الرابط المختصر :
المواطنة العامة و الخاصة:
للإنسان في الدولة الحديثة المسلمة أيَّاً كان مذهبه وجنسيته ، حقوق ثابتة في العيش الكريم ـ سيأتي ذكرها بإذن الله ـ ولكنه يملك حق الاختيار في أن يؤمن بأهداف الدولة والأسس التي قامت عليها ، ويمثل الإسلام العمود الفقري ، أو أن يرفض ذلك ، فإن آمن وكان مسلماً فليس له ما يميزه عن إخوانه المسلمين غير مؤهلات، وإن اختار الرفض فهو مجبر من أجل اكتساب حقوق المواطنة أن يوالي الدولة ، ويعترف بشرعيتها ، فلا يتهدد نظامها العام بحمل السلاح في وجهها ، أو موالاة أعدائها ، ولكن مواطنته تظل ذات خصوصية لا ترتفع إلا بدخوله الإسلام ، أي: يظل متمتعاً بحرية لا يتمتع بها المسلم ، تتعلق بحياته الشخصية في أكله وشربه وزواجه[(1)] ، محروماً من حقوق يتمتع بها المسلم كتولي مواقع رئيسية في الدولة ذات مساس بهويتها «الرئاسة العامة» ، ولكنه من جهة أخرى يعفى من واجبات مطلوبة من المسلم ، كالامتناع عن محرمات معينة ، وهي استثناءات محدودة ، وهو مبدأ أساسي مرعي في الدولة الإسلامية ، وإنما هي من مقتضياته ، ونحن لا نعلم دولة في الدنيا قديمة أو حديثة خلت دساتيرها جملة من مسألة تنظيم حقوق المواطنة ، ومنها الحريات العامة ، كحرية تكوين الجمعيات من وضع قيود معينة من شأنها حفظ كيان الدولة ، أو حرية المواطنين ، وحق الأغلبية في أن تصبغ الحياة العامة بصبغتها.
وإذا كان المسلم خارج إقليم الدولة لا يملك غير حق النصرة في حدود إمكانات الدولة ، فإن غير المسلم «الذمي» يملك إلى جانب النصرة سائر الحقوق التي يملكها المسلم ، عدا شغل المواقع ذات المساس المباشر بهوية الدولة ، وطبيعتها الإسلامية ، مع ملاحظة أن الوظائف في الإسلام ليست حقوقاً للمواطن ، وإنما هي أعباء وتكاليف.
لقد لفت نظر المؤرخين الأوربيين ؛ الذين درسوا تاريخ الحضارة الإسلامية ، ظاهرة غريبة لا نظير لها في حضارات أخرى ، هي كثرة الرجال غير المسلمين ذوي النفوذ في جهاز الحكم الإسلامي ، يقول ادم متز: من الأمور التي تعجب لها كثرة عدد العمال والمتصرفين غير المسلمين في بلاد الإسلام ، وكان تشكي المسلمين من ذلك كثيراً.
ويقول المؤرخ الأمريكي درابر: إن المسلمين الأولين في زمن الخلفاء لم يقتصروا في معاملة أهل العلم من النصارى المنظورين ، ومن اليهود محل الاحترام ، بل فوضوا لهم كثيراً من الأعمال الجسام ، ورقّوهم إلى المناصب في الدولة ، حتى إن هارون الرشيد وضع جميع المدارس تحت مراقبة (حنا مستة) فكانت مفوَّضة أحياناً إلى النسطوريين وإلى اليهود تارة أخرى ، واستوزر عدد من الخلفاء عدداً من اليهود والنصارى ، كيف لا ، وقد امنت كل شعوب الدولة الإسلامية في ظل الإسلام على اختلاف دياناتها وألوانها ، فتفتقت مواهبها ، وأحيت ثقافتها وتراثها ، وساهمت مساهمة فعالة في وضع الحضارة الإسلامية ، حتى إن النزهاء من مؤرخي اليهود يعترفون بأن عصر الحضارة الإسلامية بالأندلس ـ مثلاً ـ كان العصر الذهبي لليهود ، يقول (سيمون دينوه) في كتابه (تاريخ اليهود): لأول مرة يتمكن قسم من الشعب
اليهودي من التمتع بحرية الفكر ، وفي القرنين الحادي عشر والثاني عشر بلغ تطور الفكر اليهودي قمة النجاح
أما الدول الغربية المعاصرة فرغم ادعائها المساواة والتحرر من التمييز ؛ فإن ملايين المسلمين من مواطنيها ، رغم بلائهم في تحريرها وتعميرها ، مثل مسلمي فرنسا ، فإنهم لم يضمنوا بعد حتى حقوقهم الشخصية ، كحق الحياة ، والحرية الدينية بإقامة المساجد ، وحمل نسائهم على الحجاب ، مما لا يبقى مجالاً للحديث عن حقوقهم السياسية ، وتوليهم الوظائف الكبرى ، فليس من بين أكثر من عشرة ملايين مسلم في أوربة الغربية وزير واحد ، أو وكيل وزارة ، ولا نائب واحد في البرلمان الأوربي ، والسفير الغربي المسلم الوحيد السيد مراد هوفمان قامت ضجة كبيرة في ألمانيا بسبب تأليفه كتاباً نصرة للإسلام هو: «الإسلام هو البديل» ، وطالبوا بعزله من منصبه كسفير لبلاده ، بينما لم يثر ضجة ، ولا مثّل مشكلاً في أواسط الرأي العام الإسلامي تولي مواطنين ينتمون إلى الأقلية المسيحية في مصر والعراق وسورية مناصب رئيسية في الدولة ، وزراء ، وسفراء .
_____________________
ـ[1] الحريات العامة ، الغنوشي (2/154).
ـ[2] في الفقه السياسي الإسلامي ، فريد عبد الخالق ص (155).
المواطنة والدولة الحضارية:
الدولة الحضارية الحديثة المسلمة تستند إلى منظومة قيم مستمدة من المرجعية الحضارية الإسلامية ، وهذه القيم تمثل النظام الأعلى الحاكم للدولة والمجتمع ، وفي الدولة الحضارية القطرية ، فإن كل من ينتمي لهذه الدولة ، يفترض ضمناً أنه ينتمي للقيم العليا المنظمة للدولة والمجتمع ، ومعنى هذا أنه ينتمي أساساً للمجتمع ، ومن ثم للأمة ، وهو بانتمائه للمجتمع أصبح عضواً فيه ، ولأن الدولة هي وكيل عن المجتمع ؛ فإن كل من ينتمي للمجتمع يصبح عضواً أصيلاً في الدولة ، وبالتالي يصبح مواطناً في الدولة له كل الحقوق ، وعليه كل الواجبات ، ويحظى بعلاقة المساواة من قبل الدولة مثل غيره من أعضاء المجتمع ، وهنا نؤكد على فكرة محورية في الدولة الحضارية ، وهي أن المجتمع سابق على الدولة ، وأن الأمة سابقة على الدولة ؛ لأن الدولة الحضارية تقوم هويتها على قيم ؛ لذا فإن تلك القيم توجد أولاً في المجتمع أو الأمة ، وتصبح سائدة وغالبة ، ومن ثم تقوم الدولة على تلك القيم ، وتستمد شرعيتها من حفاظها على القيم التي امن بها المجتمع ، وامنت بها الأمة ؛ لأن الدولة التي تستند لقيم لا توجد في المجتمع ، وتفرض قيمها على المجتمع ، ليست دولة حضارية ، بل هي شكل من أشكال الدولة المستبدة.
يضاف لهذا مسألة مهمة في التفرقة بين الدول ، ففي الدولة الحضارية يقوم المجتمع على قيم ، وكل من ينتمي لتلك القيم يصبح عضواً في المجتمع ، وبالتالي يصبح عضواً في الدولة ، وهو بهذا مثله مثل غيره لا فارق بينهما ؛ لأن كل أعضاء المجتمع تقوم عضويتهم على إيمانهم بقيم المجتمع ، وهذا الأمر لا يتحقق في المجتمعات التي تقوم فيها الدولة مستندة على القومية ، ففي فرنسا ، مثلاً ، تقوم الدولة مستندة على القومية الفرنسية ، ومن يحصل على جنسية الدولة الفرنسية من غير المنتمين للقومية الفرنسية يصبح مواطناً في الدولة ، ولكنه لا يصبح منتمياً للقومية الفرنسية ؛ لأن الفرد لا يمكن تحويل قوميته ، لأنها عرق ، ولها أساس بيولوجي ، ففي فرنسا تحدد المواطنة علاقة المساواة بين كل حاملي جنسية الدولة ، ولا يمكن أن ينتمي لقوميتهم أحد من خارجها ، لكن الدولة الحضارية تقوم أساساً على القيم ، وهي دولة عابرة للقومية ؛ مما يجعل تعدد القوميات والأعراق فيها جزءاً من تعدد مكوناتها داخل الهوية الواحدة ، ولأن الهوية تقوم على القيم ، فإن كل من ينتمي لتلك القيم يصبح جزءاً من هوية المجتمع والدولة ، ويصبح مواطناً كاملاً في الدولة ، وعضواً كاملاً في المجتمع ، حتى وإن اختلفت أصوله العرقية.
فالمواطنة تتحقق في الدولة الحضارية نتيجة أن الفرد ينتمي انتماءً كاملاً غير منقوص للمجتمع ، وبالتالي تصبح مواطنته مفروضة على الدولة ؛ لأن الدولة وكيل عن المجتمع ، وتتبع هوية المجتمع ، وعليه نقول: إن الدولة الحضارية تتميز بأن الانتماء لها مفتوح، فجنسيتها تعطى لمن يؤمن بالقيم المؤسسة لها[(1)].
ويمكننا أن نتصور أن مع بداية تأسيس الدولة الإسلامية الكبرى ، وتوسعها في العديد من المناطق، وانضمام العديد من القوميات لها، كان هناك اختلافات حضارية ما ، أو كان هناك قدر من عدم التجانس ، وهو ما تم تحويله إلى حالة تجانس عام ، من خلال تجمع كل الأمة على القيم العليا إطاراً جامعاً سمح بمساحة للفروق الثقافية داخلها ، فحافظت المجتمعات على تميزها ، وفي الوقت نفسه اشتركت في الإطار الحضاري العام ، فصارت بهذا أمة واحدة[(2)].
وهنا تبرز خاصة مهمة في الحضارة الإسلامية ، أنها حضارة التنوع في إطار الوحدة ، فهي أكثر الحضارات التي تشمل تنوعاً داخلياً ، ومع هذا فهي أكثر الحضارات التي تتميز بإطار عام حاكم ومحكوم ، وتلك هي خاصة الدين ،
فمنظومة القيم المستمدة من الدين تقوم على قيم محددة ومطلقة، أي: تقوم على عدد محدد من المبادئ العامة ، وداخل هذه المبادئ يمكن أن يختلف الناس ، ولكن إيمانهم بهذه المبادئ يوحدهم مهما اختلفوا داخلها ؛ ولهذا يتمدد التنوع داخل إطار القيم الحاكمة التي تحول هذا التنوع إلى وحدة ..
_______________
ـ[1] الوسطية الحضارية ، د. رفيق حبيب ص (153).
ـ[2] قضايا إسلامية معاصرة ، د. منير الغضبان (1/192).
9 ـ المواطنة والدولة القطرية:
في الاتفاقية الدولية بشأن الحقوق المدنية والسياسية تجد ما يلي:
المادة (1):
لكل الشعوب الحق في تقرير المصير ، وبمقتضى هذا الحق فإنها تقرر بحرية وضعها السياسي ، وتتابع بحرية تنميتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية[(53)] ، أما في وطننا الإسلامي فقد ابتدأت قضية المواطنة قبل قرن وربع في العالم العربي والإسلامي ، وذلك منذ صدور أول دستور عثماني عام (1876م) مقرراً مبدأ المساواة في جميع الحقوق والواجبات بين مواطني الدولة على اختلاف أديانهم[(54)].
إن غير المسلمين صاروا شركاء أصليين في أوطان المسلمين ، ولم تعد علاقاتهم بالمسلمين قائمة على إعارة قبيلة لقبيلة أخرى ، أو خضوع من قبيلة إلى قبيلة أخرى ، الأمر الذي ينبغي أن يسقط معه على الفور ـ ومهما كانت المبررات ـ أي تصنيف لهم في مربع الأجانب الأخرى[(55)].
ولابد من إيضاح هذا المفهوم ؛ فلقد كانت المواطنة في الدولة الإسلامية منذ عهد الفتوح الإسلامية قائمة على تقسيم المواطنين لفريقين: مسلمين وذميين ، والمسلمون لهم حقوق تختلف قليلاً أو كثيراً عن حقوق أهل الكتاب أو أهل الذمة ، وفي الوقت الذي يدفع المسلمون فيه الزكاة يدفع أهل الذمة الجزية ، ويكون حق الدفاع عن البلد واجب المسلمين ، والجزية مقابل حمايتهم ، والحفاظ على حرماتهم وأغراضهم ، وعندما تعجز الدولة عن الحماية تعيد الجزية ، وتدعو أهل الذمة إلى المشاركة في الدفاع عن الوطن المعرض للخطر من العدو الخارجي.
أما منذ صدور القانون العثماني عام (1876م) فقد أنهى هذا التقسيم لمسلمين وذميين ، واعْتُبِر المواطنون متساوين في الحقوق والواجبات ، وصار أهل الذمة والمسلمون شركاء في الدفاع عن الوطن ، وهذا أقرب إلى وضع الدولة الإسلامية الأولى في المدينة ، فقد كان يهود المدينة شركاء في المواطنة ، لليهود نفقتهم وللمسلمين نفقتهم ، وعليهم النصر على من داهم يثرب ، وجوف يثرب حرام على أهل هذه الصحيفة[(56)].
_____________________________