الرابط المختصر :
تمر علينا هذه الأيام ذكرى مائة عام على رحيل آخر خلافة إسلامية، هي الخلافة العثمانية التي فتح قادتها بلاد أوروبا التي تحكمنا اليوم بسياساتها وأوامرها ونواهيها، وفتحوا البلاد وحكموها بسماحة الإسلام وأذلّوا حكامها وملوكها المتعجرفين المستعبدين لشعوبهم من أوروبا إلى جنوب إفريقيا وغرب آسيا، وسجلوا أياما بيضا، دخل الإسلام فيها أصقاعا لم يكن ليصلها لولا عزيمة القادة كمحمد الفاتح الذي فتح القسطنطينية بوابة العبور الآسيوي إلى أوروبا وبالعكس، وسليمان القانوني الذي وصلت الدولة العلية تحت حكمه أوج ازدهارها، ومنذ رحيل آخر جنود الخلافة الإسلامية العثمانية، جاء أول الغزاة الأوروبيين لبلادنا العربية، تقدمتهم فرنسا إلى الجزائر عام 1830، التي عادت إلى تقاسم الوطن العربي مع بريطانيا ضمن معاهدة "سايكس بيكو"، إذ وقعنا بين استعمار وانتداب، وغزو ومعاهدات وتبعية، ودول وأنظمة سياسية متخاصمة، حتى انتهى الأمر اليوم إلى انهيار أنظمة وخراب دول معروفة.
فما الذي جرى بنا خلال هذا القرن الكامل؟ لقد نفذنا ما خطط له الدبلوماسيان البريطاني "مارك سايكس" والفرنسي"فرانسوا بيكو" بشهادة ممثل القيصرية الروسي "بسيرجي سازانوف"، فأنشأنا دولنا وجيوشنا وكتبنا دساتيرنا ونظمنا قوانيننا وثبتّنا حدودنا القطرية على الأرض بعدما كانت رؤى وأحلاما في أذهان الأوروبيين، وأصبح حلم الوحدة مستحيلا بعد هذا القرن الذي ارتفعت فيه النزعة الشوفينية للدولة القُطرية، حتى وصلنا إلى ما نراه اليوم من ضعف شديد وحس بليد في كل ما يجري لشعوبنا ومقدراتنا ومقدساتنا، وعلى رأسها فلسطين المحتلة فعليا والقدس الشريف الذي يئن تحت وطأة الصهاينة الذين زرعهم الغرب الأوروبي في أبرك بلادنا.
لا أكتب هذا لمجرد سرد وتذكير بالتاريخ، بل للمقاربة فيما يجري حتى اليوم بيننا من مجازر بحق شعوبنا المعزولة عن إرادتها والمقتولة في بيوتها، والمحاربة في ثقافتها وعادتها وتقاليدها المحترمة، والمطعونة بشرفها الديني والتاريخي، وكأن هؤلاء العرب لم يكونوا سوى جيش للشيطان جاء إلى هذه الأرض ليفسدوا الحرث والنسل، ويهدموا الإرث الحضاري لهذا العالم الملائكي، ويصمت العالم عن المجازر بحق السوريين، وينسون تاريخهم عندما حمى المسلمون في دمشق المسيحيين من المذابح التي نالتهم نتيجة الفتنة الطائفية بينهم وبين الدروز في جبل لبنان ووصلت إلى اللاذقية ودمشق أواسط القرن التاسع عشر، وعلى رأس المنقذين كان القائد الثائر ضد الفرنسيين عبدالقادر الجزائري الذي فتح قلعة دمشق لهم.
عندما نبحث اليوم عمن يقرر ويفسر ويأمر وينهى ويعترض في كل ما يخص القضايا العربية سنجده الرجل الأبيض في الولايات المتحدة وأوروبا، منذ نشوء الإمبراطوريات القديمة حتى قيام الدول الكبرى الحديثة، لا تزال هي الوصي علينا، ونحن بالطبع ننساق ونلهث خلفها كالمسحورين، دون قيد أو شرط، وكلما جاءت إدارة قيادية جديدة عندهم تأتي خطة تطويرية لإستراتيجيتهم مع العالم العربي بناء على مستجدات الأحداث والمتغيرات، فالحروب التي وقعت علينا جاءت بقرار الوصاية الغربي علينا، فتم تدمير العراق، لينهار السدّ وتفتح أبواب الجحيم على هذا الوطن غير السعيد، والثورات التي قامت للوصول إلى أعتاب الديمقراطية الغربية التي بشّر بها جورج بوش الأب والابن.
السؤال المحير اليوم: لماذا لا تتفق القيادات العربية على قائمة كاملة بما يتفقون عليه وما لا يتفقون، على ما يحبون وعلى ما لا يحبون، على ما يريدون وما لا يريدون، نحن نفوضهم بالأمر ونحن لا نملك من أمرنا شيئا؟ لا لشيء ولكن فقط لنعرف متى تقع المصيبة وكيف نتحاشاها، وكيف نهرب منها، لا نريد أن نزعجهم، سندعهم يحكمون بما تمليه عليهم الرؤى والأهواء والأحداث والسياسات وأحيانا الأوامر، نريدهم أن يحكمونا هم لا أن تحكمنا دول الغرب والشرق، لا نريد أن نعود مناذرة وغساسنة في ظل الفرس والروم من جديد، لا نريد أن نعود عرب الصحراء لنتقاتل على بعر البعير، نريد فقط أن نكون مسلمين محترمين ومسيحيين طيبين، نريد مناهج تعليم راقية وحوافز علمية مجزية، وقوانين تحترم إنسانيتنا وسياسات ترفع من شأننا وحرية مسؤولة ترتقي بنا، فيكفينا حروبا وصراعات تحصد أطفالنا ونساءنا وشبابنا، وتدمر بلادنا وثرواتنا، وتهدر أموالنا ومياهنا، وتزرع جبال الفتن وأودية الكراهية بيننا.
لقد طفح كيل الدبلوماسية والأدب السياسي واحترام الآخرين بكم هائل من النفاق والتبعية والببغائية في التعاطي مع قضايانا، حتى أصبح الأحرار مجرمين، والمتدينون إرهابيين، والثوار مطاردين، فلا الإسلام السياسي مقبول، ولا الإسلام السلفي مقبول، ولا اليسار مقبول ولا اليمين مقبول، فقط الجواسيس والعملاء وقتلة الشعوب هم الذين يتصدرون المشهد، وتدعمهم القوى العظمى فارسية ورومية، وتفاوض بالإنابة عنهم، وتعقد المؤتمرات في بلادهم، وتصنف الآخرين حسب معاييرها، ونحن العرب الضحايا نستلقي كالأموات أمام شاشات التلفزة نشاهد الفيلم الذي لن تنتهي أجزاؤه، لأن المخرج العظيم لم يقرر بعد ما الذي يريده بنا، ولم لا ما دام الميت منّا والدِّيَة علينا؟.