بين الحكام والمحكومين، خيط رقيق ودقيق، هو الصدق المفضي إلى العدل، وبين الأمراء والعلماء حلقة متينة ورصينة، هي حلقة الأمانة والبطانة، فإن فُقدت، فذلك هو الخراب، واليباب.
فالصدق والعدل، والأمانة، وحسن البطانة، هي عوامل الصيانة لكل نظام، فإذا فُقدت، فإنّ ذلك مؤذن بالزوال، والاضمحلال، وسوء المآل.
وإنّ الضامن لكل هذه الصيانة، إنما هم العلماء، ورثة الأنبياء، فهم أهل الحل والعقد الذين بهم، تُفكّ العقد، ويزول بصلاحهم النكد.
وفي واقع أمتنا الإسلامية اليوم، نوعان من العلماء، نوع باع دينه بدنياه، واشترى الحياة الدنيا بالآخرة، فضلّ وأضلّ، لأنه أضله الله على علم.
هم زئبقيون، حرباويون، لا يصبرون على طعام واحد، فتجدهم في كل الموائد، يبحثون عن كل الفوائد، خسروا الدنيا والآخرة. إنّ هؤلاء هم من سوّلت لهم أنفسهم، أن يزيّنوا للحكام كل إجراء، ويتشبثون، بأستار البلاط، والقصور ولو كان في ذلك، ما فيه من الفسق، والفساد والفجور.
أما الصنف الثاني، فهم العلماء الرّبانيون، الذين نذروا أنفسهم لله، فعفّت، ذمتهم، وصدقت ملتهم، وتجندوا لخدمة أمتهم.
إنّ هذا الصنف من العلماء، هم المصلحون الصلحاء، الذين يرضون بالبلاء، والابتلاء، في سبيل الوفاء لحسن الأداء، ولذلك أصابهم ما أصابهم.
وعندما تبتلى الأمة، في صفوة علمائها، ويسلَّط القهر والقمع، على أوفيائها وصلحائها، فذلك إيذان ببدء الخراب، ومقدمة فاسدة لبداية السقوط والاضطراب.
فويل لأمة، تسجن علماءها، وتهين عظماءها، وتعلي سفهاءها، وتدجّن فقهاءها، وتؤلّه زعماءها وكبراءها.
فاحثوا التراب، في وجه من يغدق أموال الأمة على الانتهازيين، والمغنيين، والمخنثين، والراقصات والراقصين، ويحرِم العلماء العاملين، والصالحين المصلحين، والصادقين المخلصين.
نحن –إذن- وجها لوجه، أمام نماذج من العلماء، والمثقفين، الذين تعج بهم حياتنا، فاختلط بذلك الأمر على المراقبين النزهاء، والمؤرخين الأصفياء، والمواطنين الشرفاء، كما اختلطت -على العقلاء- الأمور، فجعلت الحليم كالحيران، والمفكر كالسكران، لما تعانيه أمتنا في كل البلدان.
لقد كفرت أمتنا، بمبادئ إسلامها، وتنكّرت لسيرة نبيها وإمامها، ولم تأخذ، بما هو جميل من قيم شعوب عصرها، وأعلامها.
فقد حفظ لنا تاريخ أمتنا، وتاريخ الأمم الحية من حولنا، أنّ فلسفة الحكم الدائم، لا تتم إلا بتماسك وتعاون الأمراء والعلماء، فهما كاليدين تغسل إحداهما الأخرى، ولا غنى لإحداهما عن الثانية.
وضرب لنا هذا المثل رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم في تعامله مع صحابته، في حسن التشاور، وإعطاء وتلقي، وتطبيق الأوامر.
واقتدى من بعده صحابته رضي الله عنهم أجمعين، في تواضعهم للرعية، واستشارتهم للصفوة الصالحة التقية، وتعففهم عن أكل مال الأمة الأبية.
وها نحن نعيش تجربة الأمم الحية اليوم، في تثقيف السياسة، بدل تسييس الثقافة، فهم يسندون الأمور إلى مستحقيها من العلماء والخبراء، النزهاء، وبذلك ساد العدل في نظامهم، وتطور العلم والتقدم في أفهامهم، وعمّ الأمن والأمان فعزّ سلامهم، وعلت أعلامهم.
ويح أمتنا مما تعانيه اليوم، في مختلف مجالات حياتها، فهي مذبذبة العقيدة، معزولة عن القيم الرشيدة، تعيش على هامش المناهج والخطط السديدة..
أصيبت أمتنا في أعز ما لديها وهي السيادة، وفقدت أغلى ما يوجهها وهي القيادة، لذلك صارت تعيش التبعية، والفقر النفسي، وهي الغنية.
طار من داخل أمتنا الأمن والأمان، فهي تشكو من الخوف، وتتألم من شدة الحيف، وتُقاد إلى حتفها بقوة السيف.
ومن أظلم ممن يعلن الحرب على العلماء، ويركن إلى الأعداء السفهاء، ويسير في الأرض وسط ظلام دامس، فيتخبط خبط عشواء؟
وإن تعجب فاعجب، لقومٍ، أرضهم ذهب يعشقون اللهو والطرب، ويتسلّون بأتفه اللّعب، فقدوا كل شيم الإسلام والعرب، فسياستهم نكد وكُرب، تتبدّل في توجهها حسب اتجاه من غلب.
هل يُكتب لأمتنا أن تنهض من سقوط ما هي فيه؟ وتشفى من أسقام ما تعانيه، ويُكتب لها الشفاء والعلاج مما تلاقيه، وهي كالعيس تائهة في البيداء، يقتلها الظمأ، والماء فوق ظهورها محمول؟
فليت قومي يعلمون، أنّ الأمة التي تفقد بوْصلة سيرها، هي الأمة التي تتخلى عن علمائها، فتسلم قيادتها، للجهلة، والمفسدين !
وليتها تعي أنّ الابتعاد عن سنن الله، هو مصدر شقائها وعنائها.. ذلك أنّ الدليل الذي يبصّرها بالسنن الإلهية هو العالِم، وقد خذلته، وفي السجون غيّبته، وبوصمة الإرهاب وصفته.
أمِن الإرهاب جهر العلماء بكلمة حق في وجه سلطان جائر؟
وهل من الإرهاب، ذِكر العلماء الفاسق بما فيه كي يتجنبه الناس؟
وهل من الإرهاب، تذكير العلماء للحكام بأمر الله بالعدل والإحسان، وتوعية العامة بوطأة الظلم؟
فهل تؤوب أمتنا إلى رشدها مما اقترفت؟ وتتوب عن غيّها مما فعلت؟ فتكشف عن بصرها وبصيرتها، غشاوة الجهل والجاهلية التي أضلّت، وظلت؟
لا عذر بعد اليوم، في عصر العلم والصحوة الإسلامية، فلا يُعذر الجاهل بجهله، وقد انتشر العلم، والعلماء، كما أنه لا مجال للتدجيل باسم الدين، ومحاولة اللّف على المواطنين، في زمن حقوق الإنسان، وسيادة العقيدة الصحيحة والإيمان.
قد يمكَّن للظلم، برهة من الزمان في غفلة من أهل الحل والعقد لدواعي الضرورة، وقد يخفت صوت العقل – أحيانا- تحت وطأة، تغييب الحقوق المغمورة، ولكن، لابد من يوم يبزغ فيه فجر الحرية المسؤولة، فتُفكّ فيه الأيدي المغلولة، وتسقط الأقنعة المعلولة.
إنّ عصر العلم والعلماء قادم لا شك فيه، وسينهزم الجهل بظلمه، وظلامه، وظلاميته، وبكل تبعاته ومخازيه، فيعود الحق إلى أهاليه، وتتخلص أمتنا مما هي فيه.
إنّ فصل الخطاب، وآخر الجواب، هو القضاء، على دعاوى وصْم العلماء بالإرهاب، ذلك أنّ الإرهاب والعلماء ضدان لا يجتمعان، فويل ثم ويل، لمن يسبح ضد التيار، ويلعب بالنار.
فيا أيها العلماء النبلاء!
صبرا ! صبرا! فمهما ادلهمت الحياة، ومهما تجهمت أمام أعينكم وجوه الظلمة والمفسدين، فإنّ الإرهاب في حقكم كالسحاب، وما أبعد السحاب عن نباح الكلاب.
لقد بان الصبح لكل ذي عينين، ومهما طال الليل، فإنّ الشمس ستعمّ الكون، ولن تمثّل أمتنا الاستثناء، في هذه القاعدة.
فلابد لليل أن ينجلي
ولابد للقيد أن ينكسر
وسلام على العلماء العاملين، ﴿إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ. وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [سورة الصافات، الآية 172، 173].