ومع هذا فليس العقل كل شيء في الإنسان , ولا العلم كل شيء في الحياة .
إن العقل له ميدانه الذي لا يتجاوزه , والعلم له مجاله الذي لا يتعداه , وبعد ذلك يقف العقل والعلم حائرين . فسرّ الوجود , وغاية الحياة , ومبدأ الكون ومصيره , وقضية الموت والحياة , وما يتصل بذلك من قضايا الوجود الكبرى , لا يستطيع العقل أن يدركها وحده , ولا يستطيع العلم أن يمد إليها سلطانه , لأن سلطانه فيما يخضع للملاحظة والتجربة , أي في الماديات والمحسوسات .
فكان لا بد من معرفة أخرى تنبع من مصدر آخر لتحديد مركز الإنسان وغايته , ومهمته في هذه الأرض , وعلاقته بالكون والحياة , وخالق الكون والحياة , وليس هذا المصدر إلا الوحي الإلهي . ولا سبيل إلى التلقى عنه إلا بالإيمان . وقد حاول بعض مفكري البشر في مختلف العصور أن يصلوا إلى الحقائق الكبرى بعقولهم , وأن يحلوا مشكلات الوجود بأفكارهم ، فلم يستطيعوا , وخرجوا بنتائج متناقضة , لا يطمئن بها القلب , ولا تستقيم بها الحياة . إن الإيمان وحده هو الطريق المأمون .
إن الإيمان هو الذي يفسر قضايا الوجود الكبرى , ويصل الإنسان بالوجود الكبير وبالأزل والأبد , ويجعل لحياته طعماً وهدفاً ورسالة .
وهو - مع ذلك - الذي يعصم العلم من الانحراف , ويحول دون استخدامه في الشر والعدوان ، ولهذا رأينا سليمان حين أُحضِر إليه عرش بلقيس بواسطة (الذي عنده علم في الكتاب) يُرجع الفضل إلى الله ولا يطغى أو يغتر , بل قال ما قصه القرآن : (فلما رآه مستقراً عنده قال : هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ؟ ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم)
وفي قصة ذي القرنين بعد أن أتم بناء السد , يقول في تواضع المؤمنين : (هذا رحمة من ربي , فإذا جاء وعد ربي جعله دكا , وكان وعد ربي حقاً)
ورأينا العلم الذي قام بتوجيه الإيمان في ظل الحضارة الإسلامية يبني ويعمر , ويعمل لخدمة الإنسان , وتزكية الإنسان , وإسعاد الإنسان .
ورأينا حين قام العلم في الغرب - لظروفه التاريخية مع الكنيسة - بعيداً عن هدى الله , مقطوعاً عن الإيمان بالله , كانت نتيجته الأسلحة الكيماوية والجرثومية وآلات الفتك والدمار , التي جعلت البشرية تبيت على أحلام مزعجة , وتصحو على مخاوف مفزعة , لقد أعطاها العلم الوسائل ، ولكنه لم يحقق لها السكينة النفسية . انتصرت به على الطبيعة , ولكن لم تنتصر به على نفسها وشهواتها .
ومن هنا كان لا بد من إيمان العلماء , وعلم المؤمنين . وهذا ما تقوم عليه الحياة الإسلامية المتكاملة .
ولهذا جمعت أول آية نزلت من القرآن بين العلم والإيمان ، وهي قوله تعالى : (اقرأ باسم ربك الذي خلق) فالقراءة - وهي مفتاح العلم - إنما يريدها الإسلام قراءة باسم الله الخالق ، وإذا كان مفتاح الإسلام هو العلم والفهم , فإن جوهر الإسلام هو الإيمان , وجوهر الإيمان هو التوحيد . بل هو جوهر الرسالات السماوية كلها . ولهذا كان النداء الأول في كل رسالة: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره).