قراءة في كتاب "فقه الجهاد لفضيلة الدكتور يوسف القرضاوي
جهاد الظلم والفساد في الداخل مقدم على جهاد الكفر في الخارج
رجب أبو مليح
أفرد فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي الباب الثاني من كتابه فقه الجهاد للحديث عن أنواع الجهاد ومراتبه. وقد قسمه إلى سبعة فصول، وهي: بين الجهاد والقتال، ومرتبة جهاد النفس، ومرتبة جهاد الشيطان، ومرتبة جهاد الظلم والمنكر في الداخل، ومواقف الناس أمام جهاد الداخل، ومرتبة جهاد اللسان والبيان (الجهاد الدعوي والإعلامي)، ومرتبة الجهاد المدني، ومرتبة الجهاد العسكري، أو (تطور الجهاد من الدعوة إلى القتال).
في دلالة لفظة "الجهاد"
ففي أول هذه الفصول يؤكد على حقيقة ذكرها من قبل، وهي أن الجهاد أعم وأشمل من القتال، ويؤكد على هذا بذكر آيات كريمات من القرآن المكي الذي نزل ولم يكن ثمّ جهاد في هذا الوقت. ويقول الشيخ : ومن الدلائل على أن الجهاد غير القتال: أن الجهاد ذُكر في آيات القرآن المكي، قبل أن يشرع القتال في المدينة. ومن الآيات التي ذكرت الجهاد في القرآن المكي: قوله تعالى في سورة النحل: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل:110].
وليست هذه الآية الوحيدة في سورة النحل، التي ذكرت الهجرة والمهاجرين، فقد جاء ذلك في آية أخرى سبقت في السورة، هي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل:42،41]. ومن الدلائل على أن (الجهاد) لا يعني (القتال) دائما: قوله تعالى لرسوله في آيتين من كتاب الله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة:73، التحريم:9].
في مراتب الجهاد
ثم ينقل الشيخ القرضاوي عن ابن القيم ـ رحمه الله ـ كيف توسع في مراتب الجهاد، ولم يجعله محصورا في القتال وحده، فقال:"لَمَّا كان الجهاد ذروة سنام الإسلام وقبته، ومنازل أهله أعلى المنازل في الجنة، كما لهم الرفعة في الدنيا، فهم الأعلون في الدنيا والآخرة، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الذُِّروة العليا منه، واستولى على أنواعه كلِّها: فجاهد في الله حقَّ جهاده بالقلب والجَنان، والدعوة والبيان، والسيف والسنان. وكانت ساعاته موقوفة على الجهاد، بقلبه، ولسانه، ويده. ولهذا كان أرفع العالمين ذكرا، وأعظمهم عند الله قدرا"، ويوضح الإمام ابن القيم ببيانه المشرق، الموثق بأدلة الشرع: مراتب الجهاد، التي أوصلها إلى ثلاث عشرة مرتبة، فيقول رحمه الله: (إذا عُرِف هذا، فالجهاد أربع مراتب: جهاد النفس، وجهاد الشيطان، وجهاد الكفار، وجهاد المنافقين.
وجهاد النفس أربع مراتب:
إحداها: أن يجاهدها على تعلُّم الهدى، ودين الحق الذي لا فلاح لها، ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به، ومتى فاتها علمه، شقيت في الدارين.
والثانية: أن يجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجرَّد العلم بلا عمل إن لم يضرَّها لم ينفعها.
أما الثالثة: أن يجاهدها على الدعوة إليه، وتعليمه مَن لا يعلمه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات، ولا ينفعه علمه، ولا ينجِّيه من عذاب الله.
والرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاقِّ الدعوة إلى الله، وأذى الخلق، ويتحمَّل ذلك كله لله.
فإذا استكمل هذه المراتب الأربع، صار من الربانيين، فإن السلف مجمعون على أن العالم لا يستحقُّ أن يُسمَّى (ربانيا) حتى يعرف الحق، ويعمل به، ويعلمه، فمَن علم وعمل وعلَّم، فذاك يدعى عظيما في ملكوت السماوات.
وجهاد الشيطان مرتبتان:
إحداهما: جهاده على دفع ما يُلقي إلى العبد من الشبهات والشكوك القادحة في الإيمان.
أما الثانية: جهاده على دفع ما يُلقي إليه من الإرادات الفاسدة والشهوات.
وجهاد الكفار والمنافقين أربع مراتب: وأما جهاد الكفار والمنافقين، فأربع مراتب: بالقلب، واللسان، والمال، والنفس.
وجهاد الكفار أخصُّ باليد، وجهاد المنافقين أخصُّ باللسان.
وجهاد الظلمة والفسّاق ثلاث مراتب:
أما جهاد أرباب الظلم، والبدع، والمنكرات، فثلاث مراتب: الأولى: باليد إذا قدر، فإن عجز، انتقل إلى اللسان، فإن عجز، جاهد بقلبه، فهذه ثلاثة عشر مرتبة من الجهاد، و"مَن مات ولم يغزُ، ولم يحدِّث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق. وبعد أن يتحدث الشيخ عن مراتب جهاد النفس، وجهاد الشيطان، يصل إلى مرتبة جهاد الظلم والمنكر في الداخل فيقول: ومن مراتب الجهاد الذي جاء به الإسلام: مرتبة جهاد الشرِّ والفساد في الداخل. وهذا الجهاد في غاية الأهمية لحماية المجتمع من الضياع والانهيار والتفكُّك، لأن المجتمع المسلم له أسس ومقوِّمات وخصائص تميِّزه وتشخِّصه، فإذا ضُيِّعت أو نُسيت أو حُوربت هذه الأسس والمقوِّمات لم يبقَ مجتمعا مسلما.
ميادين الجهاد في داخل المجتمع
وهذا هو الجهاد الواجب في داخل المجتمع، وهو يشمل جملة ميادين. وقد رأى فضيلة الدكتور القرضاوي أن أهم هذه الميادين هو ميدان مقاومة الظلم والظالمين، والأخذ على أيديهم، وعدم الركون إليهم، كما قال تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [هود:113]. والإسلام يطلب هنا من المسلم أمرين أساسيين: أولهما: ألا يظلم. وثانيهما: ألا يكون عونا لظالم، فإن أعوان الظالم معه في جهنم. ولهذا يَدين القرآن جنود الطغاة كما يَدين الطغاة أنفسهم، كما في قوله سبحانه: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص:8]، وقال عن فرعون:{فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [القصص:40]، فاعتبر الطاغية والجنود جميعا من الظالمين، ونزلت نقمة الله فشملتهم جميعا، وأخذتهم جميعا بما قدمت أيديهم. وذلك أن الجبار المستكبر في الأرض لا ينفذ ظلمه بنفسه، ولكن بوساطة هذه الآلات البشرية التي يستخدمها في قهر العباد، وإفساد البلاد، وهي تكون له عادة أطوع من الخاتم في أصبعه! وسواء كان الظلم من الأغنياء للفقراء، أم من الملاَّك للمستأجرين، أم من أرباب العمل للعمال، أم من القادة للجنود، أم من الرؤساء للمرؤوسين، أم من الرجال للنساء، أم من الكبار للصغار، أم من الحكام وأولي الأمر للرعية والشعوب، فكله حرام ومنكر يجب أن يقاوَم ويجاهَد، بما يقدر عليه الإنسان من اليد، واللسان، والقلب، كما جاء في صحيح مسلم عن ابن مسعود: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي، إلا كان له من أمته حواريُّون وأصحاب، يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خُلُوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يُؤمرون، فمَن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومَن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومَن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل".
فأوجب الرسول صلى الله عليه وسلم: مجاهدة الظلمة والطغاة على كل مسلم، بما يقدر عليه: من اليد، أو اللسان، أو القلب، وهي المرتبة الأخيرة - التي مَن تركها لم يبقَ معه شيء من الإيمان، وإن قَلَّ - وضرب له مثلا بحبة الخردل على صغرها. والمطلوب في هذه المرتبة: أن يَكره الظلم والمنكر بقلبه، ويكره مرتكبي الظلم، ومقترفي المنكر، وهذه لا يملك أحد أن يمنعه منها، لأن قلب المؤمن لا سلطان لأحد عليه غير ربه الذي خلقه. ولقد اهتمَّ الإسلام بهذا الجهاد وحثَّ عليه، وجاء في بعض الأحاديث اعتباره أفضل الجهاد، كما روى طارق بن شهاب البَجَلي رضي الله عنه: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وضع رجله في الغَرْز: أي الجهاد أفضل؟ فقال: "كلمة حق عند سلطان جائر". وقفة للتأمل ويقول الشيخ تحت هذا العنوان: يَحْسُن بنا أن نقف هنا وقفة للتأمل والمقارنة: لماذا عظَّم الرسول الكريم شأن هذا الجهاد، واعتبره أفضل الجهاد، واعتبر مَن قُتل فيه بجوار سيد الشهداء؟ والجواب: أن خطر الفساد الداخلي إذا تفاقم: يشكل خطرا جسيما وشرا كبيرا على الأمة، ولهذا يعتبر الإسلام الجهاد ضدَّ الظلم والفساد في الداخل مقدَّما على الجهاد ضدَّ الكفر والعدوان من الخارج. فإن الفساد الداخلي كثيرا ما يكون ممهِّدا للعدوان الخارجي، كما تدلُّ على ذلك أوائل سورة الإسراء، إذ قصَّت علينا ما وقع لبني إسرائيل حين أفسدوا في الأرض مرتين، وعلَوا (طغَوا) علوًّا كبيرا، ولم يجدوا بينهم مَن ينهى عن هذا الفساد أو يقاوِمه، فسلَّط الله عليهم أعداء من الخارج، يجوسون خلال ديارهم، ويدمِّرون عليهم معابدهم، ويحرقون توراتهم، ويسومونهم سوء العذاب، ويتبِّرون ما علَوا تتبيرا، وكان وعد الله مفعولا. ومن هنا رأينا الفساد والانحلال، مقدمة للغزو والاحتلال، وقد هدَّدهم بمثل هذه العقوبات القدرية إذا وقع منهم مثل ذلك الإفساد في المستقبل، وذلك في قوله تعالى: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء:8]، أي إن عُدتم إلى الطغيان والعلو والإفساد عُدنا عليكم بتسليط الأعداء.
وهذا فقه عميق، وفهم دقيق من فضيلة الشيخ حيث جعل جهاد الظلم والظالمين من الجهاد في سبيل الله تعالى، وهو مقدم على جهاد الكفار والمشركين، لأنه أعظم خطرا، وأبلغ أثرا في تأخر الأمة وضياعها من جهاد الخارج، لأن الظلم إذا أتي من الخارج ولد في جسد الأمة روح المقاومة والاستبسال، ومقاومة الكفر والظلم، وسرعان ما تستعيد قوتها، وتسترد عافيتها، وتتوحد كلمتها، وتجتمع قلوبها. أما ظلم وفساد الداخل فهو كالسوس الذي ينخر في جسد الأمة فيتلفه، وهو كالسرطان لا يشعر به الجسد إلا بعد فوات الأوان.
مفهوم التغيير بالقلب
ويرى فضيلة الدكتور القرضاوي أن بعض الناس قد يحسب أن التغيير بالقلب يعني التغيير السلبي، الذي لا يغير شيئا ، ويكتفي بكلمات يقولها المسلم في قلبه ولا يتحرك بها لسانه، والحاصل أن التغيير بالقلب من مراتب الإيمان، ولا يمكن للسلبي أن ينال هذه المكانة. ويقول الشيخ: والتغيير بالقلب أو الجهاد بالقلب: معناه غليان القلب غضبا على المنكر، وكراهية للظلم، وإنكارا على الفساد. وحين يمتلئ القلب بهذه (الشحنة) من الغضب والكراهية والإنكار والثورة الداخلية: يكون ذلك تحضيرا معنويا لثورة ظاهرية عارمة، توشك أن تقتلع الظلم والفساد من جذوره، حين يرى المؤمن الظلم يتجبَّر، والفساد يستشري، والمنكر يستعلي، ولا يستطيع تغييره بيد ولا حتى بلسان، فيذوب قلبه كما يذوب المِلح في الماء، ويغلي الغيظ في صدره، كما يغلي المِرجَل فوق النار؛ فلا بد لهذا المِرجَل أن يتنفس، وإلا تفجَّر أو تكسَّر! فهذه الشحنة القلبية الوجدانية الانفعالية: رصيد مهم لأي تغيير عملي مرتقَب، فإن التغيير لا يبدأ عادة من فراغ، بل لا بد له من مقدِّمات ودوافع نفسية، تغري به، وتدفع إليه. فليس التغيير أو الجهاد بالقلب موقفا سلبيا، كما يفهمه بعض الناس، وإلا ما سمَّاه الرسول تغييرا أو جهادا، ولا جعله مرتبة من مراتب الإيمان، وإن كان هو المرتبة الدنيا، التي ليس وراءها من الإيمان حبة خردل. ولهذا كان جهاد الفساد لازما ومفضَّلا على غيره، إنقاذا للأمة من شروره وآثاره، وإطفاءً للنار قبل أن يتطاير شررها، ويتفاقم خطرها، ويعمَّ ضررها.
ميادين أخرى للجهاد المجتمعي
ويرى فضيلة الدكتور أن ثمة ميادين أخرى للجهاد المجتمع تعادل في أهميتها أهمية مقاومة الظلم والطغيان. وأبرز هذه الميادين ما يلي:
أ - ميدان مقاومة الفسوق والانحلال: وهناك ميدان ثانٍ للجهاد الداخلي، ذلك هو ميدان الانحلال والفسوق، واقتراف المعاصي، واتباع الشهوات. وهو انحراف خطير، إذا استسلمت له الأمة ساقها إلى مهاوي الرَّدَى، واختلَّت أمور حياتها كلِّها، وظهر الفساد والاختلال في البر والبحر بسوء أعمالها، واعوجاج سلوكها. كما قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41].
ب - ميدان مقاومة الابتداع والانحراف الفكري: وهنا ميدان ثالث ومهم للجهاد الداخلي، وهو ميدان الابتداع في الدين، بأن يحدث فيه ما ليس منه، وأن يزيد عليه ما لا تقبله طبيعته في عقيدته أو شريعته أو أخلاقه، أو تقاليده، أو يدعو إلى مفاهيم تتناقض مع عقائده أو شرائعه أو قِيَمه. والإسلام - خاصة - شديد الحساسية نحو الابتداع والإحداث في الدين، والمناقضة في الفكر. لذا قال رسوله الكريم: "مَن أحدث في أمرنا ما ليس من، فهو ردٌّ" ، ومعنى "في أمرنا": أي في ديننا. ومعنى "فهو رَدٌّ": أي مردود عليه. وقال صلى الله عليه وسلم: "كلُّ بدعة ضلالة، وكلُّ ضلالة في النار". ويقول فضيلته: يرى الراسخون في العلم: أن البدع أشد خطرا من المعاصي؛ لأن المعاصي مكشوفة مفضوح أمرها للناس. أما البدع فهي تتستَّر بثوب الدين، وتروج بضاعتها عند الكثيرين على أنها قُرَب إلى الله تعالى، ولا يعرفون حقيقتها. ولذا قالوا: إن المعصية كثيرا ما نرى أصحابها يندمون عليها، ويتوبون ويستغفرون الله تعالى. أما البدعة فإن أصحابها لا يتوبون منها، ولا يستغفرون، لأنهم يتقربون إلى الله بها، فكيف يتوبون منها ويستغفرون؟! ولهذا قالوا: إن البدعة أحب إلى الشيطان من المعصية. فإن المعصية تفسد الإنسان، ولكن البدعة تفسد الأديان.
ج - مقاومة الردَّة والمرتدين: ومن جهاد الفساد والمنكر في داخل المجتمع الإسلامي: جهاد الردَّة عن الإسلام، أي: الكفر بعد الإيمان. ويرى الشيخ أنه إذا كان الإسلام يأمر بتغيير المنكر، ومقاومة الظلم والمعصية، إذا وقعت؛ باليد أو اللسان أو بالقلب، فإن الكفر أشدُّ خطرا، وأعظم شرًّا على المجتمع من المعاصي كلها، حتى الكبائر منها، فهو أكبر الكبائر، وهو أنكر أنواع المنكر. والردَّة - خاصة - شرُّ مراتب الكفر. فمَن آمن بالإسلام عن اقتناع وبصيرة، ثم لاحت له شبهات، يجب عليه أن يعرضها على أهل العلم من المسلمين الثقات ليناقشوه فيها، ويزيلوا شبهته، وهي زائلة - إن شاء الله - لمَن يريد أن يهتدي إلى الحق، فقد جاء هذا الدين بعقائد توافق الفطرة، ومفاهيم تخاطب العقل، وشرائع تحقِّق العدل، وقِيَم وأخلاق تزكي النفس، وترتقي بالحياة. فإذا افترضنا أن هذا الشخص لم يقتنع، أو أظهر لنا أنه لم يقتنع، وفقد يقينه بحقيقة الإسلام، وصدق نبيه، وظلَّ ذلك في نفسه، ولم يدعُ إلى ذلك الآخرين، لينضمُّوا إلى ركبه، فأمره إلى الله، وجزاؤه في الآخرة لكن خطر هذا المرء إنما يخاف شرُّه إذا غدا داعية للكفر والردَّة داخل المجتمع المسلم، فهذا انقلاب على المجتمع، وتغيير للولاء والانتماء من أمة إلى أمة، وهو أشبه بالخيانة العظمى بالمعيار الوطني؛ فكما لا يجوز للمواطن تغيير ولائه لوطنه ولأمته، وتحويله لوطن آخر، وأمة أخرى، ولا سيما إذا كانت الأمة الأخرى تستعمر وطنه وتتحكم فيه، كذلك لا يجوز - بالمعيار الديني - أن يغيِّر المسلم ولاءه من أمة الإسلام إلى أمة أخرى، ومن وطن الإسلام - أو دار الإسلام - إلى وطن آخر أو دار أخرى. وهذا هو شأن المرتد؛ فالردَّة ليست مجرَّد تغيير موقف عقلي. بل هي تغيير للهُويَّة والولاء، وانسلاخ من أمة للانضمام إلى أمة أخرى تخالفها أو تعاديها.
رِدَّة السلطان
ويرى فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي أن أخطر أنواع الردَّة هي رِدَّة السلطان، أو رِدَّة الحاكم، الذي يُفترَض فيه أن يحرس عقيدة الأمة، ويقاوم الردَّة، ويطارد المرتدين، ولا يُبقي لهم من باقية في رحاب المجتمع المسلم، فإذا هو نفسه يقود الردَّة سرا وجهرا، وينشر الفسوق سافرا ومقنَّعا، ويحمي المرتدين، ويفتح لهم النوافذ والأبواب، ويمنحهم الأوسمة والألقاب.
ثم يتحدث الشيخ عن مواقف الناس أمام جهاد الداخل فيقول: والناس أمام هذا الجهاد ثلاث فئات: طرفان وواسطة:
1. الانسحابيون: فالطرف الأول: (الانسحابيون) الذين يفرُّون من هذا الميدان، أو لا يدخلونه أصلا، تاركين الطغيان يمارس نشاطه في إفساد البلاد، وإذلال العباد، والفسوق يعمل عمله في أخلاق الناس وضمائرهم، كما تعمل النار في الحطب، والغزو الفكري يفسد عقول الأمة، ويشوِّه تصوراتها، ويفسد عليها ثقافتها، ويحرِّف دينها، ويضلِّلها عن هُويَّتها. وهم واقفون متفرجون، لا يحرِّكون ساكنا، ولا يساعدون متحرِّكا على الحركة، بل يثبِّطون المتحرِّكين، متذرِّعين بدعاوى شتَّى، ما أنزل الله بها من سلطان، ولا قام عليها من العقل ولا النقل برهان.
2. الهجوميون (دعاة العنف المسلح): وهناك فئة على النقيض من هؤلاء تمثِّل الطرف المقابل، هم الذين يستخدمون العنف، ويَدْعون إلى الخروج المسلَّح، بلا حكمة، ولا تحقيق لشروطه، ولا دراسة لعواقبه، وآثاره: أيصلح أم لا يصلح؟ أيضرُّ أم ينفع؟ وهذا ما قامت عليه جماعات (الجهاد) في عصرنا، التي ظهرت في أكثر من بلد إسلامي، أحسب أنها بدأت في مصر، ثم انتقلت إلى الجزائر، وإلى غيرها من بلاد العرب والمسلمين.
3. الفئة الوسط بين هؤلاء وأولئك: وبين المغالين في الاستسلام لظلمة الولاة والسلاطين، والمغالين في التمرُّد عليهم، وحمل السلاح خروجا عليهم، دون حساب لعواقب هذا الخروج، وما قد يُوقعه من مآسٍ ومظالم: توجد الفئة الوسط التي لا تسكت عن المنكر وهو يشيع، ولا تُغمض العين على الفساد وهو يستشري، ولا على الظلم وهو يتفاقم ويتكاثر. وهذا سبب خراب الدولة، وهلاك الأمة كلها، صالحيها وطالحيها، إذا لم يقفوا في وجه الظالم، كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:25].
ويتحدث بعد ذلك عن مرتبة جهاد اللسان والبيان، أو(الجهاد الدعوي والإعلامي) فيقول: ومن أنواع الجهاد المفروض على المسلم ومراتبه: الجهاد باللسان، وذلك بالدعوة إلى الإسلام وبيان محاسنه، وإبلاغ رسالته، بلسان الأمم المدعوَّة ليبيِّن لهم، وإقامة الحُجَّة على المخالفين بالمنطق العلمي الرصين، والردُّ على أباطيل خصومه، ودفع الشبهات التي يثيرونها ضدَّه، كل إنسان بما يقدر عليه. ويتحدث بعد ذلك عن الجهاد المدني وماهيته فيقول: وهناك (الجهاد المدني)، وهو المقصود بالحديث هنا، ونعني به: الجهاد الذي يلبِّي حاجات المجتمع المختلفة، ويعالج مشكلاته المتنوعة، ويغطِّي مطالبه المادية والمعنوية، وينهض به في سائر المجالات، حتى يتبوَّأ مكانته اللائقة به، وهو يشمل مجالات عدة: المجال العلمي أو الثقافي، والمجال الاجتماعي، والمجال الاقتصادي، والمجال التعليمي والتربوي، والمجال الصحي والطبي، والمجال البيئي، والمجال الحضاري بصفة عامة.
وهذا الجهاد لم يذكره الإمام ابن القيم في المراتب الثلاث عشرة للجهاد في الهدي النبوي، ولكنه جهاد تقوم عليه الأدلَّة الشرعية، من القرآن والسنة، كما يستند إلى مقاصد الشريعة. ثم يختم الشيخ هذا الباب بالحديث عن الجهاد العسكري وهو موضوع الكتاب، مشيرا إلى أنه قد مر بعدة أطور: هي: طور الإنذار والتبليغ بالدعوة الفردية، ثم طور جهاد الدعوة الكبير في العهد المكي، ثم طور جهاد الصبر على الأذى ومنع القتال، ثم طوْر الإذن بالقتال، ثم طور الأمر بالقتال، ثم طور الجهاد القتالي المختلف فيه.