أكد سماحة العلامة الدكتور يوسف القرضاوي أن الإسلام يقدم للبشرية حياة تجمع كل المعاني التي يطلبها الناس لصناعة حضارة متكاملة.
وفي حواره مع الباحث أمير حامد من جامعة زيورخ بالسويد تحدث فضيلته حول المنهج الذي اتبعه في كتابه الشهير "الحلال والحرام في الإسلام"، وعن ظاهرة الخوف المرضي (فوبيا) من الإسلام في الغرب، وسبل التخلص منها، كما ألقى الضوء على التوازن الذي يصنعه الإسلام بين الجانب الروحي والجانب المادي في حياة الإنسان المسلم.
نص الحوار:
المحاور: كثير من العلماء ينسون الغرب في كثير من كتاباتهم, لكنكم – فضيلة الشيخ – وضعتم قضية الغرب في دائرة اهتمامكم، من أول كتابكم: (عالم وطاغية), وكتاب: (الحلال والحرام في الإسلام), لماذا وضعتم قضية الغرب أمام عين القارئ في هذا الكتاب: (الحلال والحرام في الإسلام)؟
الشيخ: لستُ أنا من وضع هذا, فكتاب: (الحلال والحرام في الإسلام) طُلب مني ليُكتب للغرب, ويترجم للغرب, أنا لم أكتب (الحلال والحرام في الإسلام) ابتداءً للمسلمين, ولكن طُلب من الأزهر أن يكتب ثلاثين كتابًا في موضوعات إسلامية مختلفة, على أن تكون كتابةً معاصرة، ميسرة مفهومة, تخاطب العقل والقلب, وتشرح لغير المسلمين الإسلام في لغة مبسطة، وهادئة ومقنعة, فاختارني الأستاذ الدكتور محمد البهي رحمه الله, المدير العام للثقافة الإسلامية آنذاك, لأكتب في أحد هذه الموضوعات الثلاثين, وهو: (ما يحل للمسلم، وما يحرم عليه), الذي عبرتُ أنا عنه بعنوان: (الحلال والحرام في الإسلام).
فعلمت أنني أخاطب بهذا الكتاب المجتمع الغربي, فكان لا بد أن أهتم بهؤلاء الناس الذين أكتب كتابي هذا لهم, كان لا بد أن أراعي العقلية الغربية، والنفسية الغربية، والمجتمع الغربي, وألاحظ ما يهمه وما لا يهمه, إلى غير ذلك.
واخترتُ الطرح الوسطي.. لا أريد أن أهتم بالغربيين وحدهم وأترك الشرقيين, أو أهتم بالشرقيين وكأن الغربيين غير موجودين.. لا..كان لا بد أن أدرك أن العالم باعتباره عالما بشريًّا إنسانيًّا، فيه الشرقي وفيه الغربي, وفيه المعتدل وفيه المتطرف, وفيه الوجداني وفيه العقلاني, وفيه المثالي وفيه الواقعي, فلا بد أن أكتب لهؤلاء جميعا, بقدر ما أستطيع, لا أدعي أنني نفذتُ هذا تماما, ولكن كان هذا غرضي، ولا أدعي أنني حققت هذا في كل الجزئيات, إنما كان هذا هو المنهج الذي وضعته لنفسي، وكنت أراعيه عندما أكتب مثل هذه الكتابات لمجتمع شرقي وغربي, فهو سيترجم للغربيين, ثم ينشر للشرقيين, فأنا أكتب لهؤلاء وهؤلاء جميعا, فكان لا بد أن أراعي الفئات التي أخاطبها, بحيث تقتنع بما أقول, لا أتطرف بحيث أرضي هؤلاء المتطرفين وحدهم وأنأى عن الآخرين.
المحاور: لماذا كان لكتابكم: (الحلال والحرام في الإسلام) هذا الصيت الكبير في الوطن العربي؟
الشيخ: لأنه لمس أشياء في حياة الإنسان الشرقي, والأسرة الشرقية, والمجتمع الشرقي, وكتب بلغة ربما بعض الناس لا يفهمها, أو لا يقبلها, أنا – كما قلتُ – راعيت التيسير وراعيتُ التوازن والتوسط, ولم أكن مع الغلاة في هذه الناحية أو في تلك, فراعيتُ عدة أشياء, فلذلك اهتم غالبية المسلمين بهذا الكتاب, وترجم إلى لغات العالم.. لا أعلم عدد اللغات التي ترجم إليها كتاب (الحلال والحرام في الإسلام).
كثيرا ما يأتيني من يقول لي: هذا كتابك.. أول ما ذهبتُ إلى باكستان جاءني أحدالصينيين، وقال: أنا من الصين، وهذا كتابك (الحلال والحرام في الإسلام) مترجم إلى اللغة الصينية, فاكتب لي بخط يدك.
فالحمد لله ترجم الكتاب إلى لغات العالم, وأسأل الله تعالى أن ينفع به, وأنا الآن أكتب طبعة جديدة لكتاب (الحلال والحرام في الإسلام), طبعة موسعة, غير الطبعات الماضية, هذه الطبعة أرد فيها على بعض الذين ردوا علي من المتشددين.
مثلا أحدهم حنفي شديد التحنّف وردّ علي, أو شافعي شديد التشفع ردّ علي, وهكذا كل يرى الحقيقة من خلال مذهبه، وقد رددتُ على هؤلاء في كتاب موسوعي, يقارب الكتاب الأصلي, أنشره على الناس، ليروا لماذا خالفتُ هؤلاء, وبماذا رددتُ عليهم, ماذا قالوه، وماذا قلتُ, هذا أمر مهم, وهو الآن تحت الطبع.
المحاور: الغرب يخافون من الإسلام جدا حاليا, فهل يستطيع اتحاد علماء المسلمين أن يفعل شيئا لإزالة هذا الخوف؟
الشيخ: كلامك هذا حق, ولعل هذا يرجع إلى الصورة التي يقدم بها الإسلام إلى الغرب، فالبعض يبالغ في التخويف من الإسلام والتهويل من أحكامه, والبعض يفتري على الإسلام ما ليس فيه, ويدخل على الإسلام ما ليس منه, ويخرج من الإسلام ما هو من صلبه, ويظهر هذا الدين كأنه غول يفترس الناس, أو وحش يأكلهم, وهذا ليس حقيقيا.هناك أشياء حين تنظر إليها، لا تجد هذا التخويف الذي يخوفون به الناس.
موقف الإسلام من المرأة – مثلا – الإسلام مع المرأة في غاية التوازن, وفي غاية الإحسان والإصلاح والإنصاف, لا يظلم المرأة, ولا يظلم الرجل, وإنما يراعي الفطرة التي فطر الله الناس عليها, لا يريد للمرأة أن تكون وحدها, المرأة لا بد أن تكون مع الرجل, والرجل لا بد أن يكون مع المرأة, لا يجوز أن يكون كل واحد منهما قسما وحده, لأن ربنا خلق المرأة لتكون للرجل, حتى جعل خِلقة المرأة ليست كخِلقة الرجل, من الناحية الجنسية, والناحية الجسمية, والناحية النفسية، لقد صنعها الله على أساس هذه الناحية الجنسية, لأن هناك رجل وامرأة, رجل يحب امرأة, وامرأة تحب رجلا, ولا بد أن يرتبطا ليكون منهما خلق جديد.
لا يمكن أن يستمر العالم ويعيش الناس إلا إذا تزوج الرجل المرأة, إنما يصبح الناس – كما رأينا في عصرنا – الذكوريين والإناثيين, هؤلاء يعيش بعضهم مع بعض, الرجال مع الرجال, والنساء مع النساء, لو استمر العالم على هذا النحو لفني العالم بعد قرن أو أقل, لا بد أن يتزوج الرجل المرأة, { هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ } [البقرة: 187], { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [الروم: 21], { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً } [النحل: 72], البنون من صلب الإنسان, والحفدة أبناء أبنائه, وأبناء بناته, بهذا يحيا النوع البشر ويستمر, الإسلام راعى هذه الأمور كلها.
لماذا يخاف الغربيون من الإسلام؟ لو نظروا للإسلام نظرة حقيقية, ونظروا إلى المسلمين نظرة حقيقية بعيدة عن الحروب الصليبية, والحروب التي حدثت بين الفريقين, وخوَّفت كل واحد من الآخر, وقُتل فيها من قُتل, لوجدوا أن الإسلام هو الدين الذي يتوافق مع الفطرة.
الإسلام يكره الخوف, لا يحب الخوف, ولا يحب أن يخوّف الناس, { فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ } [قريش: 3-4], نعمتان من نعم الله: أن يُطعم الناس من الجوع, ويؤمِّنهم من الخوف.
سيدنا يوسف لما ذهب أبوه وإخوته إلى مصر قال لهم: { ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ } [يوسف: 99].
الجنة دار أمن, ليس فيها خوف,{ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } [يونس: 62],{ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ } [الحجر: 46].
الإسلام لا يحب أن يخوِّف الناس, ولا أن يخاف الناس بعضهم من بعض, هو دين سلام, ودين أمن, والنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ"< المؤمن مصدر أمان للناس, والمسلم مصدر سلام للناس, يسالم الجميع, لا يخيف الناس, هذا هو الإسلام الحقيقي, الإسلام يريد من الناس أن يدخلوا الإسلام ويعايشوا المسلمين, يجدوا المسلمين في غاية من اللين, وغاية من اللطف, وغاية من الرفق.
لا ينبغي لأحد أن يخاف من المسلمين, إذا لم يُخِف المسلمين, إذا أنت اعتديت على المسلمين انتظر إذن أن يقابل العدوان بمثله, الإسلام هنا لا يقول: من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر.. لا.. الإسلام فيه درجتان, درجة العدل ودرجة الفضل, أو درجة العدل ودرجة الإحسان, { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ } [النحل: ], العدل أنك تعطي كل ذي حق حقه, ولكن الإحسان أو الفضل أنك تعفو عن المخطئ, وتعطي الشخص أكثر من حقه, له حق عشرة، أعطه اثني عشر أو ثلاثة عشر أو خمسة عشر, وهكذا زيادة من عندك, هذا هو الذي جاء به الإسلام, فما يشاع عن الإسلام من التخويف منه، هذا لا أصل له.
يوجد من المسلمين من كانوا ظلمة, ظلموا المسلمين قبل أن يظلموا غير المسلمين, واعتدوا على المسلمين أكثر من الاعتداء على غير المسلمين, هذا يحدث لأن المسلمين ليسوا ملائكة, المسلمون بشر, بعضهم تعلم الإسلام الحقيقي, وبعضهم لم يتعلم الإسلام الحقيقي, إنما الإسلام هو الإسلام, فيجب أن يعرف الناس حقيقة الإسلام.
المحاور: أغلبية الناس في الغرب يعتبرون الدين هو ضد تحرير الناس, هل في الإسلام رسالة لتحرير الناس من أي ظلم؟ ظلم الاستعمار, ظلم الاقتصاد, ظلم السياسة, ما هي رسالة الإسلام لتحرير البشر والناس في الغرب الآن؟
الشيخ: الإسلام جاء ليقيم العدل بين الناس, العدل قيمة كبرى في الإسلام, فإذا أمر الإسلام بثلاثة أشياء، يكون العدل أولها, { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى } [النحل: ], إذا طلب شيئين يكون العدل أحدهما, { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } [النساء: 58], وعندما يطلب شيئا واحدا يكون هو القسط, والقسط هو العدل, { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ } [الأعراف: 29].
بل الرسالات السماوية كلها جاءت بالقسط, { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } [الحديد: 25], أنزل القرآن والتوراة والإنجيل (الكتب السماوية) ليقوم الناس بالقسط, الناس هم الذين يقومون بالقسط, نحن نعلم الناس أن يقوموا هم بالقسط, لا يحتاجون أحدا يعلمهم, يجب أن يقوم الناس بالقسط.
