لقد شكل الربيع العربي زلزالا في تاريخ المنطقة، وأزاح حكاما ديكتاتوريين مستبدين متجبرين من أمثال زين العابدين بن علي، وحسني مبارك، ومعمر القذافي، وعلي عبد الله صالح.. إلخ.
لكن سرعان ما تعثر هذا الربيع العربي، فاستأثر عبد الفتاح السيسي بحكم مصر، وأعاد سيرة الحكام السابقين، كما اضطرب الوضع في ليبيا وسوريا واليمن، وحدث الاقتتال بين أطراف متعددة وأدى إلى دمار كبير في البلدان الثلاثة، ومازالت الأمور تسير إلى مزيد من الدمار.
لقد جاء الربيع العربي مؤذنا بنهضة ثانية، لكن هذا الربيع الذي رفع راية النهضة الثانية انتكس بكل أسف، وتراوحت انتكاسته بين التعثر والردة.
ومن الطبيعي أن تكون هناك عوامل خارجية وعوامل داخلية في بنية الربيع العربي أدت إلى هذا التعثر والردة، والأرجح أن العوامل الخارجية استفادت من العوامل الداخلية وبنت عليها واستثمرتها لكي تزيد من حجم التعثر والانتكاس، ولتقطف ثمرات الارتكاس، ولتبلورها في سياسات ومشاريع وبرامج على أرض الواقع.
ومن أبرز العوامل الداخلية التي أدت إلى تعثر الربيع العربي أربعة عوامل، هي:
قصور البناء الجماعي
لا شك أن أول عامل في نجاح التغيير يقوم على وجود حزب أو جماعة أو طليعة خططت لتغيير الأوضاع، وتمتلك منهاجا سليما متكاملا، ورسمت خطة بناء على ذلك المنهج، وتوفرت لها قيادة حكيمة.
لكن شيئا من هذا لم يتوفر في أية دولة من دول الربيع العربي، والسبب في ذلك أن الأنظمة التي قادت دول ما قبل الربيع العربي كانت أنظمة ديكتاتورية استبدادية قامت على تدمير الجانب السياسي في حياة الشعوب، وقامت على تخويف الشعوب، ونشر الرعب بينهم، واستخدمت في ذلك أجهزة المخابرات التي تدخلت في كل شؤون المجتمع من سفر وبيع وشراء واستثمار وتنقل ومعاملات ورخص وكتابة وطباعة ونشر وإعلام.. ومنعت الشعوب من الاجتماع وتبادل الرؤى والأفكار، وحظرت قيام أي منظمات وهيئات مدنية حرة، ومنعت تكوين أي أحزاب ذات فاعلية، وقد أدى هذا المنع والحظر والقمع ليس إلى الفقر المدقع في مجال البناء الجماعي بل إلى موات هذا الجانب.
لذلك عندما قامت ثورات الربيع في بلدان الربيع العربي، كانت ثورات عفوية، ولم تكن تملك أية أطر أو أية قيادات توجهها، لذلك نجحت في إزاحة الديكتاتور المستبد فقط، ولم تنجح في بناء البديل.
ولما كانت الجيوش أو المؤسسات العسكرية في دول الربيع العربي هي المؤسسات الوحيدة التي حظيت بعناية الحكام الديكتاتوريين المستبدين من أجل ديمومة ملكهم، واستمرار تسلطهم، ظهرت فاعلة حية واعية مترابطة، لذلك نجحت في الارتداد على ثورات الربيع العربي كما حدث في مصر، أو لجمت الثورة كما حدث في تونس.
أما في الأماكن التي انفرط فيها عقد مؤسسة الجيش فيها كما حدث في ليبيا واليمن، فإن الصراع قد انفجر على أشده بين عدد من المكونات السابقة والحديثة لغياب الإطار الجماعي الأقوى ذي المنهج السليم، المرتبط بقيادات واعية.
ومن المتوقع أن يستمر الصراع الداخلي بين مختلف الأطراف والأيديولوجيات، وستستمر التدخلات الدولية والإقليمية في الأماكن التي لم يحسم فيها الصراع، والتي انتهى فيها الجيش أو ضعف مثل اليمن وسوريا، إلى أن يستقر الوضع على صيغة ما تتقاسم فيها الأطراف الكعكة، وتنتهي الأطراف الضعيفة وغير المقبولة من الجهات الدولية والإقليمية.
القصور في المراجعة
لقد قامت خلال القرن الماضي تجارب متعددة استهدفت تغيير الأوضاع باتجاه النهضة، وتشكلت لذلك عدة أحزاب وجماعات، ورسمت برامج، وقادها مفكرون وعلماء وزعماء، ونجحت في تغيير بعض الجوانب، وفشلت في تغيير البعض الآخر، وسأشير هنا إلى القصور في مجال المراجعات الإسلامية حتى أكون أكثر تحديدا، وأرجح أن الأمر ينطبق بشكل أقل في مجال المراجعات القومية والماركسية والليبرالية.
فإذا رصدنا حركات التغيير التي قامت في العالم الإسلامي في القرن العشرين بدءا من حركة عبد الحميد بن باديس في الجزائر، وعلال الفاسي في المغرب، والطاهر بن عاشور في تونس، وحسن البنا في مصر، وأبي الأعلى المودودي في الباكستان، وتقي الدين النبهاني في فلسطين، مرورا بتجربة الجهاد الأفغاني الذي استقطب كل حركات العالم الإسلامي ورجالاته، وانتهاء بالثورة السورية عام 1980، والعشرية الحمراء بين عام 1990-2000 في الجزائر.. إذا رصدنا كل تلك الحركات، وفتشنا كل المراجعات والتقويمات والأعمال النقدية التي تناولت الأعلام والوقائع والإنجازات، فإننا سنجد الرصيد محدودا إن لم يكن معدوما، وما كتب في مجال المراجعة في حال وجوده سيقوم على المدح والقدح وليس على التحليل والتمحيص والغربلة والفحص المعمق.
إن هذا القصور في المراجعات جعل حركات التغيير لا يستفيد اللاحق منها من السالف ولا يتجنب أخطاءه ولا يستفيد من إنجازاته وإيجابياته فيبني عليها.
التعامل مع المفاهيم الغربية
من الجلي أن المفاهيم والقيم والأفكار التي بنيت عليها الحضارة الغربية في مجال القومية والديمقراطية والعلمانية والاشتراكية.. جاءت نتيجة تطور اقتصادي واجتماعي وسياسي وديني وثقافي خاص بالحضارة الغربية، ومن أكبر الأخطاء التي يقع فيها السياسيون والقادة في منطقتنا هو إنزال الأفكار الغربية على واقعنا كما انتهت إليها في أوروبا، وهذا ظلم للأفكار والمفاهيم من جهة، وظلم لواقعنا من جهة ثانية.
ويمكن أن نقدم نموذجا على ذلك في مرحلة التطبيق الاشتراكي التي عاشتها منطقتنا، فقد تبنت كثير من الدول تطبيق الفكر الاشتراكي كما حدث في مصر وسوريا والسودان والجزائر والعراق.. في فترة الستينات، ولكن عندما طبقت الاشتراكية لم تراع ظروف المنطقة، بل نقلت الأفكار الاشتراكية بحرفيتها، فاعتبرت أن هناك طبقة برجوازية وهناك طبقة بروليتاريا، وأن هناك صراعا بين هاتين الطبقتين.
والحقيقة أنه لا وجود لهاتين الطبقتين في تاريخ المنطقة، وأن هاتين الطبقتين وجدتا في أوروبا نتيجة التطور الصناعي الذي قام مع وجود الآلة البخارية والكهربائية التي انبثقت عن الثورة الصناعية في بداية العصور الحديثة، بل إن كارل ماركس نفسه صنف الاقتصاد في الشرق الآسيوي تحت مسمى جديد سماه "النموذج الآسيوي للإنتاج"، وأعطاه ملامح خاصة غير موجودة في النماذج التي درسها في أوروبا.
وقد دمرت التطبيقات الاشتراكية التي اعتمدت النظريات الماركسية في وجود طبقتين متصارعتين اقتصاد المنطقة بدلا من أن تجعله يزدهر في كل من مصر وسوريا والعراق والجزائر.. وأفقرت جماهير الناس عوضا عن إغنائهم، وزادت من ديكتاتورية الأنظمة واستبدادها بدلا من أن تزيد مساحة الحرية الممنوحة للشعوب.
ويمكن أن نضرب مثالا آخر على الخطأ في فهم المصطلحات الغربية بمصطلح "الوطن" و "المواطنة" و "المواطن"، فقد فهمه بعض الدارسين بأننا بمجرد أن نسمي قطعة أرض "وطنا" فيلحقها بكلمة "المواطنة" و "المواطن" ويبدأ يقول: يجب أن نعتمد مبدأ "المواطنة" و "المواطن"، مع أن "المواطنة" لا تتولد بمجرد تسمية أي منطقة أرض باسم "الوطن" بل يتولد "الوطن" نتيجة تفاعل قيم وعادات وتقاليد ومفاهيم بين مجموعة من السكان لمدة عشرات السنين، ثم ينتج عن ذلك التفاعل قيم ومفاهيم وعادات وتقاليد خاصة بهذا "الوطن"، ومن هنا يولد "الوطن" كما حدث في فرنسا وإنجلترا وهولندا وبلجيكا، ثم تنبثق عنه قيمة "المواطنة" وقيمة "المواطن".
والسؤال الآن: كيف يمكن أن نتجنب النتائج السيئة التي نتجت من إنزال المفاهيم الغربية ومن تطبيقها؟
يمكن أن نتجنب ذلك بمحاولة تبيئتها بما يناسب ظروف المنطقة وتطوراتها التاريخية، ففي مجال مفهوم الاشتراكية يمكن أن نأخذ صور التطبيق الجماعي التي وجدت في التطبيق الاشتراكي دون التبني الحرفي لمفهوم طبقتي البرجوازية والبروليتاريا وحتمية الصراع بينهما لغياب وجودهما في الواقع الاجتماعي للمنطقة.
تضخم العاطفة وقصور الوعي
يلحظ المراقب لبناء الفرد في منطقتنا بأنه يتميز بتضخم العاطفة وقصور الوعي، لذلك عندما تطرح قيادة ما شعارات عاطفية فإنه يتجاوب معها دون تدقيق في بنية البرنامج الفكري لهذه القيادة، ومدى سلامته، ويمكن أن نمثل على هذه الحقيقة بنموذجين "مشروع ملالي إيران" أولا، و "داعش" (تنظيم الدولة الإسلامية) ثانيا.
فقد طرحت قيادة "مشروع ملالي إيران"، منذ بداية الثورة شعارات مثل "وحدة المسلمين"، "نصرة المستضعفين"، "محاربة الاستكبار العالمي"، "الموت لإسرائيل"، "نصرة القضية الفلسطينية".. إلخ.
وقد تجاوب معها جمهور كبير من المسلمين في كل أنحاء الأرض نتيجة تضخم العاطفة، مع أن "مشروع ملالي إيران" أفرز على الأرض نتائج معاكسة لكل شعاراته، فقد فرق المسلمين في كل بلاد العالم الإسلامي وجعلهم كتلتين متصارعتين بدلا من أن يوحدهم، وقتل من المسلمين في سوريا والعراق واليمن أكثر مما قتل من الصهاينة وتعاون مع أميركا وخدمها في مواضع كثيرة مثل احتلال افغانستان والعراق، وقرر تفكيك البرنامج النووي وإنهائه لصالح إسرائيل.
وأما "داعش" فقد طرحت شعار "إقامة الخلافة" التي هي حلم أجيال المسلمين بعد سقوط الخلافة العثمانية في إسطنبول عام 1924، وادعت أنها أقامتها في الموصل؛ لذلك تجاوب معها كثير من الشباب في كل أنحاء الأرض دون تدقيق في مدى صحة وشرعية هذه الأقوال في ادعاء الخلافة، وجاء هذا التجاوب نتيجة تضخم العاطفة وقصور الوعي في معرفة صورة الخلافة السليمة التي يجب أن يبايعها هذا الفرد، ومن الأكيد أن معالجة هذا القصور تكون بزيادة مساحة الوعي عند الفرد وتعميقه.
الخلاصة: لقد تعثر الربيع العربي نتيجة عوامل داخلية وأخرى خارجية، والأرجح أن القوى الخارجية استفادت من العوامل الداخلية في عرقلة مسيرة الربيع العربي، وأبرزنا في السطور السابقة أربعة عوامل منها، يجب على القيادات أن تبدأ بمعالجة هذه العوامل من أجل تسديد مسيرة الربيع العربي.