الرابط المختصر :
بيروت/ موقع الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين
يحدث الصيام سلاما اجتماعيا كبيرا لا نظير له في أي مجتمع آخر ، ويتجلى ذلك فيما يلي :
1 - في رمضان تصفد مردة الشياطين ، وتنادي ملائكة الرحمن يا باغي الخير أقبل ، ويا باغي الشر أقصر كما ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ، فتجد المساجد ملأى، والصدقات تتزايد ، والأرحام تتزاور ، ومع الصيام والقيام والذكر والدعاء تهدأ النفوس ويشيع الهدوء والسلام والعفو والتسامح والغفران بين أبناء المجتمع الإسلامي ، فإن ظهر مستفز يقابله جاره أو صديقه أو قريبه بقوله إني صائم مرتين ؛ لأنه مشغول بالله عن الخصام، هذب الصيام شهوة الغضب فلم تعد هادرة فتاكة لبنيان المجتمع .
2 - في رمضان يرغب كل مسلم في إطعام الطعام وإفشاء السلام ، هذا مع شعيرة القيام ، وهي السلالم إلى الجنان كما أخبر نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام ، وإطعام الطعام يتنوع بين دعوة ذوى الأرحام والأهل والأقارب والأصدقاء والجيران مسلمين وغير مسلمين كى يتناولوا جميعا طعام الإفطار مما يساهم بقوة فى توثيق الأواصر الإنسانية والروابط الاجتماعية والوحدة الوطنية بين أبناء المجتمع الواحد، وتظل آيات القرآن تحث على الإطعام حبا للرحمن لكل إنسان مسكينا ويتيما وأسيرا مما يؤكد على أهمية الإطعام بصرف النظر عن لون ودين وجنس هذا الإنسان .
3 - كما يكثر الإطعام على سبيل التهادي ، فإنه يزيد كثيرا أيضا على سبيل التصدق والبر والصلة للفقراء والأيتام ، وهذه الكفارات العديدة، وإفطار الصائمين مما يجلب مغفرة الذنب والعتق من النار ، وكذلك حقائب رمضان لكفالة المحتاجين مما ينزع فتيل الأحقاد والأغلال بين الأغنياء والفقراء ، فلا يحقر غنيٌ فقيرا، ولا يحسد فقير غنيا بل هما معاً ابتلاهم الله بالمال كثرة وقلة ليجزي الكريم قرباً من الله والجنة والناس وبعداً عن النار ، ويجزي الفقير خيرا على صبره ورضاه بقدر الله مع بذله لقصارى جهده ، فأي سلام أعظم من هذا الحب والانسجام بين أبناء المجتمع الواحد ؟!.
4 - في رمضان ، ومع معايشة آثار الصيام تكون أعظم فرصة لإنهاء الخصام ، وجمع المسلمين الذين فرقهم الشيطان ، وأحدث فجوة بين الإخوان أو الأهل والخلان ، أو الأقارب والجيران، فهنا تكون أعظم فرصة مع هدوء النفس ، وعظم الأجر ، وانتشار الخير أن يتسامح كل مع الآخر ، وهنا يأتي دور المصلحين الذين يدركون عظمة أجرهم لما رواه ابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ألا أدلكم على خير من الصلاة والصدقة والصلة والصيام، قلنا بلى يا رسول الله قال: إصلاح ذات البين ، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ، ولكن تحلق الدين )، فيقوم هؤلاء المصلحون تحت شعار{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الحجرات : 10) بالسعي لجمع المتشاحنين وتذكير المتخاصمين من أبناء المجتمع الواحد أن الله يبسط رحمته ومغفرته لكل مسلم إلا أن يكون مشاحنا لأخيه، كما في حديث البخاري عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أُريت ليلة القدر فخرجت أخبركم بها فتلاحا (تشاحن) مسلمان فرفعت ، فالتمسوها في الوتر من العشر الأواخر من رمضان ). ففى عهد النبوة تخاصم مسلمان فرفع عن المجتمع كله رحمة واسعة وهى معرفة موعد ليلة القدر تحديداً لا يفوت معه إدراك ثواب ليلة القدر ، وهذا يؤكد مسئوليتنا عن تحقيق السلام الاجتماعي وأن يسعى كلٌ إليه.
5 - هؤلاء المصلحون بين المتخاصمين لو اضطروا إلى دفع مال لإنهاء نزاع كبير بين عائلتين أو فريقين ، فيحل لهم شرعا أن يأخذوا من أموال الزكاة أو الصدقات لأنهم تحملوا حمالة أي تحملوا مسئولية مالية في الإصلاح فحلت لهم المسألة حتى يصيبوا قواما من عيش كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم ، هذا بالطبع إن كان لا يستطيع القيام بها ابتغاء الاحتفاظ بكامل الأجر.
6 - مما يؤكد أهمية هذا التواصل والسلام الاجتماعي الذي يصدر عن حب ورغبة في الخير والأجر أن هذا التواصل ليس فقط بين الأحياء بل إذا مات المسلم في مجتمع إسلامي فإنهم لا يودّعونه ليتخلصوا منه ، بل يحرصون على آخرته ومنه ما رواه البخاري ومسلم وأبو داود بسندهم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : ( من مات وعليه صيام صام عنه وليه ) ، وذكر ابن حجر العسقلاني: (من مات وعليه صوم ثلاثون يوما فجمع له ثلاثون رجلا صاموا عنه يوما واحداً أجزأ عنه ) ، هذه صورة من أعظم التراحم بين المسلمين أحياء وأمواتا حتى يلقوا الله جميعا فيكون أملهم أن يكونوا فى ظل الله يوم لا ظل إلا ظله {في ظلال على الأرائك متكئون} (يس من الآية 56), {إخوانا على سرر متقابلين} (الحجر من الآية 28).
7 - من المكارم الأخلاقية للمجتمع المسلم أنه إذا كان المسلم صائما صوم تطوع ونزل به ضيف أو نزل الضيف صائما على قوم فإن الأصل أن يفطر الصائم إكراما لضيفه أو عدم إحراج لمضيفه ، ومشاركة له فى الطعام ، وفى هذا يروى الترمذي وابن ماجه بسندهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا نزل الرجل بالقوم فلا يصوم إلا بإذنهم ) ، ومنه وصية النبي صلى الله عليه وسلم لعبدالله بن عمرو بن العاص " إن لزَوْرِك عليك حقاً حيث كان يصوم كل يوم فلفت النبي صلى الله عليه وسلم نظره ونظرنا معه إلى أن هذا الصوم المتواصل يضعف كثيرا من الحقوق ومنها حق الضيف، وهذا ما لا نجده في أي مجتمع في عالمنا المعاصر، وهو خلق أصيل فى مجتمعنا الإسلامي جديرٌ أن نفخر ونعتز ونتمسك به.
8 - الأصل أن كثيرا من المسلمين والمسلمات يحرصون على الاعتكاف فى المسجد فى العشر الأواخر من رمضان ، وهذا يُشيع الروح الإيمانية المتدفقة طوال الشهر في الغدو والرواح إلى بيوت الله تعالى، لكن هذا الاعتكاف لا يعطل المروءات الاجتماعية ، وقد روى مالك فى موطئه عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (كان يترك الاعتكاف ويخرج لحاجة الإنسان في البيوت).
قال ابن قدامة المقدسي: يخرج المعتكف من المسجد لإنقاذ غريق أو إطفاء حريق أو أداء شهادة، وقال أحمد يشهد الجنازة ويعود المريض ولا يجلس ، وهذا من الأحكام التي تدفع بكل مسلم أن يكون له حضور وذكاء اجتماعي لا ينسلخ عن الاجتماعيات التي تساهم في بناء جسور قوية من التلاحم الاجتماعي.
وهكذا يصنع الصيام سلاما اجتماعيا قائما على الحب والتعاون على البر والتقوى وليس على الإثم والعدوان .