البحث

التفاصيل

معالم الاستبداد الثقافي في المغرب

الرابط المختصر :


     جرت العادة أن يتحدث الناس عن الاستبداد مرتبطا بمجال السياسة والحكم؛ فيعودون به من الناحية التاريخية إلى رمز الاستبداد فرعون؛ الذي طغى وتجبر وأهلك الحرث والنسل، وأرهق العباد، وذلك ما يصوره القرآن الكريم بقوله: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) القصص (4)، غير أن هناك استبدادا ليس أقل خطرا منه على الإنسان؛ ذلك ما يصطلح عليه اليوم بـ"الاستبداد الثقافي". والمغرب لا يسلم من هذه الآفة الخطيرة التي تهدد وحدة نسيجه المجتمعي وأمنه الروحي؛ نظرا للجوانب التي يشملها هذا الاستبداد. ومن يتابع مجريات التدافع حول هوية البلاد ومعارك الإصلاح؛ يرى أمامه معالم الاستبداد الثقافي واضحة جلية.

    أول هذه المعالم ذلكم القهر اللغوي الذي يمارسه اللوبي الفرنكفوني أساسا على اللغتين الوطنيتين الرسميتين في الإدارة والإعلام والتعليم والاقتصاد  والسياسة والحياة اليومية؛ فإذا كنت في بيتك تهجم عليك القنوات الممولة من ضرائب المغاربة بلغة غير لغتك، وثقافة غير ثقافتك، وتجبرك على تحمل هذا العبث في خيرات وطنك، وقد كان الأولى بهذه المنابر الإعلامية أن تكون وفية للجهة التي تحفظ لها بقاءها؛ فتقدم لها ما يوافق حياتها وواقعها القيمي واللغوي، بدل السفر إلى باريس، ومخاطبة شعب باريس!

    وحين يقصد المواطن إداراته ومرافقه العمومية، خصوصا في المصالح الطبية، يفاجئه الموظفون بأوراق مكتوبة بلغة المستعمر الفرنسي. وفي مؤسساتنا الجامعية يجبر الطلاب المتخصصون في العلوم على تلقي المعارف بغير لغة الوطن، مما يؤثر سلبا على مستواهم في التكوين. وفي أوساط المجتمع تجد الكثير يكسر في لسانه، ويتكلف جهده باحثا عن كلمات من لغة الآخر يشنف بها الأسماع؛ معتقدا أنه يرتقي بين طبقات المجتمع؛ وهو غارق في ذلة التبعية والذلة والهزيمة النفسية.

     وثاني هذه المعالم فرض سياسة الرقص والإلهاء؛ فهل من المعقول أن ننفق كل هذه الجهود والأموال في الرقص والإلهاء وإشغال الشعب عن متابعة قضاياه اليومية، والإسهام في صناعة مستقبله؟ لقد أصبح "المهرجان" سياسة دولة؛ ولم يعد مجرد محطات للترفيه والتنفيس بين حين وآخر؛ فلا يكاد ينتهي واحد في مدينة حتى يخلفه رديفه في مدينة أخرى، وما أكثر المهرجانات التي أقيمت في نفس اللحظة الزمنية في منطقتين مختلفتين! ولقد مثل "مهرجان موازين" عنوانا عريضا لهذه المرحلة من تاريخ المغرب، حتى لكأننا يمكن أن نسمي هذا الزمن التاريخي من عمر المغرب "زمن المهرجانات"، فهو السمة التاريخية البارزة فيه.

     وثالث المعالم هو أحادية الدعم؛ فإذا كانت تلكم المهرجانات والهيئات الجمعوية وغير ذلك ممن يشتغلون بتصورات تخالف هوية هذا الوطن يلقون الدعم والترحيب؛ فإن غيرها من الجمعيات والمنظمات يلقون التضييق والترهيب، ولا يحظون بما يحظى به غيرهم من دعم وتمكين وتصفيق. ففي كل يوم نقرأ في الجرائد، ونسمع في وسائل الإعلام من الأفكار والآراء ما يخالف هوية المغاربة؛ ولا نسمع من ينكر أو يقول إن هذا مخالف للدستور وهوية الوطن، فإذا تجرأ واحد من الغيورين على هذا الوطن برأي، وقال شيئا يخالف ما يرونه، حتى ولو كان مسنودا بأدلة علمية؛ تراهم يهاجمون ويصرخون ويولولون؛ كما لو أنه أحدث جريمة من الجرائم.

    أما رابع هذه المعالم فهو فرض التطبيع على المغاربة بالإكراه، وذلك ما يكشفه رقم المعاملات التجارية مع الكيان الصهيوني؛ الذي تكشف عنه المؤسسات الرسمية الصهيونية سنويا، ثم زيارات الصهاينة للمغرب للمشاركة في عدد من الملتقيات، وزيارات عدد من المغاربة للكيان الصهيوني تحت مظلات مختلفة، وبمبررات أغلبها تتلبس بلبوس علمي. يحدث هذا في الوقت الذي يجمع فيه الشارع المغربي على ضرورة قطع العلاقات مع المحتل الصهيوني الغاصب، كما يحدث هذا والمغرب يرأس لجنة القدس، والمفترض فيه أن يكون أشد حرصا من غيره على قطع هذه العلاقات.

  والخلاصة أنه إذا كان الاستبداد السياسي يفتك بالحريات والحقوق الجماعية والفردية؛ فإن الاستبداد الثقافي يفتك بالعقول والضمائر، ويدمر خصوصيات الأوطان، ويدك معالم الهوية، ويفسد الأذواق، ويشتت بنيان الإنسان. فإلى متى يظل الحال على ما هو عليه؟ ومتى تقرر الدولة التصالح مع التاريخ والهوية الدستور وإرادة المغاربة؟!


: الأوسمة



التالي
نجل صلاح سلطان: والدي يتعرض للانتهاكات وإدارة السجن تهدده بالتصفية
السابق
ملتقى تلاميذ القرضاوي الرابع.. "المنهج الدعوي عند القرضاوي ملامح وآفاق"

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع