يشكل جمع الأسئلة الملحة عن مستقبل العالم الإسلامي وآثار التطورات الضخمة فيه، وخاصة توجهه لما يشبه الانهيار السياسي الاجتماعي في جغرافية المشرق العربي، حالة صدمة شعورية وثقافية كبيرة، تتجاوز أزمات المواجهة التي عاشتها الحركات الإسلامية العربية، بعد حروب نقض الربيع العربي وقبلها، لتعود لمهمة انطلاق حركة الإحياء الإسلامي ذاتها.
فالسؤال الكبير اليوم لم يعد تعقد ميلاد المشروع السياسي للإسلاميين فقط، ولكن موقف الثقافة في ظل هذه الفوضى الجامحة والأحداث من مفهوم الإسلام في عقل الحركة الشبابية العربية، في صفوف المتدينين وغيرهم، وأين يقف العالم والإنسان وخاصة أزمة العقل والاستقلال العربي، من الهوية الإسلامية.
وأين بدأت تتشكل فكرة الوعي الإسلامي الحركي، ومتى انفصلت عن خطاب النهضة للإحياء الإسلامي، وأين كان صعودها، وما هي معالم التفكير الإسلامي التجديدي بعد هذه المرحلة الصعبة لإنسان الشرق، المُهدد جغرافيا وسياسيا، بفوضى قائمة وقادمة.
والمقصود بحركة البعث الإسلامي هو لحظة التحول التي سبقتها مراجعات ودعوات لعلماء شريعة تقليديين وتنويريين ومفكرين في حاضر العالم الإسلامي، كانت تستشعر حجم القصور في الوعي الديني وفي الممانعة القومية للشرق أمام أمراضه الذاتية، أو حلقات الاستعمار المتنوعة.
هذا التحول من الصعب الجزم بيوم ميلاده، لكنه مرتبط بصورة كبيرة، ومن خلال شهادات كثيرة، ومنها شهادة مؤسس كبرى الحركات الإسلامية الحركية في الوطن العربي، الإمام حسن البنا مؤسس حركة الإخوان المصرية وغيره.
وهي شهادات تشير إلى أن هذا التحول كان منطلقا من المدرسة المعرفية التي قادها تحالف السيد جمال الدين الأفغاني، والإمام محمد عبده، وسُبق وألحق بدعوات فكرية مختلفة في المغرب العربي وفي المهجر كالأستاذ مالك بن نبي والمفكر الكواكبي، والأستاذ أبو الحسن الندوي في الهند، ثم الأستاذ محمد رشيد رضا، وجماعة من علماء ومثقفي الشرق، الذين لم يصنفوا أيديولوجيا وقتها، ولم تحتويهم حزبياتها.
وقد تواترت دعواتهم، وتقاربت في مواجهة ثلاثة مسارات:
1- الجهل المنتشر في حواضر العالم الإسلامي، في الفكر الديني السائد، وانحرافاته عن الإسلام الصحيح، وعجزه أمام الفلسفة الغربية الوجودية، وفي الجهل المعرفي بعلوم النهضة التقدمية التي خاضها الغرب.
2- وواقع الاستبداد السياسي تحت السلطات المحلية، وإشكاليات الفساد والتخلف الذي نهش الدولة العثمانية لقرون، ثم تأثرها بصراع السلطان عبد الحميد مع الخطط الغربية لتثبيت السلطنة، والذي تأثر بدوره وبشهادة عدد من المعاصرين، برفضه دعوات الإصلاح في داخل تركيا وفي خارجها، ورفضه لنصائح قادة الرأي من العرب والأتراك، والذي سرع انهيار السلطنة وعزله.
3- ثم التدخل الغربي الواسع الذي كان يجوب داخل السلطنة وخارجها، وقد اعتمد مبكرا خريطة التقسيم الكبرى التي باشرتها اتفاقية سايكس بيكو، لتقاسم كامل الشرق، وتسخير جغرافيته لمصالحه الحيوية العنصرية التي أفرزت وحرمت منذ ذلك التاريخ شعوب الشرق والجنوب، من الاستحقاق الديمقراطي وتكافؤ التنمية، وحرية السيادة.
وقد شكل إطلاق مجلة العروة الوثقى 1883 في باريس من طرف السيد جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده، في ذلك الحين حالة استشعار لسقوط الشرق، فكان الإعلان الأولي عن مفهوم البعث الإسلامي، بصناعة النهضة والمقاومة التي دُعمت منهما ومن أنصارهما في حينه، لكنها أيضا كانت تحريكا عقليا تنويريا باسم الشريعة وأصولها، نحو إعادة ركن رئيسي في المعرفة الشرعية وهو التجديد في الدين، وهو ركن فكري فقهي لا يختلف عليه المسلمون.
هذه البواعث عادت مجددا مع أول الدعوات الأيديولوجية، وخاصة بعد ضعف آثار حملة تيارات علماء ومشايخ وسياسيين، وقفوا ضد منهج التجديد، إما لخلاف في الفهم في تحقيق أصول الاستدلال أو لغيرة متّقدة لدى التقليديين، وحذر مفرط تجاه دعوات التجديد، أو لتأثير حملة الأستانة على السيد جمال الدين الأفغاني وكل مدرسته، بعد إصراره على تنفيذ حقيبة الإصلاح السياسي، التي رآها من ضروريات الشرق.
كما أن فكرة الإصلاح الثقافي والسياسي التي تبناها مجددو الفكر الإسلامي، حرّضت عليهم أنظمة ووكلاء محليين للاستعمار، مستثمرة صراع التقليديين والتجديديين في فقه الشريعة، وكان العامل الغربي متابع وراصد وشريك في بعض هذه المطاردات.
ولم يكن التنافر بين الأيديولوجيا والبعث الفكري الإسلامي المستقل ظاهرا إطلاقا في بداية دعوة البنا التي أثرت على كل مصر والشام، وانتشرت بين الشرعيين في دمشق وحواضر سوريا والقاهرة، ولم يكن مطروحا مفهوم المجتمع الجاهلي والجماعة المؤمنة أبدا، فقد اتخذ الإمام البنا ذاته سلسلة مفاهيم تؤكد أن دعوة التجديد للعروة الوثقى، هي إحدى مسارات دعوته الحركية في تنظيم الإخوان والتي تأثر بها كثيرا.
وجدير بنا أن نسجل هنا الفرق المهم للغاية، بين منهج الإمام البنا -وإن تضمن أخطاء كبيرة ومبالغات- ومراجعاته في خطاب المؤتمرات الطلابية، وبعض مفكري الإخوان، وبين الدعوة التعبوية الحادة التي شكلتها منهجية الأستاذ سيد قطب، وتأثره النفسي من القمع المتطرف الذي واجهه، وحشود من المقلدين بعده من مسؤولي الإخوان، وبعض قواعدهم التربوية، التي خنقتها روح التعبئة ومفاصلة المجتمع.
وقد شاركت المكتبة الإخوانية بالفعل في خطاب الإحياء الإسلامي الأول، وخاصة من خلال جناحها التنويري في ذلك الوقت، والذي مثله الشيخ محمد الغزالي، ثم تلميذه د. العلامة يوسف القرضاوي في تناول هذه المفاهيم التجديدية وإن جرى فصلهما عن التنظيم، كما كانت أطروحات الدكتور مصطفى السباعي في ذات الاتجاه، وسرت ثقافة تناقل واسعة تتواصل مع الرأي العام المسلم، وتتجاوز نموذج الكيانات الدعوية المؤدلجة.
غير أن مواجهة المؤسسات الرسمية لهذه المدرسة، وبدء تفاعل فكرة الإسلام الأيديولوجي في صفوف مريديه كراع خاص للإسلام العام، ومفسّر حصري لمفاهيمه الكبرى في حياة الإنسان، شكلا عنصري التحزب النفسي ثم الثقافي، لتصعد الأيديولوجيا عند جماعات عديدة، وتكسب شعبية كبيرة لدى فئات كانت تتعطش لصوت الروح والهوية، وخاصة بعد استنفاذ نماذج ليبرالية ويسارية وقومية، التبشير بمشاريع مرحلية فشلت في ذلك الزمن.
وهذا النموذج لم يكن حاضرا في التجربة التركية، فقد شكل التصوف مرجعية مشتركة للتقليديين والإسلاميين السياسيين، كما هي مرجعية الإمام بديع الزمان النورسي، ومنزلته الروحية في رحلة الكفاح الإسلامي مع العلمانية العنيفة للجمهورية الحديثة في تركيا، ورمزها المؤسس مصطفى كمال أتاتورك.
في حين تطابقت التجربة الأيديولوجية كثيرا بين الجماعة الإسلامية وشيخها الأستاذ المودودي في باكستان، مع رحلة الإخوان المصريين.
وكلما قويت المواجهة والقمع الأمني للإسلاميين العرب كلما صعدت روح التحزب الأيديولوجي، وليس معنى ذلك رفض حق الإسلاميين في تشكيل أحزاب سياسية، وانما المقصود إشكالية الانسحاب من مفهوم الإسلام الشامل للشرق، إلى الإسلام الأيديولوجي المعبّر عن الجماعة، واعتباره وطنا قوميا للحركيين، واعتقادهم أن استقلال الأمة أطلق مسيرة التحرير الكبرى لإقامة الخلافة التي كانت تَستلهم لواقعهم نصوصا غير قطعية لا دلالة ولا ثبوتا، لتسخين العواطف وجذب الشباب الملتزم نحو هذه الفكرة، دون مراجعة أخطاء التفكير والتجربة السياسية للتصحيح. وهذا الأمر سنبينه أكثر مع مقترحات علاجية في المقال القادم بحول الله.