم المبتدئين، وعامة الناس الطيبين، فيأخذون بظاهر هذه
التزكيات الفارغة، وتتشربها قلوبهم، بخاصة إذا صاحبها دعاية وتهويل إعلامي ممول، أو
حزبي مذهبي أعمى.
قدّر الله
تعالى أن أعيش زمنا طويلا في أوساط طلبة العلم والعلماء والكتب والمكتبات ومراكز الدراسات،
وأسافر إلى دول كثيرة في العالم،.. فما رأيت آفة دفنت علوم وأفكار الموهوبين، وأعلت
من شأن المقلدين السطحيين مثل هذه الآفة.
لقد انتهيت
إلى بذل الوسع في عدم المشاركة في هذا المسلك الخاطىء، وأن أكون بين أمرين:
إما أن أخبر
عن المرء بعد قراءة متأنية فاحصة لما يكتب ويقول، ولا أزكي إلا من اطمأن قلبي لخلقه
ودينه،
أو أقول:
لا أدري، ولو كان مَن سُئِلت عنه يملأ الدنيا ويشغل الناس.
لقد كان حرص
السلف على معرفة أحوال الرواة، سببا في نشأة علم الجرح والتعديل، فأباحوا الحديث عن
كل كبير وصغير يتعلق بالراوي من حيث الضبط والعدالة والدراية، مادام ناقلا للسنة ومخبرا
عن صدر النبوة الأول، فرفعوا شعار: "سموا لنا رجالكم".
ونحن اليوم
أحوج ما نكون لإحياء قواعد هذا العلم مع شيء من التجديد الذي يناسب الغرض، كي نتعرف
على رجالنا الذين ينقلون لنا العلم ويرشدون الناس في الشأن العام وفق منظومة من القواعد
العلمية والآداب المرعية، تحول دون تملق الأتباع، وانتحال المبطلين وتسور المنتفعين،
أو خصومة مرضى القلوب والحاسدين.
#_بدايةالإصلاح_وعيٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة
تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.