الرابط المختصر :
بيروت/ موقع الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين
يقول ابن عقيل الحنبلي: "إن البذل في ذات الله سبحانه وتعالى من أحسن ما يكون في سرور الحياة، فهل رأيت عريًا قط أحسن وأجمل من عري المحرمين لذات الله سبحانه وتعالى في تبذلهم واختصارهم على لباس الإحرام المعروف؟
وهل رأيت ماءً أجمل وأصفى من دموع المذنبين المسبحين المستغفرين لربهم عز وجل؟
وهل سمعت صوتًا قط أجمل وألذ وأطيب من زجل وأنين المستغفرين بالأسحار؟
وهل وجدت شيئًا أعظم وأقوى وأكبر من ملامسة جباه الساجدين للتراب والأرض خضوعًا وإخباتًا وانكسارًا لربهم سبحانه؟".
وأقول: وهل وجدت أطيب وأحلى وأسعد جوعاً من جوع الصائمين لربهم عز وجل؟!
ربما الكثير منا يعترف بخطئه وتقصيره، لكنه ينسى أن يحاول بصيامه أن يقدم عرفاناً وشكراً ونقاء على عطائه ونعمته -سبحانه- بهذا الصيام.
إن الصوم صدمة روحية وتشريع ذو قوة وبقاء، والصوم يشكل هزة لكثير من الناس الذين لم يتعودوا أن ينكفوا عن الحرام، فيأتي الصيام ليفطمهم عن بعض الحلال، ويحثهم على ذلك ويذكرهم بالمعاني الإيمانية الربانية العميقة. إن الصوم يعمق معاني الإيمان بالله سبحانه وتعالى ويقوي التقوى: "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون". بل إن هذا الصيام رابطة تاريخية في سيرة سلوكية ونسك إيماني عميق في الأمم قبلنا من أهل الكتاب والأديان السماوية، وهو يقيم روابط الألفة والاجتماع بين المسلمين حين يخاطبهم بروح الجماعة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون) متفق عليه، فهذا تنمية لروح الجماعة بين المسلمين، وتطوير لمعنى الوحدة والاجتماع والائتلاف.
بينما واقع المسلمين يكشف عن كثير من الاختلاف والتباعد على كل صعيد ومجال، كما نجد في تفرق المسلمين أن جميع المؤسسات والمجالس والأجهزة الضخمة التي تنتظم دول العالم الإسلامي -إقليميا كانت كمجلس التعاون الخليجي أو الاتحاد المغاربي أو الاتحاد الإفريقي أو جامعة الدول العربية أو ما هو أوسع من ذلك كمنظمة المؤتمر الإسلامي ورابطة العالم الإسلامي- لم تتحول إلى تنظيم فعلي حقيقي من الناحية الاقتصادية -مثلا- أو الناحية السياسية أو الشرعية أو الفقهية، ومن ذلك في قضايا الصيام ورمضان: مسألة رؤية الهلال، ففي كل سنة تولد مع كل ولادة هلال مشكلة جديدة كبيرة جداً في استقبال رمضان، ومشكلة أكبر في العيد، وفي بلاد الغرب -مع الأسف الشديد- يصبح الأمر أكثر تعقيداً وصعوبة، ففي أوربا وأمريكا واستراليا تجد المراكز الإسلامية والجاليات منشقة على نفسها، فتجد في عدد من المراكز الإسلامية من هو صائم ومن هو مفطر، فبعضهم يعتبره عيداً وآخرون يعدونها صياماً، بعضهم يعتمد على دول معينة، وآخرون على مكة، وفئة ثالثة على توقيت المركز الإسلامي هناك، وأرى أنه لو أمكن أن يجتمع المسلمون كلهم على توقيت واحد فهو قول جيد، وهو مذهب معروف عند مالك وغيره، ولا يعارضه شيء: "صُومُوا لرُؤيتِهِ وأَفْطِرُوا لرُؤيتِه".أخرجه البخاري (1909) ومسلم (1081)، وأصرح منه حديث: "الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ وَالْفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَالْأَضْحَى يَوْمَ تُضَحُّونَ". أخرجه أبو داود (2324) والترمذي (697)- باعتبار أن الخطاب للمسلمين جميعًا، فإذا رآه فئة من المسلمين صام المسلمون كلهم، وأما ربط الصيام بالرؤية فالظاهر أن الخطاب في قوله صلى الله عيه وسلم: (صوموا) للمسلمين جميعا؛ إذا رآه أحدهم صام الباقون كما أن أصحاب البلدة الواحدة إذا رآه أحدهم صام الآخرون، فليت المجامع الفقهية والإسلامية والهئيات ودوائر الإفتاء في السعودية والخليج ومصر وغيرها تتبنى رأياً كهذا في توحيد فطر وصيام المسلمين لمراعاة مقاصد الصيام في تحقيق العبودية والألفة والاجتماع.
ومن روح الصيام تحقيق شخصية قوية للمسلم يصارع بها أهواءه الداخلية ويعالجها ويجاهدها بالمراس والمران لتقوى نفسه وطبيعته على مشاكل الحياة وأهوائها.
إن الصوم مناسبة سنوية، وشعور بالجماعة والناس في الاهتمام بالفقراء والمحتاجين والزمنى، فالصيام يربي على مراقبة الله وحده، وتركيز الإيمان بالله والدار الآخرة، ويجدد هذا الإيمان، وهذا معنى حاسم وفاصل، يقول الله عز وجل عن الأنبياء: "إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار" أي: ذكر الدار الآخرة، فالفرق بين المؤمن والكافر، والبر والفاجر، هو الإيمان الحقيقي المدعوم بالصدق والإخلاص في حقيقة الدار الآخرة والعمل لها، فالمؤمن عنده رؤية ممتدة لا تنتهي بالدنيا، ولكنها ترتبط بالآخرة، فهو قد يترك أشياء في هذه الدنيا ليدّخرها عند الله في الدار الآخرة التي هي خير وأبقى.
وهذا الإيمان يدفع لعمل البر ولممارسة أخلاقيات عالية منضبطة، وهذا ما يفترض في الصائم، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (من لم يَدَع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) بينما نجد بعض الصائمين يرون من الصيام عذراً في التقصير في كثير من الأخلاقيات وتجاوز الكثير من الآداب.
إن الصيام يقيم روح العبادة وروح العمل وروح الاجتهاد والاستقلال حين يجعل من الإنسان بصيراً على نفسه مسئولاً عن ذاته، وليس على روح الكسل والتقليد.
والصيام يهذب الروح لتقبل الخير ولتقوى فيها دوافع الحب والرحمة للمسلمين والناس، والذي يحتسب أجر صيامه وقيامه يغفر له ما تقدم من ذنبه كما في حديث الصحيحين.
إن روح الصيام تفرض استعداداً معنوياً قبل كل شيء بتقبل أمر الله وطاعته، والسعي لرضاه، مع الاستعداد المادي الذي يرافق كل رمضان قادم بألوان الطعام والشراب.
الصوم له مقاصد شريفة وأسرار عالية، وله روح تأخذ بلبه، أما إقامة ظاهره والإخلال بباطنه فهو نوع من خرمه وتفويت معناه العظيم.
الصوم يجدد معاني الإيمان بالله سبحانه وتعالى، فهل هذا يحدث في نفوسنا؟
أو أن الكثير منا مثلما كان يقال في قصة مالك بن دينار رحمه الله حين كان يعظ الناس والناس يبكون حوله ويشهقون من وعظه المؤثر، وبينما هو ملتفت شمالاً، وكان إلى جواره مصحف، وجد المصحف مسروقًا، فكان يقول: كلكم يبكي، فمن سرق المصحف؟