الرابط المختصر :
بيروت/ موقع الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين
"فو الله مَا شَعُرْتُ قَطُّ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ أَنَّ أَحَدًا يَبْكِي مِنْ الْفَرَحِ، حَتَّى رَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ يَبْكِي يَوْمئِذٍ" (سيرة ابن هشام).
هذه العبارة قالتها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حين رأت بكاء أبي بكر رضي الله عنه من شدة فرحه بانفراده بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة المباركة، والبكاء في حال غلبة الفرح يحصل حينما يبلغ الفرح من الإنسان مبلغًا عظيمًا فوق ما كان يأمله أو يتوقعه، كما بكى أبو هريرة رضي الله عنه حين أسلمت أمه، بعد أن كان يئس من هدايتها، فبكى من شدة الفرح(صحيح مسلم)، وكما فرح أبي بن كعب بأمر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يقرأ عليه سورة البينة وتسميته له، فبكى من شدة الفرح (صحيح البخاري)، وكما فرح الأنصار حين اختار النبي صلى الله عليه وسلم الانحياز إليهم دون الناس، وقال لهم:
"الْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ، وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ" فَبَكَى الْقَوْمُ، حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ، وَقَالُوا: رَضِينَا بِرَسُولِ اللهِ قِسْمًا وَحَظًّا (النسائي وأحمد)، ولهذا نظائر كثيرة في التاريخ والواقع، وهذه حالة من التأثر النفسي والعاطفي البالغ التي لا يملك الإنسان معها نفسه، حتى ليخرج إلى حالة مؤثرة أشد التأثير، على حد قول الشاعر:
وَرَدَ الكِتَابُ مِنَ الحَبِيبِ بِأَنَّهُ سَيَزُورُنِي فَاسْتَعْبَرَتْ أَجْفَانِي
طَفَحَ السُّرُورُ عَلَيَّ حَتَّى إِنَّنِي مِنْ عُظْمِ مَا قَدْ سَرَّنِي أَبْكَانِي
دار بخيالي هذا الحديث عن بكاء الفرح حين بدأ فضيلة الإمام الشيخ يوسف القرضاوي كلمته في لقائه مع أعضاء مكتب الإرشاد، فبعد أن حمد الله وأثنى عليه وبدأ في تهنئة الإخوان بعودتهم وعودة دارهم بعد طول معاناة وابتلاء وصبر وثبات؛ غلبت الشيخَ عيناه، وماجت نفسه بمشاعر الفرح والفتح، فأجهش بالبكاء في تأثر بالغ، وكأنه استحضر جهاد السنين الطوال وكيف توجَّه الله بهذا الفتح المبين، فكانت دموعُه التي سالتْ وصوتُه الذي اختنق أبلغ تعبير عن الإحساس بالنعمة والفرح بفضل الله {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (يونس: 58).
لقد كانت لحظة في غاية التأثير، انطلق الشيخ الجليل بعدها يتحدث عن سنن الله التي لا تتبدل ولا تتغير والقاضية بانتصار الحق وزوال الباطل وزهوقه مهما علا زبده {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} (الرعد: من الآية 17)، {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} (الإسراء)، {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} (الأنبياء: من الآية 189)، وأكَّد الشيخُ الجليلُ أنَّ الإخوانَ ظلوا يعملون رغم المكائد والحيل والابتلاءات والاعتقالات؛ ليقينهم بأن كلمة الله هي بطبيعتها العليا، فثبَّتهم الله حتى أزال الطغيان بفضله بهذه الثورة الكريمة التي نأمل أن تتسع دائرتها وتتعمق في كل بلاد المسلمين، بل في كل بلاد العالمين {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت: من الآية53).
وأبدى فضيلة الشيخ سعادته بوجوده في دار الإخوان وسط إخوانه، وهم يعملون مخلصين لله، مدركين للواقع المعيش، مهتمين بتحقيق مصالح الأمة، واعين بسنن الله في خلقه، واثقين بأن العاقبة للمتقين.
ثم أوصى فضيلة الشيخ الجليل إخوانه بشكر هذه النعمة بالقلب واللسان والجوارح؛ لتبقى النعمة وتزداد {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} (إبراهيم: من الآية 7)، وأوصى بالحفاظ على حقيقة الأخوة التي تربط بين قلوب الإخوان بكل ما تحمله من محبة وتسامح وتغافر ووفاء وإيثار، وأن يستمروا على درب المسلمين الأوائل من الأنصار الذين مدحهم الله تعالى فقال: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (الحشر: من الآية 9)، فذلك هو سبيل النصر بإذن الله.
وتوجَّه الشيخ إلى الله بالدعاء أن يحفظَ الإخوان ويثبِّتهم على طريق الحق وعلى دعوة الوسطية، مؤكدًا أن جماعة الإخوان المسلمين كانت ولا تزال وسوف تظل بوصلة الحركات الإسلامية، التي تدعو إلى سماحة الإسلام والتغيير بالتي هي أحسن، مؤكدًا أن النظام المصري السابق مارس كل أنواع الاستبداد والتشويه ضد الإخوان المسلمين، إلا أن الله سبحانه وتعالى أبى إلا أن ينتصر الحق على يد شباب مصر الثائر.
وكان الأخ الكريم الشيخ عصام تليمة قد أبلغني قُبَيْل عيد الفطر المبارك بأن فضيلةَ الإمام الشيخ القرضاوي- حفظه الله قد- عاد لتَوِّه من رحلة العمرة، ويرغب في زيارة الإخوان في المركز العام، فأبلغتُ فضيلةَ المرشد العام والإخوانَ الذين أعلنوا سعادتهم بهذه الزيارة الكريمة، وتحدد لها يوم السبت 3/9، حيث كان ذلك موعد انعقاد الجلسة العادية لمكتب الإرشاد عقب إجازة عيد الفطر، وكان لقاءً وديًّا خالصًا مؤثرًا مليئًا بالمشاعر الدفاقة والدافئة، وناقش فضيلة الشيخ مع إخوانه بعض القضايا المتعلقة بالدعوة، واستفسر عن موقف الأخ الكريم الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، وشرح له فضيلة المرشد باختصار تتابع الأحداث والقرارات وموقف الإخوان من الترشح للرئاسة ودوافع هذا الموقف، وأكد فضيلة المرشد أن الإخوان لم ولن يرشحوا للرئاسة أحدًا من الإخوان، ولم يدفعوا أحدًا للترشح، وتحدث فضيلة المرشد عن مكانة الشيخ القرضاوي ودوره في نشر وسطية الإسلام في ربوع العالم، وتبنِّيه للقضايا العربية والإسلامية، الأمر الذي أحدث زخمًا سياسيًّا وإعلاميًّا كبيرًا حرك الشعوب الإسلامية في قضايا عدة، كانت أبرزها القضية الفلسطينية، والحصار على قطاع غزة، والثورات العربية التي كان للشيخ القرضاوي دور كبير في إلهاب مشاعر الجماهير التي تحركت ضد الظلم والاستبداد.
وكان من أهم ما ركَّز عليه فضيلة الإمام القرضاوي دعوةُ الإخوان إلى المزيد من الاهتمام بالدعاة والعلماء وطلاب العلم الشرعي، حتى تستكمل الجماعة طريقها على بصيرة، وذكرْتُ للشيخ طرفاً من الجهد الضخم الذي يقوم به قسمُ نشر الدعوة في هذا الصدد، مع وعد بإطلاع الشيخ على مضمون هذا الجهد، والاستفادة من جهوده وآرائه وتوجيهاته في هذا الصدد بإذن الله.
بارك الله في شيخنا وأطال في عمره ونفع به الإسلام والمسلمين.