مسألة الانقلابات العسكرية على الحكومات الشرعية المنتخبة الممثلة
لإرادة الشعب فى العصر الحديث عرفت لدى فقهاء السياسة الشرعية القدامى بما
أسموه بإمامة المتغلب .
وقد اعتبر بعض الفقهاء أن التغلُّب هو إحدى
طرائق الوصول إلى السلطة، إذا استقرَّ للمتغلب الوضع، ودان له الناس . وهذا
ما فعله عبد الملك بن مرْوان، بعد انتصاره على ابن الزبير رضي الله عنه ،
وقد أقرَّه الناس ، ومنهم بعض الصحابة: مثل: ابن عمر، وأنس بن مالك ،
وغيرهما، حقنا للدماء، ومنعا للفتنة، وقد قيل: سلطان غشوم، خير من فتنة
تدوم .
والحق أن التغلب ليس طريقا شرعيا للوصول للحكم ، إنما هو
طريق اللصوص والقتلة وقطاع الطرق ، للقفز على أعلى ولاية فى الدولة وهى
ولاية الرئاسة التى تضاهى الإمامة العظمى ، وإنما هو اعتراف بالواقع إذا
حدث ، ونزول على حكم القوة والضرورة عن غير رضا أو إرادة ، وأن قبوله إنما
هو قبول المضطر ، كمن يقدم مضطرا على أكل لحم الميتة أو شرب الخمر إذا تعرض
للهلاك من باب الضرورات تبيح المحظورات .
وتبقى نظرة الفقهاء
والمسلمين إليه على هذا النحو ، حتى يتسنى لهم تغيير هذا الواقع الخاطئ ،
ريثما تتهيأ الأسباب ، وتسنح لهم الفرصة لتغييره ، ويرى الفقهاء أن السعي
واجب دائما لإزالة إمامة المتغلب عند الإمكان ، ولا يجوز أن توطن الأنفس
على دوامها ، هذا من ناحية .
ومن ناحية أخرى فإن ما ورد عند الفقهاء
القائلين بعدم الخروج على الحاكم المتغلب اشترطوا أن يكون قد استقر له
الأمر ، واستتب له الحكم ، وتمكن من الإحكام على مفاصل القوة ، فيصبح
الخروج عليه بدون قوة مكافأة ضربا من الانتحار ، وتعريضا للنفس للهلكة دون
ثمرة ترجى ، وخوضا فى بحار من الفتن والفوضى ، تسيل فيها الدماء ، ويضطرب
معها الأمن .
كما قيد الفقهاء ذلك بما إذا كان في صرفه عن الإمامة
فتنة لا تطاق ، فإن لم يترتب على صرفه فتنة ، أو كان في صرفه أخف الضررين ؛
وجب صرفه عن الإمامة وإخراجه منها. فلماذا نتوهم دائما أن التسليم لإمامة
المتغلب هو أخف الضررين ، وليس صرفه هو أخف الضررين ؟
وهناك من لا
يجيزون الخروج على الحاكم الذى وصل بالتغلب ، حتى لو كان ظالما أو فاسقا ،
وإن جلد ظهرك وأخذ مالك ، أقول : إن ترديد مثل هذا القول أبد الدهر لا يخدم
إلا الظالمين والمستبدين ، كما يعد البوابة الخلفية التى يعبر من خلالها
من يريد الوصف بالتغلب ، ما دام هذا هو المخدر الذى سيهدئ أعصاب المسلمين ،
والرأى الفقهي الذى سيسكت صوت الحيارى المتسائلين .
للأسف ترديد
مثل هذه الآراء اليوم نوع من التقنين لأوضاع الظالمين والمستبدين بمستند من
الفقه، وعهد أمان مسبق من الفقهاء للمتغلبين ، وإغراء لكل من يأنس من وضعه
قوة بالتغلب على إراداة الشعوب الحرة ، ومباركة فقهية باسم الشرع للظلم
والظالمين ، وشرعنة لتخطى إرادة الأمة باسم التغلب، والرضوخ للواقع ، وقتل
لروح التغيير والمقاومة والإنكار للمنكر فى حياة الناس .
ثم إن كان
هذا الذى تغلب جاء ليزيل ظالما ويصلح ، فليعد الأمر إلى إرادة الأمة وهى
تختار ، إن رأت فيه خيرا فبها وإلا فلا ، وإن كان متغلبا لرغبة وهوى وتسلط
فلم يتغير وصفه عمن سبقه ، إذ المحصلة استبدال ظالم بظالم ، فيبقى تغييره
ونصب الحاكم العادل هو المفتى به ، متى وجدت الشعوب فى نفسها القدرة على
تغييره حتى لا تستكين الأمة لمخدر التغلب وتدمنه ، وتعتاده وترتضيه ،
وتنطفئ فى حياتها جذوة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وتركن إليه
باعتباره حلا فقهيا له وصف الشرعية ، ويتحول الأمر من النظر إلى التغلب على
أنه حالة طارئة ووضع مؤقت إلى حالة دائمة ووضع مستقر ، وهذا ما يفسر لنا
الاتجاه الجبرى فى الحكم منذ مئات السنين من تاريخ أمتنا .
ولعل
ترديد هذا الرأى فى الفقه السياسى الإسلامى دون وضع ضوابط له كان أحد أسباب
تأخر الشعوب المسلمة فى نيل حرياتها ، والعمل على استعادة كرامتها ، وبناء
نهضتها .