الإسلام جاء بالعدل للناس جميعا, وحارب الظلم والظالمين, لو قرأت القرآن لوجدت آيات كثيرة ضد الظلم والظالمين, لا أقول بالعشرات, بل بالمئات, { فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا } [الأنعام: 45], { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا } [يونس: 13], { وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا } [الكهف: 59], { فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا } [النمل: 52].
{ وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً } [الأنبياء: 11],{ فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ } [الحج: 45],{ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [هود: 102], { وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258], { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } [آل عمران: 57], { أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ } [هود: 18], { فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ } [إبراهيم: 13].
{ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ } [إبراهيم: 42], { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } [الشعراء: 227],{ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } [الأنعام: 21], { وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ } [هود: 113] آيات شتى.
لا يحب الإسلام أن يُظلم أحد, مسلمٌأو غير مسلم, حتى الكافر لا ينبغي أن يُظلم, الظلم حرام للمسلم ولغير المسلم, يجب أن يكون العدل بين الناس جميعا, القرآن يقول: { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } [النساء: 58], لم يقل: وإذا حكمتم بين المسلمين,
{ وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ }, وهكذا عامل النبي صلى الله عليه وسلم اليهود وعامل النصارى بالعدل, وجاء أبو بكر وعمر والخلفاء الراشدون وعدلوا بين الرعية جميعا, وعدلوا مع خصومهم, فليس الإسلام دين ظلم, الإسلام دين عدل في كل شيء, وهذا أمر تكتب فيه مؤلفات, وكتبت فيه رسائل جامعية فعلا, بعض الناس أخذوا رسائل دكتوراه ورسائل ماجستير، كلها في إقامة العدل في الإسلام.
المحاور: كيف يوازن الإسلام بين الجانب الروحي والجانب المادي؟
الشيخ: الإسلام يوازن بين كل المتقابلات, كل المتضادات, يجمع بينها, يعطي كل ذي حق حقه, الجانب الروحي لا بد أن يكون له مكانه في الإسلام, الإيمان بالله, الإيمان بالملائكة, الإيمان بالكتب, الإيمان بالرسل, الإيمان باليوم الآخر, هذا جانب روحي يظهر في الناحية المادية, النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الإسلام, وعن الإيمان, وعن الإحسان.
فقال عن الإحسان: "أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ, هذا جانب روحي, أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك, فهذا جاء به الإسلام, وتوسع فيالتزكية, والجانب الأخلاقي, والجانب الرباني, وقام على هذا علم الأخلاق الإسلامية, وعلم التصوف في الإسلام.
وجاء بالجانب المادي, {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [البقرة: 201], {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ } [آل عمران: 148], {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا } [القصص: 77], {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا } [النساء: 5], لا تعطي السفهاء الأموال فيضيعوها, "نَعِم بِالْمَالِ الصَّالِحِ، لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ"
وأطول آية في القرآن الكريم جاءت في حفظ المال, حفظ الديون, آية المداينة, صفحة كاملة في موضوع واحد, كيف تحفظ الديون, فهذا ما جاء به الإسلام, الإنسان عندما يكون له دار في الدنيا، وله دار في الآخرة, الإسلام يطالبه أن يعمر داره في الدنيا, ويعمر داره في الآخرة, ولا يصح أن تهتم بإحدى الدارين على حساب الأخرى, لا بد أن يكون المسلم متوازنا في الناحية المادية والناحية الروحية, كما كان النبي صلى الله عليه وسلم, وكما كان الصحابة, النبي صلى الله عليه وسلم له دعاء مشهور يقول فيه: "اللهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ" فهو يطلب صلاح الدين والدنيا والآخرة, هذا ما جاء به هذا الإسلام العظيم, يعمر الحياة الدنيا, ويعمر الحياة الآخرة, الجانب الروحي, والجانب المادي, والجانب العقلي, والجانب الوجداني, وكل جوانب الحياة, حتى تكتمل الحضارة, ويتوازن بعضها مع بعض, وتكون حياة المسلمين لا كحياة الآخرين, لا حياة مادية فقط, ولا حياة روحية فقط, إنما حياة تجمع كل المعاني التي يطلبها الناس.