الرابط المختصر :
بيروت/ موقع الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين
ها قد تجلى هلال رمضان، وتصايح المسلمون: الليلة صيام، بارك الله لكم في الشهر، ولا حرمكم عظيم الأجر.
الصوم نموذج لعبادات الإسلام، تتجلى فيه عقائده ومعاقده وأصوله.
الإيمان بالله تعالى وكمالاته، والإقرار بالعبودية له يتحقق بالإمساك عن مفسدات الصوم سرًّا وعلانية؛ فالصائم يؤمن بربه ويراقبه حتى في دخيلة قلبه، ولو أمسك دون نية وقصد لما كان صائمًا، ولو نوى أنه مفطر نية قاطعة جازمة لكان مفسدًا لصومه.
وهذا يربِّي المؤمن على مراقبة الله تعالى، واستحضار مشاهدته للعبد في كل أحواله وتقلباته ومعاصيه وطاعاته؛ فيولد لديه إقبالاً على الطاعة ونشاطًا فيها، وانكفافًا عن المعصية، وحياءً من مقارفتها وهو بمرأى ومسمع من ربِّه الذي يؤمن به ويخافه ويرجوه.
والإيمان بالرسول يتمثل في التزام الصوم الشرعي وفق ما جاء به النبي الخاتم توقيتًا وبدءًا وانتهاءً، وأحكامًا وآدابًا.
والصوم كان فرضًا على الأمم الكتابية السابقة، لكن لا يلزم من هذا أن يتفقوا معنا في تفصيلات الصيام ومفردات الأحكام، وهذا يستتبع صدق الإيمان به ومحبته واتّباعه في سائر الأعمال والعبادات التي جاء بها، والحرص على السنن التي تجعله أقرب إلى الاقتداء بالنبي في شئون حياته كافة.
والإيمان بالغيب والآخرة والجزاء والثواب والعقاب ظاهر في إيثار الجوع والعطش والعناء الذي يثمر مرضات الله وثوابه بالجنة والنعيم على التمتع بطيبات الحياة الدنيا مع انتظار الوعيد والعقوبة في الآخرة، وهذا يعدل الميزان لدى المسلم؛ فلا ينظر إلى الأمور نظرة دنيوية بحتة في مصالحها ومفاسدها وحالاتها ومآلاتها، بل يوفِّق بين نظرة الدنيا ونظرة الآخرة، فيقدِّم مرضاة الله وطاعته ولو كان فيها فوات شيء من نعيمه العاجل، أو من راحته، أو من ماله، أو من جاهه؛ لأن حساباته ليست مادية خالصة.
النظام الخلقي يتجلى في الصبر الذي هو قرين الصوم وسَمِيُّه حتى سمي الصوم صبرًا، كما قال بعض المفسرين في قول الله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ} [البقرة: 45]، قال: بالصوم والصلاة.
وسمِّي رمضان شهر الصبر، والصبر جزاؤه الجنة، والصبر هو سيِّد أخلاق الإسلام، وبغير صبر لا يثبت المسلم أمام التحديات في دينه ودعوته، ولا يتحمل مشكلات الحياة وتبعاتها ومصائبها التي لا ينفك عنها بحال؛ فالفوز في الآخرة والسعادة في الدنيا ثمرتان من ثمار الصبر.
الصبر هو إكسير الحياة الذي يحوِّل -بإذن ربه- الصعاب إلى لذائذ، والهموم إلى أفراح، وكم أتمنى من الشباب الشاكين والشيوخ الباكين، والنسوة المتبرمات أن يكتبوا حكمةً تتعلق بالصبر، ويجعلوها أمام نواظرهم؛ ليعلموا أن الصبر هو علاج كل داء، وحلّ كل مشكلة، وتذليل كل عقبة.
ويتجلى النظام الأخلاقي في الرقي بالنفس إلى مدارج العبودية والتخفف من أوهاق الطين، وثقل الأرض؛ لتستشرف النفس آفاق الإيمان، وتستشعر شيئًا من الأنس بالقرب من فاطرها وبارئها، وتسبح في ملكوتها؛ فالإنسان إنسان بروحه وشفافيتها قبل أن يكون إنسانًا بجسده:
أقبلْ على النفس فاستكمل فضائلها *** فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
ويتجلى في الإيثار والإحسان ومعايشة آلام الآخرين ومقاسمتهم السراء والضراء، وذوق شيء مما يجدون، ولئن ذاقه الصائم تعبدًا واختيارًا، فلقد ذاقوه عجزًا واضطرارًا، ولئن عاناه وقتًا محدودًا، فلهو عندهم عناء ممدود.
ولهذا كان رمضان شهر الزكاة كما سمّاه عثمان t، ونهايته زكاة الفطر التي يشارك المسلمون فيها الإحساس بفرحة العيد، فلا يدع أحدًا منهم إلا واساه، حتى فقراؤهم يخرجون صدقة الفطر إنْ قدروا.
ويتجلى في الإمساك بزمام النفس عن اندفعاتها وحماقاتها مع صاحبها ومع الخلق؛ فالصائم مزمومٌ بشعور دائم، يحمله على الكفّ عمّا لا يجمل ولا يليق، وربما أدرك كثير من الصوّام هذا المعنى حتى قبل أن يهل الشهر.
كما يحقق الصوم معنى الانتساب الأممي وتبعاته ومظاهره، فهو عبادة يشترك فيها المسلمون في كل مكان؛ مما يعمق معنى الإخاء الديني، والولاء الشرعي، ويذكِّر بوجوب الانعتاق من الروابط المنافية لذلك، ووضع الروابط العادية البشرية في موضعها الصحيح، فلا تتحول إلى علاقة "تنـاظر" العلاقة الربانية بين أهل الإسلام.
وكم يتمنى المرء أن يستطيع المسلمون توحيد صيامهم وفطرهم؛ ليتعمق معنى الأُمَّة الواحدة، وتذويب الفواصل والعوائق التي تتراكم بمرور الزمان، ويجعل الجسد الواحد رُقعًا متناثرةً، يهدم كل طرف منها ما بناه الآخر.
فإذا لم يتحقق هذا فلا أقل من أن يوحِّدوا صيامهم وفطرهم في البلد الواحد، خصوصًا في الدول الغربية كأوربا والولايات المتحدة وأستراليا.
إن من غير المقبول أن يتعبد أحد المسلمين بالصوم، بينما أخوه في الدين إلى جواره يتعبد بالفطر والعيد، ويرى الصيام حرامًا وإثمًا.
ولا من المعقول أن يصوم مسلم يومًا على أنه يوم عرفة، بينما جاره في المنزل يأكل على أنه في يوم عيد لا يجوز صيامه.
إن تجاوز هذه التناقضات يتطلب صدقًا وارتفاعًا عن المصالح الخاصة، والانتماءات الحزبية، أو الوطنية، وإيثارًا لروح الجماعة على أنانية الذات... فهل نحن فاعلون؟!
والصوم يذكر المسلم بالجهاد الذي هو حراسة هذا الدين، وذروة سنامه، وسطوته على مناوئيه، فلقد كان تاريخ الشهر ملتبسًا بالمواقع الفاصلة من بدرٍ، تاج معارك الإسلام، إلى فتح مكة التي كانت إيذانًا ببسط الإسلام سلطته على جزيرة العرب، إلى حطين، إلى عين جالوت، إلى معارك الجهاد ضد المستعمرين في الماضي والحاضر.
والكتاب الذي آذن المسلمين بأنه كُتب عليهم الصيام، هو الذي آذنهم بأنه كُتب عليهم القتال. ولم يكن قتالاً لنصرة عنصر، ولا لتسلُّط، ولا لجباية مال، لكنه لتكون كلمة الله هي العليا {حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39].
والجهاد إيذان بأنه ليس كل الناس يؤمنون بالدعوة، بل هناك من الرءوس المتغطرسة ما لا يلين إلا بالقوَّة، والحديد بالحديد يفلح؛ ولهذا بعث الله رسوله بالكتاب والحديد، كما قال سبحانه: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25].
فالكتاب والبينات أصل الرسالة ولبُّها، والحديد سورها وحمايتها:
فما هو إلا الوحي أو حَدٌّ مرهـف *** تقيم ضباه أخدعي كل مائل
فهـذا دواء الداء من كل عاقـل *** وهـذا دواء الداء من جاهل
والذين يقارعون البغي والظلم في فلسطين والشيشان وغيرها من بلاد الإسلام التي احتلها الأعداء، واستباحوا بيضتها، هم النوّاب عن الأمة في الحفاظ على هذه الشريعة العظيمة، فحق على الأمة أن تكون من ورائهم بالنصرة الصادقة، وليس بالعاطفة وحدها.
فهل يعود رمضان الذي عرفه المسلمون ينبض بالروح والحياة والعطاء، وليس بالنوم وضياع الأوقات، والتسابق إلى اللذائذ، والسهر، وسوء الخلق؟! اللهم رد المسلمين إلى دينك ردًّا جميلاً، واجمعهم على طاعتك، واحفظهم من كل سوء، وصحِّح أعمالهم، وتقبلها منهم، وتجاوز عنهم، ووفقهم لكل خير، واكشف عنهم كل سوء، والحمد لله رب العالمين.