الحويني نسيج وحده 3/4 أبو إسحاق الحويني والشيخ
المنشاوي في سوهاج
بقلم: د. محمد الصغير
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
حظيت محافظة سوهاج التي تتوسط محافظات الصعيد، بصِلات قوية مع الشيخ المحدث
أبي إسحاق الحويني رفع الله درجته، وكانت البداية مع إصهاره إلى بيت من كرام
بيوتها، حيث تزوج زوجته الأولى السيدة أم حاتم بنت الشيخ حسين السيد شراقة، ومنها
أولاده حاتم وهيثم وسفيان وشعبة، ومن زوجة أخرى ابنه “همام” المعتقل منذ خمس
سنوات، ومن زوجة ثالثة “هناد” أصغر أولاده الذكور، وللشيخ بنات من زوجاته الثلاث،
والشيخ الحويني له فقه خاص في أمر التعدد، وكل من اقترب منه رأى كيف استن بهدي
النبي ﷺ في ذلك، وضرب أروع الأمثلة في بيان محاسن الشريعة ونبل مقاصدها، حتى إنه
زوج أولاده الثلاثة من ربائبه الثلاث اللاتي رباهن على عينه، ونهلن من معين علمه،
ولا يتسع المقال لذكر فوائد الشيخ وفرائده في ذلك.
ونرجع إلى زواجه الأول حيث يرويه ابنه هيثم في منشور له فيقول: “جدي لأمي
الشيخ حسين السيد شراقة المتوفى سنة 2007م رحمه الله، وكان من أعيان محافظة سوهاج
بصعيد مصر، وقورٌ ذو سمت حسن وهيئة متسننة، له لحية بيضاء مخضبة، وهو من رموز
أنصار السنة، وأوائل من أظهروا الهدي الظاهر والتزموا به، قال عنه شيخنا الحويني:
الشيخ حسين له فضل علي يطوق عنقي إلى يوم القيامة، فقد ذهبت أطلب ابنته للزواج،
وكنت وحيدا فقيرا لا يعرفني أحد، وأعمل في محل بقالة، فما أرهقني بشيء، ولا حملني
فوق طاقتي، وكان يحبني كولده، ولقيت منه
إحسانًا وفضلًا، فكان والدًا وصهرًا معًا، وبلغ من محبته لنا أنه كان يمكث عندنا
15 يومًا وفي سوهاج مثلها، وكان من أهل الصلاح والورع، وقوة القلب في الحق، لا
يخاف في الله لومة لائم”. انتهى (باختصار).
في زيارته لأسيوط وسوهاج
ومع ذلك كله عندما قرر الشيخ الحويني زيارة أسيوط وسوهاج بعد ثورة الخامس
والعشرين من يناير، وتم تجهيز كل شيء قال لبعض رفاقه كيف نذهب للصعيد بدون ابن
الصعيد، واتصل بي وأخبرني بذلك بمنتهى التواضع قائلا: لابد أن نأتي البيوت من
أبوابها، وكانت غبطتي بذلك كبيرة، ونقلتنا الطائرة إلى أسيوط في جمع من أبنائه
وتلاميذه كانوا قرابة العشرين، وخصني الشيخ بالجلوس إلى جواره في الطائرة وكانت
بداية الغنائم، فعلمت أن جدول الزيارة يبدأ بمحاضرة عامة في أسيوط يوم الخميس، ثم
محاضرة في سوهاج بعد عشاء يوم الجمعة، ثم نرجع إلى محاضرة في جامعة أسيوط ظهر
السبت، ومنها نعود للقاهرة، فقلت له في حديث الطائرة، إننا سنمر في طريقنا إلى
محاضرة سوهاج على بيتي الذي يقع في المنتصف بين المحافظتين، فهل يمكن أن ننزل فيه
لاستراحة قصيرة نشرب فيها الماء، ونجدد العهد والوضوء، وأنا أعلم أن البرنامج قد
أعد سلفا، وكذلك كانت حالته الصحية ليست في أحسن أحوالها، وإذا به يجيبني بما لم
يخطر لي على بال حيث قال: “الماء فقط! ولماذا لا يكون طعاما؟ فقلت هذا فوق ما
تمنيت، فقال ولماذا لا نذهب مبكرا، ونعطي محاضرة في بلدتكم، على أن تخطب أنت
الجمعة، وأعطي أنا المحاضرة بعد الخطبة؟ فكنت لا أصدق ما أسمع، حيث أردت إكرام
الشيخ فطوقني هو بكرمه وتواضعه، حتى حُسدت على ذلك، وما أدركت كل ما أراد أن يخصني
به، وعلمت حينها أن للعلماء حاشية كحاشية الأمراء أو أشد".
موعد الناس
كان الشيخ الحويني يعاني من مضاعفات مرض السكر، ومنها التهاب الأعصاب الذي
يمنعه النوم، فاضطر بعد صلاة الفجر لأخذ دواء يعينه على الرقاد، وكنت قد هاتفت
أهلنا في سوهاج لترتيب الأمر، واستدعيت أسرتي من القاهرة لحضور هذا اليوم، وانتشر
الخبر حتى عم الآفاق، واجتمع أئمة المساجد على الصلاة في مسجد واحد، لسماع محاضرة
الشيخ الحويني بعد الخطبة، واتفقوا على المسجد الذي في مدخل البلدة، وكان معقلا
لأبناء التيار الإسلامي من بداية الثمانينيات، ونظرا لأن الشيخ نام تحت تأثير
الدواء، فكان بحاجة لمن يوقظه، وهو ما رأى القائم على البرنامج ألا يفعله، ليأخذ
الشيخ قسطا أكبر من الراحة، وقال لي لا بأس أن نذهب على محاضرة الشيخ بعد الجمعة
مباشرة، وبدأت الاتصالات تنهال علي، وأن حشودا ضخمة ملأت القرية من الليل،
واستضافهم الناس في المساجد، ومنهم من حضر من خزان أسوان على حدود السودان، ومنهم
من الجانب الآخر في صحراء الواحات ومحافظة الوادي الجديد، وكان موقفا من أشد ما
لاقيت في حياتي، لأني دعوت الناس على الغداء على شرف قدوم الشيخ، حتى اقترب مني
بعض تلاميذه ممن ظهرت مودتهم وبقيت محبتهم، وأسر إليّ أن أسعى في إيقاظ الشيخ عن
طريق أولاده، وكان هذا بعد انتهاء وقت الجمعة، فاستيقظ الشيخ الحويني مغضبا، وعاتب
بشدة على تأخير إيقاظه، وقدموا له إفطارا ليأخذ بعده الدواء، فقال كيف يطيب لي
الطعام والناس تنتظر في الشارع؟ ورفض الطعام والدواء معا، وطلب أن نتحرك بسرعة إلى
موعد الناس، فجهزوا لي سيارة خاصة غير سيارة الشيخ فرفض، وقال، بل نكون معا في
سيارة واحدة، ومعنا رفيقه الشيخ شكري رحمه الله، وكان من أحب الناس إليه.
وصلنا قبل العصر إلى بلدتي الطليحات
وهي على بعد أميال من مدينة طهطا، التي هي أول ما يقابل القادم من أسيوط بعد مدينة
طما، ووجدنا الناس ما زالت منتظرة، لاسيما من حضروا من محافظات أخرى، وألقى الشيخ
محاضرة رائقة، عن قصة الصحابي الجليل جليبيب، وهي مما يذكره كثيرا ويتأثر به، ولفت
نظري أن جيراننا من النصارى خرجوا لرؤية الشيخ والسلام عليه، وكان في استقباله
كبار علماء منطقة سوهاج الأزهرية، وفي مقدمتهم شيخنا فضيلة الشيخ عوض أحمد عبد
الرحيم، وكذلك نائب رئيس مجلس الدولة المستشار رمضان حمودة عليهم رحمة الله جميعا،
وقضى الشيخ الحويني معنا وقتا مباركا، وسعد بالأنس بحديثه الشباب والشيوخ، ثم
ذهبنا إلى مدينة سوهاج لإلقاء المحاضرة، وقبلها مررنا سريعا مع الشيخ على بيت
أصهاره صلة للرحم، وليسلم حاتم الحويني وإخوانه على أخوالهم.
فرحة غامرة
ثم رجعنا إلى أسيوط في اليوم نفسه، وفي اليوم التالي كانت المحاضرة في
الجامعة، وكانت فرحة الشيخ الحويني بالطلاب غامرة، وفرحتهم به عارمة، ولم تتسع
القاعات ولا الطرقات للحضور، وقدر عدد الحضور في المحاضرة العامة التي قبلها بستين
ألفا، ولأول مرة أرى الشباب يجلسون على أغصان الشجر، لأنه لا مكان لهم على الأرض،
وكان الشيخ يكرر في لقاءات الصعيد أنه المخزون الاستراتيجي للإسلام في مصر، وأن
الزيارة من بركات العهد الجديد، حيث كان ممنوعا أمنيا من زيارة الصعيد.
وللشيخ الحويني تعلق بسوهاج من زاوية أخرى، فقد كان متيما بالقارئ الشيخ
محمد صديق المنشاوي رحمه الله، وكان يقول: المنشاوي أفسد عليّ أذني، فلا أكاد أسمع
غيره، وبلغ من حبه له أن كتب عنه ترجمة وافية كما يترجم لعلماء الحديث، وزار بلدته
“المنشاة في سوهاج” وسأل أصحاب محلات العصير والمقاهي عن سر اختيارهم لسماعه في
الصباح، وكان يقول: الصعيد مكرم بالقرآن، الشيخ المنشاوي صعيدي والإمام ورش صعيدي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*
ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي
الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.