التاسع وعشرون : مرحلة التمكين ومشاهده:
فقال تعالى : ( وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ) وفيه حكم ولطائف وعبر :
1 ـ أن الملك هو الذي بادرـــ قبل أن يراه ـــ بأن يجعله مستشاراً خاصاً له، فقال:(ٱئْتُونِى بِهِۦ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى ) ولما رآه وقابله وناقشه وتبين له علمه وفضله وحكمته وبصيرته قال : ( إِنَّكَ ٱلْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ )، والمراد بأنه مكين، أي له المكانة والمنزلة التي يتمكن بها صاحبها مما يريد، وقوله: " أمين" أي قد عرفنا أمانتك من خلال وجودك في بيت العزيز، حيث لم تخن أمانة الشرف والعرض على الرغم من كل المغريات، بل تحملت السجن حتى لا تقع في جريمة الخيانة، وعرفنا أمانتك في تفسيرك للرؤيا بدقة على الرغم من كونك مسجوناً مظلوماً
ولكن هذه الصلاحيات عامة لذلك طلب تخصيصها حتى يعرف الحقوق والواجبات والمسؤوليات التي تمكنه من أداء واجبه.
وبناءً على ذلك فإن طلب الولاية لم يصدر في البدء من يوسف ( عليه السلام ) وإنما من الملك ، ولكن يوسف طالب بعد ذلك بأن تعطى له الصلاحيات الكافية في المجالات المطلوبة لتحقيق خطته الإنقاذية لشعب مصر ومن حولهم فقال : (اجعلني على خزائن الأرض ) وبذلك لا ينبغي الاستشهاد بطلب يوسف على طلب الولاية في البداية ، وإنما يجوز الاستشهاد به لتحديد الصلاحيات ، أو رفع الصلاحيات لتنفيذ المهمة .
وقد اتضح من خلال ما سبق أن هذه القصة لا تتعارض مع قول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة :" لا تسأل الإمارة ... " لأنه محمول على بدء سؤال الإمارة، أو نحوه، وقد تبين من هذا العرض أن يوسف ( عليه السلام ) لم يطلبها مباشرة،، وإنما كلف بها في البداية من خلال تكليف الملك إياه بقوله:" إنك اليوم لدينا مكين أمين"، ثم طلب الصلاحيات المطلوبة ، حتى يكون قادراً على أداء ما كلف به فكان ذلك من تمام تكليفه ، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
وأنا لا أقصد بذلك أيضاً أن ما حدث دليل على المنع، وإنما أقصد أن هذه القصة ليس فيها دليل على طلب الإمارة مباشرة ولا على منعه، وأن على من يقول بذلك اللجوء إلى أدلة أخرى.
2 ـ إن هذه الحادثة لدليل واضح على جواز تحمل الولايات التنفيذية بجميع أنواعها في ظل دولة غير مسلمة ، والقيام بأداء الواجب على أحسن الوجوه، ما دامت الولاية في غير المحرم.
وكذلك يجوز الاستشهاد بها على دخول الأقلية المسلمة في الأحزاب السياسية في الغرب لخدمة المجتمع بصورة عامة، ولخدمة الأقلية الإسلامية بصورة خاصة، بل للمساعدة في اتخاذ القرارات المناسبة لصالح المسلمين، والإنسانية جمعاء، ولكن بشرط أن تكون في ذلك مصالح عامة، وأن يكون الشخص المسلم قوي الإيمان، والشخصية متخصصاً ومخلصاً لا يخاف عليه من الذوبان والانصهار.
3 ـ فإن قيل : كيف وصف نفسه بأنه " حفيظ عليم " فالجواب أن هذا الوصف كان حقاً ، ولم يكن لأجل مدح نفسه أو التفاخر، حيث كان يتصف بهما ، وأنه اضطر إلى ذكرهما لتبرير طلبه بأن يدير خزائن الأرض ، وأن هذه الإدارة تحتاج إلى الإخلاص المشار إليه بقوله ( حفيظ ) وإلى الاختصاص المشار إليه في قوله ( عليم ) فالإخلاص في الحفظ والرعاية والرقابة والمتابعة والعناية وجمع المحصول والبيع والشراء مطلوب حتى لا يحدث فساد مالي وإداري واجتماعي ، وضياع وهلاك ، كما أن الاختصاص أيضاً مطلوب في الإدارة والإنتاج والاستهلاك والتبادل والاستثمار ، والتخزين والحفظ ، والتسويق حتى لا تحدث فوضى في الدولة والمجتمع تعرقل التقدم وتمنع الرفاهية والازدهار .
ثم إن يوسف عليه السلام لم يقل (إني الحفيظ العليم) الذي يدل على كمال العلم والحفظ، وإنما وصف نفسه بأنه يتوافر فيه علم وحفظ بمقدار الحاجة وفي حدود البشر، وليس في حدود صفات الله العليّة.
4 ـ ثم بين الله تعالى بأنه هيأ التمكين ليوسف في أرض مصر (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ(