الرابط المختصر :
في الحلقة الماضية كنا قد تحدثنا عن معنى التغير والإصلاح لغة واصطلاحا ، وذكرنا الأدلة على أن التغيير والإصلاح يدخل في إطار الفرائض الشرعية التي يجب على كل مسلم ومسلمة القيام بها، فاالتغيير والإصلاح فرض وليس فضلا.
وفي هذه الحلقة والتي تليها بإذن الله تعالى سيكون حديثنا عن طرائق الإصلاح في النظام الإسلامي.
لعل العاملين في الحركات الإسلامية اليوم لا يختلفون في فرضية الدعوة إلى الله تعالى لإصلاح الفساد الذي ملأ البر والبحر بل الأجواء الإسلامية والعالمية، لكنهم يختلفون بعد هذا في طرائق هذا الإصلاح اختلافا واضحا، ومع كثرة الحركات الموجودة على الساحة العالمية الآن إلا أننا سنحاول أن نجمل أهم هذه الاتجاهات في الإصلاح، وأن نسوق أدلة كل فريق، ثم نرجح أهم ما يبدو لي صحيحا أو أصح من الناحية الفقهية، متجردين في ذلك للمصلحة الشرعية وليس لاتجاه على آخر.
اتجاهين في الإصلاح
هناك إذن على الساحة الآن ما يعود إلى اتجاهين في الإصلاح:
أ- اتجاه يرى أن الإصلاح يكون بقتال الحكام والزعماء والوزراء وسدنة الحكم، وأن يتم الاستيلاء بالقوة على مقاليد الحكم، وأن يبدأ الإصلاح العام للمجتمع من خلال أدوات الحكم ذاتها وتوجيه طاقات الدولة كلها نحو هذا الإصلاح الشامل.
ب- واتجاه آخر يرى أن الإصلاح يكون بالانطلاق أولا نحو القاعدة الشعبية في كل بلد ومدينة ومحافظة ومدرسة وجامعة ومصنع وشركة ومؤسسة حتى يتكون جيل جديد، يغير بنفسه هذه الأنظمة ويحولها أو يجبرها على احترام الإسلام عقيدة وأخلاقا وتشريعا.
ويمكن أن أصطلح على تسمية الاتجاه الأول بالإصلاح من القمة على اعتبار أنه يبدأ طريق الإصلاح بإسقاط وقتل وضرب العناصر القيادية والقمة الحاكمة، ثم يصلح القاعدة من خلال قنوات الحكم وأدواته، وأن اصطلح على تسمية الاتجاه الآخر بالإصلاح من القاعدة؛ لأنه ينطلق في الإصلاح من القاعدة ليصل بها إلى القمة، فلا يرنو إلى الحكم إلا على أيدي القاعدة الإسلامية التي تأتي بالنظام الإسلامي وتحميه، ولكل اتجاه أدلته التي سوف أحاول إجمالها قدر الوسع والطاقة.
أولا: اتجاه الإصلاح من القمة:
يستدل هؤلاء على اختيارهم بما يلي:
1. أن هؤلاء الحكام الذين يحكمون بغير شرع الله تعالى هم من الكفار، وكل من عاونهم أو سكت عليهم هو أيضا كافر مثلهم ويستدلون على ذلك لما يلي:
أ. قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (المائدة:44).
ب. أن مرتكب المعصية كافر، فإذا لم يكفر الحكام بعدم تطبيق الشريعة الإسلامية فهم كفار لارتكابهم المعاصي والآثام العديدة، وكذلك السكوت من الرعية على هذا المنكر يعد من الكبائر التي يكفر فاعلها عملا بمذهب الكفر بالمعصية واستدلوا هنا بأن إبليس عليه لعنة الله لم يجحد أوامر الله عز وجل، بل عصى ربه تعالى في أمره له بالسجود فقضى الله تعالى بكفره، وأن الله عز وجل حكم على من قتل مؤمنا متعمدا بأنه خالد في النار وهذا الخلود لا يكون إلا لكافر، يقول الله تعالى : {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} (النساء:93).
ج. أن على كل مسلم صحيح الإسلام أن يكفر كل كافر، وعليه فمن لم يكفر الكافر فهو كافر مثله.
2. إذا كان هؤلاء الحكام كفاراً والعوام الذين سكتوا عليهم ولم يكفروهم هم كفار مثلهم فإن الواجب الشرعي نحوهم هو قتالهم ويستدلون على ذلك بما يلي:
أ. قوله تعالى : {فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} (التوبة:12).
ب. وقوله تعالى: {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً} (التوبة:36).
ج. وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه} (الأنفال:39).
ويستدلون على وجوب قتلهم بقول النبي –صلى الله عليه وسلم-: "من بّدل دينه فاقتلوه" وحديث "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان..".
3. أن آية السيف وهي قوله تعالى: {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} (التوبة:5). قد نسخت كل الآيات التي تدعو إلى الرفق بالناس، وإسداء النصح، وإبلاغهم دعوة الله أولا، وقد استدلوا هنا بما ورد في بعض كتب علوم القرآن وأصول الفقه وغيرها أن آية السيف نسخت مائة وأربع عشرة آية، كما نقل السيوطي عن ابن العربي في كتابه أحكام القرآن، وقيل نسخت مائة وأربعا وعشرين آية كما جاء في كتاب الناسخ والمنسوخ للمقري، وأسوق هنا بعضا من الآيات التي قالوا بنسخها في كتاب المقري عن الناسخ والمنسوخ لأن هذا يدخل في عمدة استدلالهم، وجميع ما سأذكره يعتقدون أنها منسوخة بآية السيف:
(1) قوله تعالى: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً} (البقرة:83).
(2) وقوله تعالى: {فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ} (البقرة:109).
(3) وقوله تعالى: {وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} (البقرة:139).
(4) وقوله تعالى: {فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (البقرة:192).
(5) وقوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة:256).
(6) وقوله تعالى: {وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ} (آل عمران:20).
(7) وقوله تعالى: {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى} (آل عمران:111).
(8) وقوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} (النساء:63).
(9) وقوله تعالى: {وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} (النساء:80).
(10) وقوله تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ} (النساء:84).
(11) وقوله تعالى: {مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ} (المائدة:99).
(12) وقوله تعالى: {قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ} (الأنعام:66)
(13) وقوله تعالى: {وذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً} (الأنعام:70).
(14) وقوله تعالى: {قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} (الأنعام:91).
(15) وقوله تعالى: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} (الأنعام 108).
(16) وقوله تعالى: {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدِّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} (الأنعام:135).
(17) وقوله تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} (الأعراف:183).
(18) وقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (الأعراف:199).
(19) وقوله تعالى: {وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ} (يونس:41).
(20) وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} (يونس:99).
(21) وقوله تعالى: {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ} (يونس:108).
(22) وقوله تعالى:{وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} (يونس:109).
(23) وقوله تعالى: {وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ} (هود:122).
(24) وقوله تعالى: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} (الحجر:85).
(25) وقوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (الحجر:94).
(26) وقوله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل:125).
(27) وقوله تعالى: {وقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} (الكهف:29).
(28) وقوله تعالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} (مريم:39)، والنسخ للإنذار.
(29) وقوله تعالى: {فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} (مريم:84).
(30) وقوله تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} (طه:130).
(31) وقوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} (المؤمنؤن:96).
(32) وقوله تعالى: {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} (القصص:55).
(33) وقوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت:46).
(34) وقوله تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} (الروم:60).
(35) وقوله تعالى: {وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} (لقمان:23).
(36) وقوله تعالى: {قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (سبأ:25).
(37) وقوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (الزمر:46). قال: نسخ معناها لا لفظها بآية السيف.
(38) وقوله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (فصلت:34).
(39) وقوله تعالى: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} (المعارج:5) .
(40) وقوله تعالى: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} (غافر:12) نسخ معنى الحكم في الدنيا بآية السيف.
(41) وقوله تعالى: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} (الطارق:17).
(42) وقوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ. لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} (الغاشية:22،21) .
(43) وقوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} (التين:8) قال: نسخ المعنى فيها بآية السيف.
(44) وقوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (الكافرون:6).
هذه بعض الآيات التي ورد ذكر نسخها في كتاب واحد، ويعتقد كثير من دعاة الإصلاح من القمة صحة ما ورد فيه من النسخ بآية واحدة لكل هذه الآيات التي وصلت عندهم إلى أربع وعشرين ومائة آية، وقد حاولت أن أذكر بعضها حتى نستطيع تصور الموقف من كل هذه الآيات مما يدفع دائما إلى أخذ الطريق المحدد نحو الإصلاح القمي ، هذه أهم أدلتهم، وما يأتي بعد ذلك ينضوي بشكل أو بأخر تحت واحد من هذه الأدلة عندهم . في الحلقة القادمة بمشيئة الله تعالى نقف على أدلة الفريق الثاني الذي يرى أن الإصلاح يكون من القاعدة الشعبية ثم نختم هذه السلسة بمناقشة أدلة كل فريق وبيان الراجح منهما.
وحتى ألقاكم على خير بإذن الله تعالى سلام الله تعالى عليكم ورحمته وبركاته.