البحث

التفاصيل

حث الإسلام على العمل والإنتاج ومحاربة البطالة

الرابط المختصر :

حث الإسلام على العمل والإنتاج ومحاربة البطالة

بقلم: د. انجوغو امباكي صمب

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

-     وجوب السعي للكسب والإنتاج:

ومن مقاصد التربية الإسلامية وغاياتها توجيه القادرين إلى العمل، والسعي لكسب الرزق، بكل طريقة مشروعة، وتشجيع الإنتاج، ومحاربة البطالة، وذم الكسل والتواكل والعجز؛ ذلك لأن العمل هو (وسيلة استخراج معظم منافع الأرض، وهو أيضاً طريقٌ لإيجاد الثروة، بمثل الإيجار والاتجار، وقوامه سلامة العقل وصحة الجسم، فسلامة العقل: التمكن من تدبير طرق الإثراء، والصحة لتنفيذ التدبير، مثل استعمال الآلات واستخدام الحيوان، ومنه الغرس والزرع، والسفر لجلب الأقوات والسلع)[1].

فقد هيأ الله تعالى أسباب الرزق، ودل على الطرق المباحة في كسبه، وأمر القادرين بالمشي في أقطار الأرض المختلفة، والانتشار في آفاقها الواسعة، لكسب الرزق والابتغاء من فضل الله، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}[الملك: 15]، عن ابن عباس رضي الله عنه: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا}، (يقول: امشوا في أطرافها)[2]، وعن مجاهد - رحمه الله – قوله: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا}، (قال: طرقها وفجاجها)[3]، وقال القرطبي - رحمه الله - عن الأمر الوارد في الآية: (هو أمر إباحة، وفيه إظهار الامتنان، وقيل: هو خبر بلفظ الأمر، أي لكي تمشوا في أطرافها ونواحيها وآكامها وجبالها)[4]، وقال ابن كثير - رحمه الله - في تفسير الآية: (أي: فسافروا حيث شئتم من أقطارها، وترددوا في أقاليمها وأرجائها، في أنواع المكاسب والتجارات، واعلموا أن سعيكم لا يجدي عليكم شيئًا، إلا أن ييسره الله لكم)[5].

وفي الآية الكريمة إرشاد وتوجيه إلى السعي في الأرض، والتنقل في أرجائها، لطلب الرزق بشتى أسبابه: من بيع وشراء، وصناعة وخدمة، وتوريد واستيراد ونحوها، وفيها -أيضًا- تنويه بالتجارة الدولية، والعلاقات الاقتصادية بين البلدان، سواء كان ذلك عبر البر، أو البحر، أو الجو.

وقال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10]، أي: (إذا فرغتم من الصلاة، فانتشروا في الأرض للتجارة والتصرف في حوائجكم، {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}، أي: من رزقه)[6].

وقال تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20]، وهذه الآية ناسخة لوجوب قيام الليل على المسلمين، مع ذكر الحكمة في ذلك، وذلك كما يقول الرازي رحمه الله: (لتعذر القيام على المرضى والضاربين في الأرض للتجارة، والمجاهدين في سبيل الله، أما المرضى، فإنهم لا يمكنهم الاشتغال بالتهجد لمرضهم، وأما المسافرون والمجاهدون فهم مشتغلون في النهار بالأعمال الشاقة، فلو لم يناموا في الليل، لتوالت أسباب المشقة عليهم)[7].

وفي شعيرة الحج، حيث يأتي إليها الناس من كل فج عميق، ويتبادلون فيما بينهم المنافع المادية والمعنوية، يؤذن للحجاج بالبيع  والشراء، وما يتصل بهما من معاملات تجارية، من صرافة، وتحويلات، وإجارات، وشحن، ونقل، وغيرها، قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198]، وعن ابن عباس رضي الله عنه: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ }، (لا حرج عليكم في الشراء والبيع قبل الإحرام وبعده)[8]، وقيل: (هذه الآية نزلت في قوم كانوا لا يرون أن يتجروا إذا أحرموا، يلتمسون البر بذلك، فأعلمهم جل ثناؤه أن لا بر في ذلك، وأن لهم التماس فضله بالبيع والشراء)[9].

وقال الشيخ رشيد رضا رحمه الله تعالى: (والمراد من الآية: أن الكسب مباح في أيام الحج إذا لم يكن هو المقصود بالذات، وأنه مع حسن النية، وملاحظة أنه فضل من الرب تعالى، يكون فيه نوع عبادة، وأن التفرغ للمناسك في أيام أدائها أفضل، والتنزه عن جميع حظوظ الدنيا في تلك البقاع الطاهرة أكمل)[10].

والإنسان مهما بلغ في الفضل والرتبة فليس أكبر من أن يمارس عملًا، أو يزاول مهنة، كي يأكل من عمل يده، ويعيش بعرق جبينه، فعن المقدام بن معد يكرب - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما أكل أحد منكم طعامًا أحب إلى الله عز وجل من عمل يديه»[11]، قال ابن حجر رحمه الله: (والمراد بالخيرية: ما يستلزم العمل باليد من الغنى عن الناس)[12]، وهذا الحديث أصل في وجوب تحقيق الكفاية في الحوائج والضروريات، بحيث يستطيع الإنسان أن يوفرها بنفسه دون الاعتماد على غيره، وسواء في ذلك الفرد أو الجماعة أو الدولة.

وكان السلف الصالح - رضي الله عنهم - أصحاب مهن وتجارة، يتكسبون بها ويقتاتون، ولم يدب الكسل والعجز إلى أمة محمد إلا من بعدهم، قالت عائشة رضي الله عنها: (كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمال أنفسهم)[13]، قال بدر الدين العيني رحمه الله: (أي: كانوا يكتسبون بأيديهم، أو بالتجارة، أو بالزراعة، وفيه: ما كان عليه الصحابة من اختيارهم الكسب بأيديهم، وما كانوا عليه من التواضع)[14].

بل كانوا - رضي الله عنهم - يربون الناس على العمل والكسب من أجل طلب الرزق، وينهونهم عن التواكل والبطالة، ولو باسم الدين، أو دعوى الزهد والتقشف، وروي عن عمر - رضي الله عنه – قال: (لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق، يقول اللهم ارزقني، فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة))[15]، وروي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: (إني لأكره أن أرى الرجل فارغًا؛ لا في أمر دنياه، ولا في أمر آخرته)[16].

 وقيل لأحمد رحمه الله: ما تقول فيمن جلس في بيته وقال: لا أعمل شيئًا حتى يأتيني رزقي؟ فقال أحمد: هذا رجل جهل العلم، أما سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله جعل رزقي تحت ظل رمحي»[17]؟ وقوله - صلى الله عليه وسلم - حين ذكر الطير، فقال: «تغدو خماصًا وتروح بطانًا»[18]؟

والعمل والسعي لكسب الرزق مذهب طائفة من علماء السلوك ورجال التربية والتصوف، بخلاف من اختار منهم الخمول والتواكل والفقر مذهبًا ومسلكًا، فقد قال أبو حامد الغزالي - رحمه الله تعالى - في مقدمة (كتاب آداب الكسب والمعاش)، وهو الكتاب الثالث من ربع العادات من كتاب إحياء علوم الدين: (وليس التشمر في الدنيا مقصورًا على المعاد، دون المعاش، بل المعاش ذريعة إلى المعاد، ومعين عليه، فالدنيا مزرعة الآخرة، ومدرجة إليها، والناس ثلاثة: رجل شغله معاشُه عن معادِه، فهو من الخاسرين، ورجل شغله معادُه عن معاشِه، فهو من الفائزين، والأقرب إلى الاعتدال هو الثالث، الذي شغله معاشُه لمعادِه فهو من المقتصدين، ولن ينال رتبة الاقتصاد من لم يلازم في طلب المعيشة منهج السداد، ولن ينتهض من طلب الدنيا وسيلة إلى الآخرة وذريعة ما لم يتأدب في طلبها بآداب الشريعة)[19].

أضف إلى ذلك أن العمل والسعي لكسب الرزق من ضرورات الحياة المستقرة، ومن مظاهر التمدن والحضارة، قال ابن عاشور رحمه الله: (من أصول الحضارة البشرية أن يدأب المرء إلى تحصيل ما يحتاج إليه؛ لتقويم أَوْدِ حياته، وسلامته، فهو يصيد لطعامه، ويبني البيت أو الخُصَّ للتوقي من الحرِّ والقر، ويعد السلاح للدفاع، وهو يتجشّم في السعي لنوالِ ذلك عرَقَ القِربة أو وحشةَ الغُربة، ويتحمل لذلك كله ما يبلغ به الجهد والتعب وإعمال الرأي، وكل ذلك التدبير يبعثه على التكثير من ادخار ما قد يتطلبه، والاحتفاظ بما يفضل عن حاجته، ادخارًا لشدائد الأزمان أو تباعد المكان، ويزيده حرصًا على هذا الادخار شعوره بإمكان الفقدان لعجز أو عدم)[20].

-     من ثمرات التوجيه إلى الكسب والإنتاج:

للتوجيه إلى السعي لكسب الرزق والعمل والإنتاج ثمرات كثيرة، ومنافع جليلة ومنها:

1-             حفظ الأموال وتوفيرها:

مما يستفاد من الكسب والإنتاج والجد في طلب الرزق وفرة الأموال وكثرتها ورواجها، وحفظها من الاحتكار والركود و الضياع، وبذلك يرتفع الدخل الفردي في المجتمع، ومستوى النمو في الدولة، ولا شك أن ذلك من أهم مقاصد الشريعة الإسلامية، قال ابن عاشور رحمه الله :(قد تقرر عند علمائنا أن حفظَ الأموال من قواعد كليات الشريعة الراجعة إلى قسم الضروري، ويُؤخذُ من كلامهم: أن نظام نماء الأموال، وطرق دورانها هو معظم مسائل الحاجيات كالبيع)[21]، وقال رحمه الله: (فالرواج دوران المال بين أيدي أكثر مَنْ يمكن من الناس بوجه حق، وهو مقصد عظيم، شرعي، دل عليه الترغيب في المعاملة بالمال، ومشروعية التوثّق في انتقال الأموال من يد إلى أخرى)[22]، ويقول الدكتور مصطفى قطب سانو: (فاستدامة تنمية المال ضرورة دينية وواقعية، ذلك لأن حاجة البشرية إلى المال تزداد يومًا بعد يوم؛ بسبب التطورات التي لا تفتأ تداهم الحياة بين الحين والآخر)[23].

2-             تبادل المنافع وتحقيق السخرة بين الناس:

فلا بد للناس من تبادل المنافع والخدمات فيما بينهم، فينتفع كل واحد منهم مما عند الآخر، حسب سنة السخرة الكونية، والتي من شأنها توفير فرص أعمال، ومصادر أرزاق، لكل قادر وراغب، قال تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}[الزخرف: 32]، قال الطبري رحمه الله: (يقول تعالى ذكره: بل نحن نقسم رحمتنا وكرامتنا بين مَنْ شئنا من خلقنا، فنجعل مَنْ شئنا رسولًا، ومن أردنا صِدّيقًا، ونتخذ من أردنا خليلًا،كما قسمنا بينهم معيشتهم التي يعيشون بها في حياتهم الدنيا من الأرزاق والأقوات، فجعلنا بعضهم فيها أرفع من بعض درجة، بل جعلنا هذا غنيًّا، وهذا فقيرًا، وهذا ملكًا، وهذا مملوكًا ، لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا)[24].

وقال الزمخشري - رحمه الله - في الحكمة من سنة التسخير الكونية: (هو الذي قسم بينهم معيشتهم، وقدرها، ودبر أحوالهم تدبير العالم بها، فلم يسوّ بينهم، ولكن فاوت بينهم في أسباب العيش، وغاير بين منازلهم، فجعل منهم أقوياء، وضعفاء، وأغنياء، ومحاويج، وموالي، وخدمًا، ليصرف بعضهم بعضًا في حوائجهم، ويستخدموهم في مهنهم، ويستسخروهم في أشغالهم، حتى يتعايشوا، ويترافدوا، ويصلوا إلى منافعهم، ويحصلوا على مرافقهم، ولو وكلهم إلى أنفسهم، وولاهم تدبير أمرهم، لضاعوا وهلكوا)[25].

وهذه السنة الكونية عامة لجميع الخلق، وشاملة لكل أمورهم، ولا يُستثنى منها نبي مرسل، ولا ملك جبار، ولا غني ولا فقير، ولا ذكر ولا أنثى، ولا سيد ولا عبد، قال -تعالى- عن نبيه موسى - عليه الصلاة والسلام - وعمله أجيرًا، لقضاء حاجته في الزواج: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ}[القصص: 26 – 28].

 وقال الشاعر العربي:

الناسُ للناسِ من بَدْو وحاضرة = بعض لبعض وإن لم يشعروا خدمُ

وفي الشريعة الإسلامية تشريعات كثيرة في باب المعاملات، تدخل في مفهوم السخرة، وتنظيم تبادل المنافع بين الناس، ومنها:

-      المكاتبة: وهي (عتق على مال مؤجل من العبد، موقوف على أدائه)[26]، ودليل مشروعيتها قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}[النور: 33].

-     المساقاة: وهي (عقد على عمل مؤنة النبات بقدر، لا من غير غلته، لا بلفظ بيع أو إجارة أو جعل)[27]، ودليل مشروعيته ما روى أبو هريرة - رضي الله عنه – قال: (قالت الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل، قال: «لا»، فقالوا: تكفونا المئونة، ونشرككم في الثمرة، قالوا: سمعنا وأطعنا)[28].

-     الاستصناع: وهو (أن يقول إنسان لصانع من خفاف أو صفار أو غيرهما: اعمل لي خفًّا، أو آنية من أديم أو نحاس، من عندك بثمن كذا، ويبين نوع ما يعمل وقدره وصفته، فيقول الصانع: نعم)[29]، والحكمة في مشروعية الاستصناع (أن الحاجة تدعو إليه؛ لأن الإنسان قد يحتاج إلى خف، أو نعل من جنس مخصوص، ونوع مخصوص، على قدر مخصوص وصفة مخصوصة، وقلما يتفق وجوده مصنوعًا، فيحتاج إلى أن يستصنع، فلو لم يجز لوقع الناس في الحرج)[30].

-     الإجارة: وهي (تمليك منافع مقدرة بمال، والاستئجار تملك ذلك)[31]، وقال تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}[القصص: 26 – 27]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يستام الرجل على سوم أخيه، ولا ينكح على خطبته، ولا تناجشوا، ولا تبيعوا بإلقاء الحجر، ومن استأجر أجيرًا فليعلمه أجره»[32]، والحكمة في مشروعية الإجارة (إنما شرع العقود لحوائج العباد، وحاجتهم إلى الإجارة ماسة؛ لأن كل واحد لا يكون له دار مملوكة يسكنها، أو أرض مملوكة يزرعها، أو دابة مملوكة يركبها، وقد لا يمكنه تملكها بالشراء لعدم الثمن، ولا بالهبة والإعارة؛ لأن نفس كل واحد لا تسمح بذلك، فيحتاج إلى الإجارة فجوزت)[33].

3-             حفظ الكرامة الإنسانية:

وهو ما عبر عنه الدكتور مصطفى قطب سانو بـ (بتحقيق الرفاهية الشاملة لأفراد المجتمع الإسلامي؛ بحيث يتم إشباع كافة الحاجات الأساسية، وإزالة كافة المصاعب)[34]، فالعمل والسعي لكسب الرزق يحفظ للإنسان كرامته، ويصون عرضه وشرفه، وقد أثر عن لقمان الحكيم - عليه السلام - في موعظة لابنه  قوله: (يا بني استغن بالكسب الحلال عن الفقر، فإنه ما افتقر أحد قط إلا أصابه ثلاث خصال: رقة في دينه، وضعف في عقله،  وذهاب مروءته، وأعظم من هذه الثلاث استخفاف الناس به)[35]، ولا شك أن هذه الحكمة اللقمانية تنطبق على الأفراد، وعلى الشعوب، وعلى الأمم؛ ولذلك جاء في الشريعة الإسلامية الحث على الاستغناء، وعدم التواكل، وتوفير العزة والكرامة، والبعد عن كل ما يذهبهما من قول أو فعل أو حال.

 قال ابن عاشور رحمه الله: (ما يُظَنُّ بشريعة جاءت لحفظ نظام الأمة وتقوية شوكتها وعزتها إلَّا أن يكون لثروة الأمة في نظرها المكان السامي من الاعتبار والاهتمام، وإذا استقرينا أدلة الشريعة من القرآن والسنة الدالة على العناية بمال الأمة وثروتها، والمشيرة إلى أن به قِوامَ أعمالها وقضاءَ نوائبها، نجد من ذلك أدلة كثيرة تفيدنا كثرتُها يقينًا بأن للمال في نظر الشريعة حظاً لا يستهان به)[36].

وقال الدكتور محمد اليوبي متحدثًا عن أهمية المال في حفظ كرامة الأمة وعزتها: (إن الدول الفقيرة المحتاجة يتسلط عليها أعدائها، فيطمعون فيها، فينشرون فيها ما يريدون من مذاهب وأفكار هدامة، تارة تحت مطرقة الرضوخ لشروط بنك النقد الدولي، وتارة باسم التعليم وفتح المدارس، وتارة عن طريق لجان الإغاثة العالمية الصليبية، كل هذه الأمور، وغيرها، تجعل المال ضرورة للأمة الإسلامية)[37]، وأزيد على كلام شيخنا محمد اليوبي: كون الغنى معينًا لأهل العلم والدعوة على الثبات، وحافظًا لهم من التذلل، والمداهنة، والنفاق، لإرضاء أصحاب الأموال، من الأغنياء، و المنظمات،  والحكام الظلمة المستبدين.

وقال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: (رأيت عموم أرباب الأموال يستخدمون العلماء، ويستذلونهم بشيء يسير، يعطونهم من زكاة أموالهم: فإن كان لأحدهم ختمة، قال: فلان ما حضر، وإن مرض، قال: فلان ما تردد، وكل منته عليه شيء نزر يجب تسليمه إلى مثله، وقد رضي العلماء بالذل في ذلك لموضع الضرورة، فرأيت أن هذا جهل من العلماء بما يجب عليهم من صيانة العلم)[38].

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

 



[1] مقاصد الشريعة الإسلامية، لابن عاشور، 3/ 470.

[2] جامع البيان في تأويل آي القرآن، 23 / 511.

[3] المصدر السابق، 23 /511.

[4] الجامع لأحكام القرآن، 18/215.

[5] تفسير القرآن العظيم، 8/179.

[6] الجامع لأحكام القرآن، 18 / 108.

[7] مفاتيح الغيب، 30 / 695.

[8] جامع البيان، 4/163.

[9] المصدر نفسه.

[10] تفسير المنار، 2/186.

[11] مسند أحمد، 28 /418.

[12] فتح الباري، 4/306.

[13] صحيح البخاري، 3/57، برقم (2071).

[14] عمدة القاري شرح صحيح البخاري، 11 /186.

[15] إحياء علوم الدين، 2/62.

[16] إحياء علوم الدين، 2/62.

[17] صحيح البخاري، 4 /40.

[18] مسند أحمد، 1/332، برقم (205).

[19] إحياء علوم الدين، 2/60. (بتصرف).

[20] مقاصد الشريعة الإسلامية، لابن عاشور، 3/ 467.

[21] المصدر نفسه، 2 /569.

[22] المصدر نفسه،  3/471.

[23] انظر مقالة بعنوان: مقاصد الاستثمار، نشر في مجلة المسلم المعاصر، السنة (26)، العدد (103 )، ص 161.

[24] جامع البيان، 21 /595.

[25] الكشاف، 4/248.

[26] شرح حدود ابن عرفة، ص 524.

[27] شرح حدود ابن عرفة، ص 386.

[28] صحيح البخاري، 3 /104.

[29] بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، 5/2.

[30] المصدر نفسه، 5/3.

[31] طلبة الطلبة في الاصطلاحات الفقهية، تأليف عمر بن محمد بن أحمد بن إسماعيل ص 124، الناشر: المطبعة العامرة، مكتبة المثنى ببغداد - 1311 هـ.

[32] السنن الكبرى للبيهقي، 6/198، برقم (11651).

[33] بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، 4/174.

[34] مجلة المسلم المعاصر، السنة (26)، العدد (103)، ص 162.

[35] إحياء علوم الدين، 2/62.

[36] مقاصد الشريعة الإسلامية، لابن عاشور 3 /452.

[37] مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقته بالأدلة الشرعية، ص 385 (بتصرف يسير)، تأليف محمد سعد بن أحمد اليوبي، الناشر: دار الهجرة للنشر والتوزيع – الرياض 1415هـ.

[38] صيد الخاطر، لابن الجوزي، ص 224. 


: الأوسمة


المرفقات

التالي
قراءة في كتاب: "المسلمون ونصرة قضايا الأمة.. أحكام وضوابط"
السابق
رئيس الاتحاد يلتقي بالرئيس مسعود البرزاني لبحث مستقبل المنطقة وتعزيز السلم الإقليمي

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع