ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين*.(لقمان:6)
هذه الآية الكريمة تؤكد قيمة الوقت الذي يجب ألا ينفق إلا في تحقيق رسالة الإنسان في هذه الحياة، وهي رسالة ذات وجهين: أولهما عبادة الله تعالى بما أمر، وثانيهما حسن القيام بواجب الاستخلاف في الأرض بعمارتها وإقامة شرع الله وعدله في ربوعها. ويستلزم حسن القيام بواجب الاستخلاف في الأرض التعلم واكتساب المهارات النظرية والعملية التي تعين على تحقيق ذلك، ثم السعي الحثيث لإصلاح أمور الأمة وتطويرها باستمرار. ويشمل ذلك كلا من التعليم والبحث العلمي والإعلام، والاقتصاد، والإدارة، والإصلاح السياسي والاجتماعي والعسكري من أجل النهوض بالأمة وحماية مصالحها. والذي ينشغل بشئ من ذلك لا يكاد أن يجد في وقته متسعا للهو البريء فضلا عن اللهو الضار. وقد أحل الإسلام اللهو البريء وذلك بقول رسول الله صل الله عليه وسلم: *روحوا عن القلوب ساعة بعد ساعة، فإن القلوب إذا كلت عميت*.
أما (لهو الحديث) فهو تعبير عن كل فعل أو قول يصد عن طاعة الله وعن اتباع سبيله، وذلك من أمثال كل ما يفني فيه المرء عمره من غير انتاج مفيد له ولمجتمعه. والإنسان قد يفني عمره المحدود فيما يشغل القلب عن الطاعات، ويهدر الوقت دون انتاج مفيد ويضيع الأوقات والجهود فيما لا يفيد ولا يعود بشئ من الخير أبدا على الناس أفرادا ومجتمعات.
وفي قوله تعالى ومن الناس من يشتري لهو الحديث... أي: إن من الناس من يشتري توافه الأمور بماله ووقته وجهده، وهو لهو رخيص من مثل قضاء الساعات الطوال في النوادي الليلية والساحات والطرقات، ويقابل ذلك اليوم الجلوس أمام شاشات التلفاز أو الحاسوب بالساعات الطوال بلا فائدة مرجوة.
والنص أعم من ذلك ليشمل الشباب الذين يهدرون أوقاتهم في الاعتصام والعصيان المدني في وقت يتعرض فيه الاقتصاد لأزمة شديدة، والأمة تحتاج إلى سواعد جميع أبنائها للعمل بجد واجتهاد من أجل الخروج من هذه الأزمة، وهو يصور جانبا من الناس يهدرون أوقاتهم وأعمارهم فيما لا يفيد، والوقت هو الحياة. وفي قوله تعالى: *...ليضل عن سبيل الله بغير علم...* أي: ليضل هو، ويضل غيره عن دين الله- الذي لا يرتضي من عباده دينا سواه- بهذا اللهو الرخيص، بجهل فاضح وغفلة كاملة عن حقيقة رسالته في هذه الحياة. والإنسان الذي يفعل ذلك يضيع عمره هباء في غير الطريق الذي خلقه له الله، لمجرد حرصه على مخالفة الإسلام وأهله.
وفي قوله تعالى: *...ويتخذها هزوا...* أي: ومن تجرئه على الحق، فإن هذا الضال لا يخزى من خروجه على شرع الله، بل يتطاول في ذلك بإتخاذ سبيل الله هزوا، أي: يستهزئ بدين الله، ويسخر من آياته بشيء من سوء الأدب مع الله تعالى ومع سبل الدعوة إليه.
وتُختتم الآية الكريمة بقول ربنا تبارك وتعالى مهددا هؤلاء الضالين المفسدين في الأرض ومتوعدا إياهم، حيث يقول: *...أولئك لهم عذاب مهين*، أي: كما إستهان هؤلاء الضالون المستهينون بدين الله وآياته في الدنيا، فإنهم سوف يهانون في الآخرة بعذاب أليم، جزاء إهدارهم لأعمارهم وجهودهم في الحياة الدنيا. ولذلك قال رسول الله صل الله عليه وسلم: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا"، وقال: "لا تكثروا الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب" (ابن ماجة). وعن البراء بن عازب رضي الله عنه أنه قال: "كنا مع رسول الله صل الله عليه وسلم في جنازة، فجلس على شفير القبر، فبكى حتى بلَّ الثرى ثم قال: "يا إخواني، لمثل هذا فأعدوا"، (ابن ماجة).
ووجه الإعجاز التشريعي في هذه الآية الكريمة يتلخص في التأكيد على أن الوقت هو الحياة، فلا يجوز إهداره في اللهو الضار الذي يهدر الأوقات بلا إنتاج مفيد، وأن الإنسان له رسالة محددة في هذه الحياة، لا يجوز الخروج عليها أو الغفلة عن أدائها أبدا. وهذه الحقائق يهملها كثير من الناس حتى يفاجئهم الأجل وهم مثقلون بالتبعات، وأصفار الأيدي من الحسنات، فخسروا الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين.