.9ذكروا سبب هلاك يوسف في الآية ( 17 ) ، ولكنه سبب غير مقنع حتى لأنفسهم، بدليل أنهم سبقوا والدهم بقولهم: ( وما أنت بمؤمن ـــ أي مصدق ـــ لنا ولو كنا صادقين ) فهذا الادعاء يتضمن التشكيك والريبة من جانبين:
-• قولهم: ( وما أنت بمؤمن لنا ) الذي يدل على أن أباهم غير مصدق ولا واثق منهم، حيث إن التعبير بالجملة الاسمية يدل على الثبات والاستقرار في عدم التصديق، كما أن وقوع كلمة " مؤمن" نكرة في سياق النفي يدل على نفي إيمانه لهم مطلقاً، وعدم وجود أي تصديق لهم.
-• قوله: ( ولو كنا صادقين ) حيث أثبتوا الشك في صدقهم من خلال هذه الجملة المبدوءة بـــ " لو" .، في حين اختلفت حجتهم ووسائل إثباتهم في قصة احتباس أخي يوسف، حيث قالوا: ( وإنا لصادقون )، فمن سنن الله تعالى أن تظهر آثار الجريمة من عثرات اللسان، ولحن القول.
-10ثم إن ادعاءهم أن الذئب قد أكله غير معقول؛ لأن أباهم حذرهم منه بالأمس القريب، فكان المفروض أن يأخذوا بالهم من الذئب، ولا سيما أنهم أعطوه عهداً وموثقاً من الله بأنهم يحفظونه بكل ما لديهم، وأنهم سيكونون من الخاسرين إذا لم يحافظوا عليه، فكيف لم ينتبهوا إلى ذلك؟
.11لقد فاتهم شيئان مهمان في إخفاء جريمتهم عند ادّعائهم بهذه الدعوى، هما:
• أن الدم كان كذباً، لم يكن دم إنسان، وهذا يميزه من له الخبرة، كما أنهم لطخوه به بتسرع، حتى كان ظاهراً أنه لم يكن من آثار أكل الذئب يوسف.
• أن القميص كان سليماً، حيث عبر القرآن عن ذلك بقوله ( على قميصه ) أي قميصه كما هو، حتى ورد في بعض الكتب القديمة أن سيدنا يعقوب لما رأى القميص سليماً، قال لهم: " كان الذئب أرحم بالقميص ممن في داخله، فأكله دون أن يمسّ أو يمزق قميصه".
كانت الأدلة التي عرضوها هزيلة ضعيفة غير مقنعة، حتى لأنفسهم، حتى كأنه مثل قول المريب " خذوني ".
-12 ولذلك لم يناقشهم يعقوب ـــ عليه السلام ـــ كثيراً في ذلك ، فأدرك من الدلائل المقدمة، ومن نداء قلبه أن يوسف لم يأكله الذئب، ولكنهم دبروا مؤامرة أخرى، ومكيدة أخرى غير هذا، فقال لهم: ( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا )، وهذا دليل على فراسة يعقوب عليه السلام وحكمته.
13. أرجعَ أمره كله إلى الله، وقال كلمته العظيمة (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) فالصبر الجميل هنا هو مداراة هؤلاء الأبناء بما لا يفقدهم، حتى لا يفقد الجميع، ولذلك لم يعاقبهم، وفوض أمره، وأمرهم إلى الله تعالى.
كما أن الصبر الجميل هو التحمل بدون جزع ولا إظهار فزع ولا شكوى إلا إلى الله تعالى، فقد تعامل يعقوب بحكمة عظيمة، ولم يتعامل بمقتضى العاطفة، وهذا ما يجب أن يكون عليه المؤمن الصابر الحكيم.
-14 جاء التعبير في الآيات السابقة بضمير الجمع (ذهبوا، وأجمعوا، وجاؤوا، وقالوا...) للإشارة إلى انهم كانوا متفقين على هذه الإجراءات وأنهم جميعاً يتحملون آثارها بدون استثناء ، وكذلك يدل على إجماعهم قولُه تعالى (واجمعوا) كما يدل على أنهم كانوا قاصدين أي كما يقال : مع سبق الإصرار والترصد.