الفانوس يهتز من الريح التي تَهُبُّ عليه، وناره في طرف الفتيلة توشك أن تلفظ آخر أنفاسها وتقاوم بصعوبة، الريح تزداد اندفاعاً، والبرد يجمد الأطراف، رذاذ خفيف في الخارج، وصوت الرعد يرعب بيت الطين المتهالك، وينذر بالسيل، ويملأ الجو قلقاً ومخافة، ماذا لو نزلت صاعقة هنا؟
في الصباح كيف سنمضي إلى المدرسة والطريق موحلة، والبيوت قد تتداعى دون إنذار؟ هل هذه الخرقة المتواضعة كفيلة بحماية ما بداخلها من الكتب والدفاتر من البلل؟.. أسئلة كثيرة لا تجد لها في العقل الصغير جواباً!
أمه تلقي في لاوعيه بذرة الأمل
أحلام بريئة ومؤكدة وسهلة التحقيق، هي لم تسمع بمصباح علاء الدين، ولم تشاهد "السوبرمان" وهو يطير!
الخيال وحده كان سُلَّماً تصعده إلى السماوات، وتنتقل بين النجوم، وترى الأزقَّة الضيقة في القرية الوادعة وقد غدت طرقاً واسعة يغطيها بساط أخضر!
لم يكن يعرف (والت ديزني)، ولا(أورلاندو)، ولا قرأ عن الحدائق المعلَّقة، والمنتزهات، والألعاب، والعوالم المسحورة!
قد تنهره يوماً وتَعدُّه ثرثاراً، وما هو إلا مخلوق يشحذ موهبته الربَّانية، ويحاول أن يطير بأجنحة الحلم الجميل، ويستجيب لندائها الحميم ربما بأكثر مما كانت تطمح أو تحب!
طفل يمضي في الدرب الترابي الضيق؛ حافي القدمين، يحمل بيده لعبته التي صنعها من مواد البيئة البسيطة من حوله، بيئة القرية والحقل والمرعى.
يحلم أن يكون مُعلِّماً! يا لها من لحظة سعيدة عامرة بالإثارة؛ حين تمسك (الطباشير)الأبيض والملوَّن، وتكتب على اللوح، وتضع دفتر التحضير على المنضدة، وتحمل دفاتر الطلبة معك، وتمضي إلى غرفة الأساتذة؛ لتتحدث مع زملائك الذين استلموا دفة التعليم فور تخرُّجهم من الثانوية، وتسرد أسماء الطلبة، وتُقوِّم أداءهم كما يفعل الآخرون!
أو أن تكون مراقباً ينفخ في الصافرة؛ ليتراكض الصغار إلى فصولهم باغتباط، فالمدرسة حدث جديد ومثير، أو يتراكضون إلى الفناء الصغير؛ الذي يبدو في نظرهم أكبر من أكبر استاد رياضي، على انه ليس فيه إلا التراب، وبعض الشجيرات الصغيرة التي تنبت من المطر!
وإذا لم تكن هذا ولا ذاك، فلتكن ذلك الشيخ الأحدب؛ الذي يمتلك مفاتيح المدرسة وكأنه يملك الخزائن، فهو أول داخل وآخر خارج؛ يخدم الأساتذة، ويضع إبريق الشاي على النار، ويدور بالقهوة على أساتذة هم في مثل أبنائه سناً واحتراماً.
صبية يلعبون عادة (لعبة الأحلام)..
ماذا ستكون عندما تكبر؟
نظرة في غاية البساطة.. صغار يحلمون بتغيير العالم، وينسجون خيوط الأحلام في رؤوسهم، ويصنعون بساطاً سحرياً يطيرون به فوق الربوع، وينثرون الحب والسلام والهدايا الجميلة حيثما مروا..
الجزء الثاني
نكبر فتصغر أحلامنا أو تترشد في مختبر الحياة!
طفل يحلم ويظن أن الحياة تمنحه ما يحلم به تماماً.. ويكبر ليعرف أن عطاء الله له أفضل مما كان يريد، وإن كان مختلفاً كثيراً عما كان يظن ويأمل.
يجد أن في الدنيا الجمال والصفاء والخير، ويحسب أن من سُرقت أحلامهم أو اغتيلت براءتهم هم من لا يؤمنون بذلك أو لا يريدونه!
التجربة الإنسانية تعلم أن الإرادة تقهر المستحيل، وأن علينا أن نتشبث بأحلامنا الكبيرة ولا نُضحِّي بها.
للأحلام أن تكبر وأن تتعدَّل، لكن ليس لها أن تذبل أو تموت في الأرواح المؤمنة.
لم تصدمه (قسوة الحياة) كما يردد من حوله.. ففي طيَّاتها تتفجَّر ينابيع الحكمة والنجاح والتأمُّل والصبر الجميل، (وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) (البقرة: من الآية74).
اختار من الحجارة: (حجر الزاوية)
قرر أن يظل طفلاً يعالج أقسى المشكلات ببراءة ودون تعقيد، وأن يُوسِّع بيده نقطة الضوء الصغيرة؛ ليجعلها أفقاً فسيحاً ممتداً يتجدد كلما انتهى!
قرر أن ينسج الكلمة الصافية، يواجه بها طوفان التسلُّط والعنف، فالحياة في نظره (كلمة).
من النكوص أن تسيطر عليك فكرة العودة إلى الطفولة.
لم لا تستمتع بجماليات المرحلة التي تعيشها، بدل أن تُضيّعها في الأمنيات الفارغة؟
لم لا تظل طفلاً واعياً لا يسمح لأحد أن يُكدِّر صفاءه، أو يخطف المسرَّة من عينيه؟
لكي تظل كذلك؛ احتفظ بالأشياء الجميلة، واسحب ذيل النسيان على ما لا تشتهي.. أنت إذاً بحاجة إلى تدريب (ذاكرتك الانتقائية).
كنت أتحفظ قصائد الأستاذ عصام العطار، وأتسمّع أخبار غربته، ولم يدر في خلدي أن أجدني أسكن غرفة بجواره في فندق.. باسطمبول، وأن أسهر ليلة طويلة مع شعره وأدبه ومحفوظه الغني وفكره المتجدد..
سألته:لم تكن تشارك في المؤتمرات والمناشط من قبل، وكفى بعلتك عذراً وأنت القائل:
ألقى الشدائد ليلي كله سهر ... وما نهاري سوى ليلي بلا شهب
أكابد السقم في جسمي وفي ولدي ... وفي رفيقة درب هدّها خبـبي
قال الطبيب وقد أعيته حالتنا ... ولم يغادر لما يرجوه من سبب
كيف الشفاء بعيش جد مضطرب ... والفكر في شغل والقلب في تعب؟!
كان جوابه صادماً: أردت أن أموت واقفاً!
وكان مُلهماً لمن أراد أن يحيا واقفاً لا يحني جبهته إلا لخالقها.