في غضون القرن الثالث عشر والرابع عشر للهجرة كان الوجود الإسلامي يعاني من علل مبرحة، كان الرجل المريض ـ كما سموه ـ يترنح وهو يسير ببطء نحو مصيره، حاول نفر من المصلحين أن يعطوه حُقناً تجدد حياته بيد أن جهودهم ضاعت سدى.
سقطت الدولة الإسلامية سقوطا مروعاً، وظهر جليا أن الانهيارات الداخلية هى التي عجلت بهذا الختام الكئيب.
ومع أن الدولة قضت إلا أن الأمة بقيت تواجه مستقبلها، وشرعت الجماهير تتلمس الطريق إلى مستقبل أشرف، وتتغلب بجهد شديد على العقبات الكثيرة التي تسد أمامها المنافذ...
وإذا كان أغلب البلاء جاءنا من عند أنفسنا، فيجب أن تتجه الجهود إلى الإصلاح الداخلي قبل أن تفكر في ضرب العدو المتربص! فإنها لو هزمت عدوها ـ فرضا ـ وبقيت أدواؤها الداخلية على جسامتها فلن يعد ذلك نصرا للإسلام، ولن تكون الأمة المنتمية إليه قدوة حسنة للعالمين..!!
فكيف ونحن لا ننتصر إلا بالإسلام وحده، وبالولاء له، والتطبيق الحسن لتعاليمه.
من أجل ذلك نريد إلقاء نظرات صريحة على أسباب تخلفنا بعد أن كنا طليعة معجبة، ولا يجوز أن نخجل من إحصاء عيوبنا إذا كنا نريد الشفاء المريح والرضاء الأعلى.
ويمكن أن نقول إجمالا: إنه كان هناك قصور في فهم الإسلام شمل عددا من المفاهيم والقضايا، كما كان هناك تقصير متعمد بإضاعة تعاليم صريحة والخروج عليها.
القصور ضعف في الفقه، أما التقصير فعصيان سافر، وقد يرى القاصر أو المقصر أنه سليم المسلك، ولكن المعلول لا يعد صحيحاً إذا كانت الجراثيم تسرح في كيانه ولا بد أن تثأر منه سننن الله الكونية التي لا تحابي أحدا !!
من الرذائل المنكرة التي انتشرت في تاريخنا حب الرياسة وطلب الإمارة مع أن الإسلام رهب ترهيبا شديداً من هذه الخلة، وبين أن أمر هذه الأمة لا يسلم لمن يطلبه، ويحرص عليه، ويتوسل بما أمكن ليبلغه ..!!
هناك أناسى يتعشقون الصدارة كى يفرضوا ذواتهم على المجتمع، أقلهم يملك المواهب التي تسعفه، وأكثرهم مريض بحب الظهور، وتجاوز الآخرين..
والأمم السعيدة هي التي تمنح قيادها من يقلق لتحمل المسئولية، ومن ماتت في نفسه غرائز الأثرة والاستعلاء..
والغريب أن التاريخ الإسلامي تقسمته أفراد وأسر من الصنف المعتل الذي يشبع بالحكم نهمته إلى السلطة والترف. والويل لأمة يتولى أمرها شرارها وتتمرد عدى قوله تعالى: ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها )
ذاك نموذج سريع للتقصير في ميدان الحكم، أما التقصير في الميدان الاجتماعي فهناك صورة سريعة له .
جاء في السنن الصحاح عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله " فلما روي ابن عمر هذا الحديث قال ولده: والله لنمنعهن !! فأقبل أبوه عليه يسبه أشد السب، وقاطعه طول حياته...
والغريب أن الأمة الإسلامية خلال القرون المتأخرة تبعت الابن العاق، وغضت الطرف عن الحديث الذي رواه أبوه. فتقرر حرمان النساء من دخول المساجد للصلوات الجامعة، ولسماع الخطب والدروس.
ولما كنت مديرا للمساجد بمصر بذلت جهودا كبيرة ليأخذ النساء وضعهن في بيوت الله، وأمكن بعد لأى إعداد أماكن لهن في بعض المساجد على إغماض من الرجال وضيق!
ولا يزال منع النساء من المساجد حكما ساريا في أقطار شتى مما أضر أبلغ ضرر بالأسرة المسلمة، وارتباطها بالعبادات المقررة.. ولنعط كذلك نماذج عاجلة للقصور الديني عند بعض الناس..
كنت أقرأ لمؤلف تركي ينفر الأتراك من الدين الإسلامي والتمسك به، فرأيت هذه العبارة: " يا للحيرة من عقولكم واعتقاداتكم الباطلة، تتركون تقديس سلطان قوي الشوكة كحضرة الفاتح ـ يقصد السلطان محمد الفاتح ـ وتوجهون احترامكم لشخص خيالي موهوم اسمه الخضر...".
وقصة أن الخضر رضي الله عنه حى يرزق يسيح في الأرض قصة تافهة وسخيفة، ومع ذلك فإن أعدادا من المتصوفة تتعصب لها وتجادل دونها كأنها من معالم الدين، وهى ـ كما ترى ـ من أسباب مروق بعض المتمردين..
وحدث من مظاهر القصور الديني ـ أن استقدم بعض العلماء ليقرءوا البخاري في سفن الأسطول التركي حتى تحصل البركة، وكان تعليق بعض الظرفاء أن الأسطول يسير بالبخار لا بالبخاري!
ومن الأحداث الجديرة بالنظر أن أحمد عرابي باشا أقام مع رجاله قبيل موقعة التل الكبير حفل ذكر ـ رقص ديني بالتعبير الصريح ـ كى ينصره الله على الإنجليز وكانت النتيجة أن انهزم بعد معركة استغرقت ثلث الساعة...
كان التصور الديني أن تلاوة الأوراد، من الكتاب، أو السنة أو تآليف المشايخ تصنع العجائب، وقد صنعت فعلاً صدعا هائلا في تاريخ كبير !!
فلنترك هذه الأمثلة السريعة ولننظر آثارا مفصلة للقصور والتقصير في حياتنا الإسلامية كى نعرف ما نال منا في الماضي حتى نتجنبه في يومنا وغدنا.
( 1 ) التصوير الجزئى للإسلام:
الإيمان بضع وستون ـ أو بضع وسبعون ـ شعبة، هل هذه الشعب مركوم بعضها فوق البعض كيفما اتفق؟ هل هي كسلع اشتراها شخص من السوق ثم وضعها في حقيبته كيفما تيسر؟ لا.. إنها شعب متفاوتة الخطر والقيمة، ولكل منها وضع عتيد في الصورة الجامعة لا يعدوه.
والشبكة التي تكون شعب الإيمان كلها تشبه الخارطة الموضوعة للجهاز العامل في إحدى الوزارات أو إحدى المؤسسات ، هناك مديرون، وهناك مساعدون، وهناك فعلة، وهناك مراقبون، وبين هذه وتلك علاقات مرسومة ونظم إرسال واستقبال وتنفيذ وإنتاج...
إن شعب الإيمان التي تغد بالعشرات تشبه السيارة المنطلقة، لها هيكل وإطارات وقيادة ووقود وكوابح ومصابيح وكراسي وغير ذلك، وكل منها له وظيفته وقيمته... ومنذ بدأت الثقافة الإسلامية والإيمان أركان ونوافل، وأصول وفروع، وأعمالا قلبية وأعمال جسمية..!
والذي يحدث عند بعض الناس أن جزءاً ما من الإسلام يمتد على حساب بقية الأجزاء كما تمتد الأورام الخبيثة على حساب بقية الخلايا فيهلك الجسم كله..
وقد كان الخوارج أول من أصيب بهذا القصور العقلي أو بهذا الخلل الفقهي، قاتلوا علياً أو يتبرأ من التحكيم، وقاتلوا عمر بن عبد العزيز أو يلعن آباءه ملوك أمية.
وسيطرة فكرة معينة على الإنسان بحيث تملأ فراغه النفسي كله، ولا تدع مكاناً لمعان أخرى شىء لا يستساغ.
لقينى رجل من المعروفين بالطيبة وسألني: هل تؤمن بكرامات الشيخ فلان؟ قلت: لم أقرأ سيرة هذا الشيخ .قال: إليك كتابا يشرح سيرته.. ثم لقينى بعد فترة وسألني: ما رأيك؟ قلت: نسيت أن أقرأ الكتاب، قال: كيف؟ ـ بانفعال ـ قلت: الأمر غير مهم.. إذا مت وأنا لا أعرف صاحبك فإن الله غير سائلى عنه وعن كراماته، فانطلق يشيع عني أنى مارق لا أومن بالكرامات..
وقابلني آخر يقول: ما رأيك في الموسيقى؟ فأجبت: إن كانت عسكرية تثير الحماس والتضحية فلا بأس، وإن كانت عاطفية تثير النشاط أو الرقة فلا بأس.. وإن كانت تثير العبث والمجون فلا.. فانطلق يشيع عني أني متحلل أسمع الحرام..
كلا الشخصين آمن بشىء حسبه الدين كله فهو يحاكم الأشخاص والأوضاع إليه وحده.
وهذا التورم الذي يصيب جانبا دينيا معينا هو السر وراء فقهاء لهم فكر ثاقب وليست لهم قلوب العابدين، ومتصوفين لهم مشاعر ملتاعة وليست لهم عقول الفقهاء.
وهو السر وراء محدثين يحفظون النصوص ولا يضعونها مواضعها ولا يجيدون الاستنباط منها. وأصحاب رأى يلمحون المصلحة ولا يحسنون مساندتها بالنص المحفوظ.
وهو السر وراء حكام يعملون حسب المواصفات المقررة ـ رعاة للجماهير، وباعهم فى تقوى الله قصير، وعامة يعكفون على العبادات الفردية، فإذا بلغ الأمر النصح والزجر والأمر والنهى والتعرض لغضب الحكام لاذوا بالصمت الطويل.
وهو السر وراء أناس يتقنون مراسم العبادة ولا يفرطون ذرة في صور الطاعات الواردة، ومع ذلك لا يعون من حكمتها شيئا ولا يستفيدون منها خلقا. الصلاة تورث النظام والنظافة، وهم فوضى شعثون.
والحج رحلة العمر التي تعمر القلب والجوارح بالسكينة والرحمة وهم في أثناء المناسك وبعدها قساة سيئون.
إن الدعوة الإسلامية تحصد الشوك من أناس قليلى الفقه كثيري النشاط ينطلقون بعقولهم الكليلة فيسيئون ولا يحسنون.
ماذا يفيده الإسلام من شبان يغشون المجتمعات الأوروبية والأمريكية يلبسون جلاليب بيضاء ويجلسون على الأرض ليتناولوا الطعام بأيديهم ثم يلعقون أطراف أصابعهم، وهذا في نظرهم هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في الأكل، والسنة التي يبدأون ـ من عندها ـ عرض الإسلام على الغربيين.
هل هذا آداب الإسلام في الطعام؟!
وعندما يرى الأوربيون رجلاً يبغي الشرب فيتناول الكأس ثم يقعد وكان واقفاً ليتبع السنة في الشرب فهل هذا المنظر الغريب هو الذي يغري بدخول الإسلام؟.
لماذا تجسم التوافه على نحو يصد عن سبيل الله ويبرز الإسلام به وكأنه دين دميم الوجه.
ثم إن الدعوة إلى الإسلام لا يقبل فيها عرض القضايا الخلافية مهما كانت مهمة عند أصحابها، والأكل على الأرض أو بالأيدي مسألة عادية وليست عبادية، ومن السماجة عرض الإسلام من خلالها.
ووضع النقاب على وجه المرأة أمر تناوله الأخذ والرد، ولا يسوغ بحال تقديمه عند عرض دين الله على عباد الله.
وتدبر هذا الحديث الذي رواه البخاري في أسلوب عرض الرسالة الإسلامية كما أحكمه رب العزة عن يوسف بن ماهك قال: إني عند عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها إذ جاءها عراقي فقال: أى الكفن خير؟ قالت: ويحك ! ما يضرك؟ قال: يا أم المؤمنين.. أريني مصحفك! قالت: لم؟ قال: لعلي أؤلف القرآن عليه فإنه يقرأ غير مؤلف. قالت: وما يضرك أية قرأت قبله؟ إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شئ: لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبدا"، ولو نزل: لا تزنوا لقالوا: لا ندع الزنا أبدا، لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم وإني لجارية ألعب: ( بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر ) وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده قال: فأخرجت له المصحف فأملت عليه ـ أى السورة.
لكن أناس يشتغلون بالدعوة لا فقه لهم ولا دراية، يسيئون إلى هذا الدين ولا يحسنون، وفيهم من يمزج قصوره بالاستعلاء ولمز الآخرين.
وقد تطور هذا القصور فرأيت بين أشباه المتعلمين ناسا يتصورون الإسلام يحد من جهاته الأربع بلحية فى وجه الرجل ونقاب على وجه المرأة ورفض للتصوير ولو على ورقة، ورفض للغناء والموسيقى ولو في مناسبات شريفة وبكلمات لطيفة..
ولا أريد تقرير حكم معين في أشباه هذه الأمور، وإنما أريد ألا تعدو قدرها.. وألا يظنها أصحابها ذروة الدين وسنامه، وهي شئون فرعية محدودة، يعتبر القتال من أجلها قضاءً على الإسلام وتمزيقاً لأمته...