لا أحد يستطيع أن يتنبأ بنتائج مباراة كسر العظم الدائرة في الساحة السياسية المصرية هذه الأيام. مع ذلك بوسع المراقب أن يسجل بعض الملاحظات على جولاتها ومسارها. على الأقل فهذا ما حاولته في التعامل مع مشهد بات متعذراً الدخول فيه أو الخروج منه.
(1)
أولى الملاحظات أن ساحة الصراع الراهن باتت موزعة بين القضاء والفضاء. إذ لا بد ان تثير حيرة المرء ودهشته أن يصبح القضاة رأس الحربة في المعركة الدائرة بين جماعات المعارضة وبين الرئيس محمد مرسي. ذلك أن القضاة لم يعتادوا أن يذهبوا بعيداً في الأشتباك مع رئيس الدولة إلى الحد الذي يجعلهم يعلنون تحدية والصدام معه. بل وتصعيد إجراءات المواجهة حيناً بعد حين. وما يبعث على الدهشة أن الذين يقودون ذلك الصدام أناس وصفوا ثوار يناير بأنهم من الرعاع، ولم يسمع لهم صوت في ظل النظام السابق، سواء حين سحل أحد المستشارين أيام نادي القضاة، أو حين تم تزوير الانتخابات بشكل فاضح رغم أنف الإشراف القضائي. كما أننا لم نسمع لهم صوتاً في الدفاع عن دولة القانون حين أصدر المجلس العسكري إعلانه الدستوري الذي فرض فيه وصاية العسكر على مصر.
لقد أصدر المجلس العسكري خمسة إعلانات دستورية لم يطعن في أي منهما أمام المحاكم، ولكننا فوجئنا بالطعون تتوالى لوقف كل خطوة إلى الأمام بعد إقصاء المجلس وانتخاب رئيس الجمهورية. وكان إلغاء مجلس الشعب بصورة متعسفة بدا فيها التحيز السياسي واضحاً أحد أبرز الضربات التي وجهت إلى النظام الجديد. ولم يكن سراً أن طعون الإلغاء استهدفت مجلس الشورى والجمعية التأسيسية لوضع الدستور كما استهدفت إلغاء الإعلانات الدستورية التي أصدرها الرئيس مرسي، الأمر الذي من شأنه العودة بالثورة إلى نقطة الصفر والإبقاء على البلد بغير سلطة تشريع ورقابة منتخبة وبغير دستور.
في الصف الأول من المعارضة السياسية وقف بعض القضاة، فمنهم في حكًم الهوى السياسي في أحكامه، ومنهم حرص على وقف العمل بالنيابات العامة والمحاكم، ومنهم دعا إلى مقاطعة الإشراف على الاستفتاء على الدستور في منتصف شهر ديسمبر الحالي.
وإذ أفهم أن يحتج القضاة على ما بدا أنه ماس باستقلال السلطة القضائية في الإعلان الدستوري الجديد. لكن ما لم يكن مفهوماً أن يلجأ بعض قياداتهم إلى توسيع نطاق الصدام مع رأس الدولة إلى الحد الذي أشرت إليه تواً، وأن يزج بالمحاكم باختلاف درجاتها كي تصبح طرفاً في ذلك الصدام. كما لم يكن مفهوماً أن تسعى بعض الرموز الناطقة باسم القضاة إلى التواطؤ مع اطراف أخرى من المحامين لتأجيج الحريق المشتعل وتوسيع نطاقه. وصار مستغرباً أن تعلن شخصية قضائية من اعضاء المحكمة الدستورية العليا في أكثر من مناسبة وموقع ان الرئيس فقد شرعيته، في انحياز إلى موقف له تأثيره على مصير قضايا معروضة أمام المحكمة.
لقد ذكرت مصادر الرئاسة أن الأزمة بدأت بتغول من جانب السلطة القضائية على السلطتين التشريعية والتنفيذية في حل مجلس الشعب واعتبرت ان شبح ذلك التغول هو الذي دفع الرئيس مرسي إلى تحصين قراراته ضد الإلغاء من جانب الأطراف القضائية التي انضمت إلى المعارضة السياسية، وفهم أن بينها من شارك في سيناريو إعادة حكم المجلس العسكري مرة أخرى.
لا أستبعد ذلك التبرير. لكني ازعم انه من المهم أيضاً الانتباه إلى عدة أمور، منها أننا نتحدث عن فئة محدودة من القضاة تصدرت مواقع القيادة في بعض هيئاتهم. منها أيضاً أن الذين حرًضوا القواعد للتصادم على السلطة خليط من عناصر، بعضها له غيرته على استقلال القضاء، لكن البعض الآخر كانت له دوافعه الأيديولوجية، كما ان هناك عناصر أخرى لها ارتباطاتها بالنظام السابق. ولا أتردد في القول إن سلبيات صياغة الإعلان الدستوري الأخير الذي أصدره الدكتور محمد مرسي استنفرت هؤلاء جميعاً وحشدتهم في مربع واحد وضعنا في الموقف الذي صرنا إليه.
(2)
إذا كان القضاء هو رأس الحربة في الاشتباك الدائر، فإن الفضاء الإعلامي هو الساحة التي تدور فيها رحى المعركة، وإذا كان القضاء يضغط على السلطة ويتحداها، فإن منابر الفضاء هي التي تنقل ذلك كله إلى الناس وهي التي تشكل وعي المجتمع. اضع التلفزيون في مقدمة تلك المنابر. وتأتي بعده الصحف، حيث بات معلوماً في الدنيا كلها أن الإعلام المرئي أقوى تأثيراً بمراحل من المقروء والمسموع. وإذا ما تلفت المرء حوله من هذه الزاوية فسوف يجد أن أغلبية المصريين لم ينقسموا في الوقت الراهن فقط إلى مؤيدين للرئيس مرسي ومعارضين له، لأن هؤلاء انقسموا إلى مشاركين في التظاهرات والاعتصامات بالميادين وآخرين تسمروا أمام شاشات التلفزيون لمتابعة ما يحدث في البلد. وأكثرنا لا ينسون ان الذين اعتصموا في ميدان التحرير لجأوا في السابق إلى توزيع شاشات التلفزيون على أرجائه لكي يتمكنوا من متابعة ما يجرى خارجه، وربما من مشاهدة انفسهم أيضاً.
لم يقف الأمر عند حد إسهام التلفزيون بالدور الأكبر في تشكيل الإدراك وترسيخ الانطباعات خلال الفترة الماضية، وإنما لا مفر من الاعتراف بأنه كان الباب الأوسع الذي دخل منه البعض إلى الحياة السياسية، فصاروا نجوماً وقياديين، رغم أنهم لم يكونوا معروفين من قبل. وتكفلت تلك النجومية التلفزيونية بدفعهم إلى الصفوف الأولى، فترشحوا إلى مواقع ولجان عدة، ومنهم من ترشح في الانتخابات وفاز فيها، ليس لأداء أو خلفية سياسية تذكر، ولكن فقط لأنهم كانوا زبائن في العديد من البرامج والمداخلات التلفزيونية، وإلى جانب النجوم الذين صنعهم التلفزيون، فإنه تولى تسويق آخرين بعد النفخ فيهم وإضفاء أوصاف التفخيم والتبجيل عليهم. فهذا فقيه دستوري وذاك محلل إستراتيجي، والثالث كاتب كبير والرابع قيادي في التنظيم الفلاني... وهكذا.
ليس ذلك حكراً علينا بطبيعة الحال. فالدور الجوهري الذي يقوم به التلفزيون في الحياة السياسية مشهود ومعترف به في كل بلاد الدنيا. لكن الفراغ السياسي عندنا الذي خلفه النظام السابق اضفى عليه أهمية مضاعفة. ذلك أن تعدد مؤسسات المجتمع المدني والحيوية السياسية التي تشع في الديموقراطيات الحديثة لها دورها إلى جانب التلفزيون في تشكيل الرأي العام. في حين ان موت السياسة والهشاشة التي يتصف بهما المجتمع المدني عندنا، جعلا من التلفزيون المؤثر الأكبر والأخطر على العقل الجمعي.
ازاء ذلك فقد أصبح السباق على شاشات التلفزيون متقدماً كثيراً على التحرك على ارض الواقع. حتى أزعم ان الفضائيات أصبحت أكبر وأقوى احزاب المعارضة في مصر. وحين يدقق المرء في خطاب مقدمي البرامج الحوارية وفى وجوه ضيوفهم فإنه سيلاحظ أن الجميع يشكلون فريقاً متناغماً يتوزع أعضاؤه على ارجاء «الملعب» لكنهم جميعاً يصوبون باتجاه مرمى واحد.
جدير بالملاحظة في هذا الصدد أن بعض قنوات التلفزيون الرسمي أصبحت تنافس الفضائيات الخاصة في ذلك الاتجاه، حتى قرأت مثلا أن قناة النيل للأخبار ظلت تبث طوال 4 ساعات تقريباً مؤتمراً لنادي القضاة حفل بالهجوم على رئيس الجمهورية والهتاف ضده، في حين أنها خصصت 4 دقائق فقط لتغطية مؤتمر «قضاة لأجل مصر» الذي أيد الرئيس ونظامه وعرض وجهة نظر مغايرة للطرف الآخر.
(3)
ثمة ملاحظة أخرى لا يستطيع المراقب أن يتجاهلها، وهي أن الأحزاب المدنية والائتلافات المتناثرة حولها ظلت متباعدة ومتنافـسة منذ قامـت الـثورة، ولم يخل الأمر من انشقاقات وتجاذبات فيما بينها. وأغلب تلك الجماعات باستثناء أحزاب اليسار، لم يكن لديها لا هدف ولا برنامج واضح. بل أزعم أن أغلبها التف حول أفراد أكثر من التفافه حول أفكار أو مشروعات سياسية متعددة الاجتهادات، كما ان عدداً منها كان يتعامل مع حزب الحرية والعدالة الممثل للإخوان باعتباره منافساً لا خصماً. إلا أن المشهد اختلف تماماً بعد الإعلان الدستوري الأخير، الذي أنقذ هذا الفريق من مأزقين هما مأزق التشرذم والتنافس والتجاذب ومأزق غياب المشروع والهدف. فتحولوا إلى كتلة واحدة لها هدف محدد هو الاشتباك مع الرئيس محمد مرسي وممارسة الضغط عليه. وفي نفس الوقت تصفية الحساب مع جماعة الإخوان وذراعها السياسي المتمثل في حزب الحرية والعدالة.
(4)
إن السؤال الذي تطرحه هذه الملاحظات هو: من صاحب المصلحة في وقف مسيرة التطور الديموقراطي في البلد؟
ما افهمه - من دون الدخول في التفاصيل - أن ما أريد هدمه هو المؤسسات المنتخبة ديموقراطيا والدستور الذي يسهم في وضع اللبنات الأولى للنظام الجديد. وما افهمه أيضاً أن من شأن تلك المؤسسات إذا قامت أن تسحب سلطة التشريع من رئيس الجمهورية وأن تشرع في ممارسة الرقابة على أداء الحكومة ومختلف أجهزة الدولة. كما أن من شأن الدستور الجديد أن يقلص من صلاحيات الرئيس ويوسع من نطاق الحريات وضماناتها، وتلك كلها خطوات تقطع الطريق على احتمالات العودة إلى الاستبداد أو إعادة إنتاج الفرعون والرئيس الإله. وهي المخاوف التي تشيع في بعض الأوساط. ولا يختلف أحد على ضرورة التخلص منها بكل السبل.
إذا صح الذي ادّعيه فإن الإجابة على السؤال تصبح بالغة الأهمية. وللأسف فإنني لا استطيع أن أتطوع بتلك الإجابة، لأن في مصر جهات اخرى حريصة على مستقبل البلد وأمنه ومن واجبها أن تجلي الغموض المريب الذي يخيم على الساحة، بما يكشف عن حقيقة المعارضة التي تريد استمرار الثورة، وتلك التي تتآمر لإجهاض مسيرتها.