البحث

التفاصيل

مفارقات بين علاج العرض والمرض في الفتنة الطائفية (صلاح سلطان)

الرابط المختصر :


العَرَضُ هو ما يبدو على السطح كحرارة الجسم والدمامل على الجلد, والمرض هو هذا الفيروس أو البكتيريا، أو ضعف جهاز المناعة الذي أدى إلى انهزام هذا الجهاز في مقاومة الفيروسات أو الميكروبات. ويفكر الكثير في علاج العَرَض؛ لأنه ظاهر وفاضح, لكن الكثير يغفل عن علاج المرض؛ لأنه كامن مستتر غالبًا. فالطفل الذي يسرق هذا عَرَض, لكن المرض هو حرمانه من حنان أبويه المتنازعين أو المنفصلين، رغم أن البعض قد يفسر المرض هنا بأن أباه لم يعطه المصروف الكافي, فإذا وجدنا أولاد الذوات والباشوات والأغنياء يسرقون، فنتأكد أن هذا سبب واهٍ، وأن المرض شيء آخر, وهو أنه لم يتربَّ تربيةً إيمانيةً أخلاقيةً تحجبه عن الموبقات في السر قبل العلن.

في الأزمة الأخيرة بمصر بين المسيحيين والحكومة المصرية تبدو ظاهرة علاج العَرَض دون المرض بشكل واضح على النحو التالي:

1- بينما يفسر البعض أن السبب هو كنيسة "المريناب" في أسوان الذي دفع بالجموع للاجتماع بأعنف الطرق أمام مبنى الإذاعة والتليفزيون المصري، فهذا في الواقع هو العَرَض الظاهر, لكن المرض الكامن هو هذا الاحتقان الذي زكاه النظام البائد, وزرع القنابل الموقوتة التي تُفَجَّرُ بين الحين والآخر من فلول الحزب الوطني وبقايا أمن الدولة. وعلاج المرض يوجب الاستمرار الشعبي والرسمي في الثورة على هؤلاء الفلول وبقايا أمن الدولة جميعًا, وبخاصة من حملوا الاسم الجديد "الأمن الوطني" بعد هيكلة أمن الدولة..

فهؤلاء الذين أجَّجوا الصراع دومًا بين الإسلاميين والمسيحيين ليساندهم الغرب -بزعمهم- حماة أبناء دينهم من المسيحيين, وإلا لو جاء المسلمون أو الإسلاميون فسوف تقطع رقاب جميع المسيحيين كما يدعون, وهو ما أفرزت الثورة المصرية عكسه تمامًا، أرقى صورة حضارية في التآلف والتعاون والتكاتف في جميع الميادين, وما أبرزته صور الواقع حيث كان المسيحي يجلب الماء في الميدان كي يتوضأ المسلم بيد المسيحي, وحرست اللجان الشعبية الكنائس قبل المساجد؛ ولذا كان التوقيت لهذا القتل الهمجي مقرونًا بصدور قانون الغدر الذي سيحجب الممارسة السياسية عن كل من تورط في التزوير والتدليس والسلب والنهب من رجالات الحزب الوطني.

2- لقد كان العَرَضُ هو استعمال السلاح والشوم والسنج من قبل المسيحيين نحو رجال الجيش والشرطة؛ مما أدى إلى قتل عدد كبير جاوز الـ(25) جنديًّا ومدنيًّا, وجرح ما يزيد على الثلاثمائة, لكن المرض أن هناك غفلة من الدولة عن وجود أسلحة فعلاً في الكنائس, وعلى حين كانت قوات أمن الدولة تقتحم المساجد, وترقب بعين ساهرة العاكفين والركع السجود, وتخنق الدعاة وتشردهم إذا خرجوا -بالكلمة فقط- عن الخط المرسوم لهم من قبل وزارة الأوقاف التي يقودها مكتب أمن الدولة, فقد كانت الكنائس -ولا تزال- حرة طليقة تفعل ما تشاء، وتدرب الشباب المسيحي على الفتوة والفروسية بل والقتال..

هناك معلومات مؤكدة أن هناك أسلحة في عدد من الكنائس، وقد استعملت من قبل في كنيسة العمرانية، أو إطلاق النار في محيط كنيسة العذراء بإمبابة، وعندما طالب أ.د. سليم العوا أن تفتش الكنائس كما يحدث مع المساجد، ثارت ثائرة الكنيسة وكأن الكنيسة حرم محصن من كل شيء! وعندنا في الإسلام الحرم المكي أو المدني لا يجير عاصيًا ولا مجرمًا، ولا يسمح فيه بإلحاد أو ظلم، ولو كانت الكنائس خالية لقالوا مرحبًا بالتفتيش في أي وقت.

ومن المرض أيضًا بقاء قانون المساجد والكنائس على الأرفف لدى النظام السابق، وورثت الحكومة الحالية والمجلس العسكري الآن سياسة وضع المراهم على الجراح الملتهبة دون العلاج الناجع "المضاد الحيوي" الذي يقتلع أصل المرض، وربما يصدر القانون الآن مسلوقًا كرد فعل للحدث دون أن يكون تخطيطًا للوقاية قبل العلاج، مثل بناء تسعة أعشار جسور مرور المشاة على محطات القطار والمترو التي لا تبنى إلا بعد أن يلتهم القطار أو المترو عشرات أو مئات أحيانًا، فنفكر آنئذٍ امتصاصًا للغضب وعلاجًا للعَرَض أن نحل الأزمة بجسر يبنى خلال أيام، وربما ينهار بعد شهور.

3- العرض في هذه الأزمة هو استعمال القوة في التعبير عن المطالب والتهديد بفصل المحافظ والوزير والغفير والرئيس والمرءوس، والمرض هو أن يعيش فصيل صغير في المجتمع مسنودًا من الخارج، ويتصرف كأنه دولة داخل الدولة، بينما الأكثرية تعيش كأنها أقلية مستضعفة في كل شيء. ومن الشواهد أن المفتي وشيخ الأزهر يُعَيَّنَان رغم أنف الأكثرية المسلمة، بينما لا مساس بمقام صاحب السمو البابا شنودة، الذي تحدى قرار المحكمة، وأعلن أنه لن يلتزم به مسيحي في مصر كلها في قانون الأحوال الشخصية، ولا يزال يخطف وفاء قسطنطين وكاميليا شحاتة، والحكومة لا تقدم منذ سنوات سوى مراهم لتسكين الألم، وتخفيف العَرَض.

أما المرض فنحن أمام رجل يتصرف كأنَّه دولة، ولكم سئمنا هذه الضغوط التي يستدعيها بعض النصارى على مصر والنظام والمصريين، رغم أن حقوق أي مسيحي في مصر تتضاعف عن حقوق الأكثرية المسلمة، وهنا تكون المساواة هي العدل، وخضوع الجميع مسلمين ومسيحيين لسلطة الدولة وسيادة القانون، وليس سلطة الكنيسة وسيادة البلطجة التي تحصد أرواح العشرات وتجرح المئات, وخسرت مصر في اليوم التالي في البورصة 10.2 مليار دولار عند افتتاحها بعد هذا الحدث الجلل.  

إذن هم يهددون أمن مصر السياسي والاجتماعي والاقتصادي، فلا بد من نظام رشيد يساوي أمام القانون بين جميع الرعايا، وينصف جميع البرايا بصرف النظر عن أديانهم أو جنسهم أو... وهذا النظام الرشيد هو العلاج الناجع والمضاد الحيوي القوي في المضي قدمًا نحو حكومة تمثل مجلس شعب منتخبًا بحرية ونزاهة، يكون قادرًا على علاج العَرَض لا المرض.

ومع هذه الجراح الثاخنة والآلام الكامنة لا بد من ضبط النفس لدى المسلمين والمسيحيين معًا ومنع الخروج إلى الشوارع لهذه القضية خاصة، وعدم الاستجابة لأي استفزاز يسرق الثورة وروحها الحضارية وينحرف بها عن أخلاق التسامح بين أبناء الوطن الواحد؛ لأن كل المعارك داخل الوطن الواحد، ليس فيها منتصر ومنهزم، بل الكل فيها منهزم.  

كما لا يجوز أن يبقى ملف علاقة المسلمين بالمسيحيين في يد رجال الأمن فقط، بل هو ملف يشترك فيه رجال الأمن والجيش والفكر والتربية والإعلام والسياسة والاقتصاد؛ كي يصل الحكماء إلى عين الدواء بعد حسن تشخيص الداء، على أن يتجرع الجميع -لأجل مصر- مرارة الدواء؛ كي نعالج المرض لا العَرَض ولو مرة واحدة.



: الأوسمة



التالي
المتفائلون في زمن اليأس (سلمان بن فهد العودة)
السابق
لماذا يراد للمسلمين وحدهم عدم الاستقواء بالدين؟ (فتحى أبو الورد)

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع