الجهاد في اللغة: مصدر جاهد يجاهد جهادا ومجاهدة.
وهي مشتقَّة من مادة: جَهَد يَجْهَد جَهدًا: تقول: جَهَد الرجل في كذا: أيْ جدَّ وبالغ. وجهد الرجل دابته: أيْ حمل عليها في السير فوق طاقتها، كما في معجم ألفاظ القرآن الكريم.
قال: والمصدر: الجَهد - بفتح الجيم - والضمُّ لغة فيه. وجمهور العلماء على التفريق بين لغتي الفتح والضمِّ. فالجَهد - بفتح الجيم - الغاية. يقال: اجْهَدْ في هذا الأمر جَهْدك: أيْ ابلغ غايتك.
والجُهد - بضمِّ الجيم - الوُسع والطاقة. تقول: هذا جُهدي: أيْ وُسعي وطاقتي.
وجاهد مجاهدة وجهادا: بذل وُسعه في المدافعة والمغالبة، فهو مجاهد، وهم مجاهدون.
وأكثر ما ورد الجهاد في القرآن: ورد يراد به: بذل الوُسع في نشر الدعوة الإسلامية والدفاع عنها[1] انتهى.
وقال العلامة الراغب الأصفهاني في (مفردات القرآن):
(الجَهد والجُهد: الطاقة والمشقة. وقيل: الجهد - بالفتح - المشقة، والجُهد: الوُسع)
والاجتهاد: أخذ النفس ببذل الطاقة وتحمل المشقة. يقال: جهدتُ رأيي وأجهدتُه: أتعبتُه بالفكر.
والجهاد والمجاهدة: استفراغ الوُسع في مدافعة العدو.
والجهاد ثلاثة أضراب:
1. مجاهدة العدو الظاهر. 2. ومجاهدة الشيطان. 3. ومجاهدة النفس.
وتدخل ثلاثتها في قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج:78]، {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:41]، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ...} [الأنفال:72].
وقال صلى الله عليه وسلم: "جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم"[2[
والمجاهدة تكون باليد واللسان. قال صلى الله عليه وسلم: "جاهدوا الكفار بأيديكم وألسنتكم" )[3][4] انتهى.
ونسي الراغب أن يذكر من أدلته على أن معنى الجهاد أوسع من معنى القتال: قوله تعالى: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} [الفرقان:52]، به: أيْ بالقرآن.
كما أن استدلاله على مجاهدة الشيطان، ومجاهدة النفس، بقوله تعالى: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:41]، غير واضح الدلالة على ما أراد، لأن وجود الأموال والأنفس في الجهاد: دليل على أنه جهاد الأعداء.
كما أنه لم يقُل: جاهدوا أنفسكم، بل قال: جاهدوا بأنفسكم، فالأنفس ليست هي المجاهَدَة، بل المجاهَد بها.
وبهذا نرى أن كلمة (الجهاد) أوسع في المعنى من كلمة (القتال)، وإن كان الذي استقرَّ في العرف الفقهي: أن كلمة الجهاد تعني القتال. فهكذا اصطلحوا عليها، ولا مُشَاحَّة في الاصطلاح.
مع أن اللفظ عام يشمل: جهاد المجاهد لنفسه ولشيطانه، وجهاد المجاهدة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقول كلمة الحق عند السلطان الجائر، ونحو ذلك، كما يشمل قتال المقاتل في سبيل الله.
وخُصَّ عند الفقهاء شرعا بأنه: قتال الكفار. وقال بعض الفقهاء: بذل الجهد في قتال الكفار أو البغاة.
وعرَّفه بعضهم بأنه: الدعاء إلى الدين الحق وقتال مَن لم يقبله.
وعرَّفه غيره بأنه: بذل الوُسع والطاقة في القتال في سبيل الله بالنفس، أو معاونة بمال، أو رأي، أو لسان، أو تكثير سواد، أو غير ذلك [5[].
ولعل هذا التعريف أقرب هذه التعريفات إلى القَبول؛ لشموله أكثر أنواع الجهاد التي جاء بها الكتاب والسنة، كما أنه لم يحدِّده بقتال الكفار، ليشمل قتال كل مَن تمرَّد على شعيرة ظاهرة متواترة من شرائع الإسلام، كالصلاة والزكاة، أو تحريم الربا أو الزنى أو الخمر، ونحوها. كما سيأتي.
قال في مطالب أولي النهى: قال الشيخ تقي الدين (يعني ابن تيمية(
)والأمر بالجهاد - يعني الجهاد المأمور به - منه ما يكون بالقلب: كالعزم عليه، والدعوة إلى الإسلام وشرائعه، والحُجَّة: أيْ إقامتها على المبطل، والبيان: أيْ بيان الحق وإزالة الشُّبه، والرأي والتدبير فيما فيه نفع للمسلمين، والبدن: أي القتال بنفسه، فيجب الجهاد بغاية ما يمكنه من هذه الأمور)[6] اهـ.
ومعنى هذا: أن الجهاد يشمل: عمل القلب بالنية والعزم، وعمل اللسان بالدعوة والبيان، وعمل العقل بالرأي والتدبير، وعمل البدن بالقتال وغيره.
وخلاصة القول: أن الجهاد يعني: بذل المسلم جهده ووُسعه في مقاومة الشر ومطاردة الباطل، بدءًا بجهاد الشر داخل نفسه بإغراء شيطانه، وتثنية بمقاومة الشر داخل المجتمع من حوله، منتهيا بمطاردة الشر حيثما كان، بقدر طاقته.
• جهاد الدفع وجهاد الطلب:
والجهاد بمفهومه الشرعي الشائع - وهو القتال - ينقسم إلى قسمين أساسيين: جهاد دفع، وجهاد طلب.
والمقصود بـ(جهاد الدفع): مقاومة العدو إذا دخل أرض الإسلام، واحتلَّ منها مساحة ولو قليلة، أو اعتدى على أنفس المسلمين أو أموالهم وممتلكاتهم أو حرماتهم، وإن لم يدخل أرضهم، ويحتلَّها بالفعل - كما يحدث في عصرنا من ضرب البلاد بالطائرات والصواريخ البعيدة المدى - أو اضطهد المسلمين من أجل عقيدتهم، وفتنتهم في دينهم، يريد أن يسلبهم حقَّهم في اختيار دينهم، وأن يُكرههم على تركه بالأذى والعذاب. أو يكون قد تمكَّن من بعض المستضعفين من المسلمين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، فسامهم سوء العذاب، وأمسوا يستغيثون ويدعون ربهم: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} [النساء:75[
فمقاومة مثل هذا العدو الظالم المتجبِّر، والوقوف في وجهه بالسلاح، ومقابلة القوة بالقوة، هو ما يسمى: جهاد الدفع. مثل جهاد الرسول وأصحابه لا سيما في غزوتي أحد والخندق، وجهاد الجزائريين للاحتلال الفرنسي، وجهاد الفلسطينين للاغتصاب الصهيوني.
أما جهاد الطلب، فهو أن يكون العدو في عقر داره، ولكننا نحن الذين نطلبه، ونتعقبه، بغية توسيع أرض الإسلام أو تأمينها، أو نبادئه نحن قبل أن يبادئنا هو، وهو ما يسمى في عصرنا : (الحرب الوقائية) أو (الاستباقية) أو لتمكين الجماهير في أرضه من أن تستمع إلى الدعوة الجديدة، دعوة الإسلام ، فلا بد من إزاحة هذه الحواجز أمام الشعوب، حتى نبلغ دعوة الله إلى الناس كافة. أو لتحرير الشعوب التي يحكمها الطواغيت، من نير التسلط والجبروت التي يقهرها ويعاملها كالقطعان، أو لغير ذلك من الاعتبارات.
المهم أن هؤلاء الأعداء أو الكفار مقيمون في أرضهم، ولم يبدؤونا بعدوان ظاهر، ولكن نحن الذين نتعقبهم ونطلبهم: ولهذا سُمي هذا النوع من الجهاد (جهاد الطلب) مثل ما قيل عن جهاد الصحابة ومن بعدهم في الفتوحات الإسلامية.
• حكمة مشروعية الجهاد:
التكاليف الإسلامية كلها منوطة بحِكَم ومصالح لا تعود على الله تعالى، لأنه غني عن العالمين. وإنما تعود إلى خلقه، فما من تكليف إلا وراءه حكمة ومصلحة للخلق، علمها مَن علمها، وجهلها مَن جهلها. ولكن المقطوع به: أنه سبحانه لا يشرع شيئا عبثا ولا اعتباطا، كما لا يخلق شيئا لهوا ولا باطلا، فإن من أسمائه (الحكيم)، فهو حكيم فيما خلق، وحكيم فيما شرع. فما الحكمة من شرعية الجهاد في الإسلام؟ هذا ما نلقي عليه شعاعا من ضوء في هذه السطور.
لم يكتفِ الإسلام من المسلم أن يعبد الله في نفسه بالصلاة والصيام والدعاء والتسبيح بالعشي والإبكار. ولم يكفِه منه أن يعبده تعالى ببذل جزء من ماله زكاة وطُهرة، ومواساة للضعفاء، وإسهاما في مصالح الأمة العليا، ولم يكفِه منه أن يحجَّ بيته، ويرحل إلى الأرض المقدسة في مكة لأداء المناسك، باذلا من نفسه وماله في سبيل الله.
أجل، لم يكفِه ذلك من المسلم، ما دام في الدنيا باطل يناوئ الحق، وشر يغالب الخير، وفساد يقف أهله في وجه الإصلاح والمصلحين.
لم يرضَ من المسلم أن يلزم بيته، ويغلق عليه بابه، ويعبد ربه في خاصة نفسه، ويترك أبالسة الشر وطواغيت الباطل، يعيثون في الأرض فسادا، ويفعلون بالحقائق والقيم الرفيعة ما تفعل النار بالهشيم، ويكتفي هو بالحوقلة والاسترجاع والتسبيح والتهليل!
ولكنه فرض على المسلم عبادة يسهم بها في مقاومة الشر، كما أسهم بعبادة الزكاة في فعل الخير، تلك هي عبادة (الجهاد في سبيل الله): أي بذل الجهد الممكن بالنفس والمال، والعقل واللسان في نصرة الحق والخير. إنها ليست عبادة (شعائرية) كالصلاة والحجِّ. لكنها عبادة بالنيَّة والهدف من ورائها، وإن كانت في حقيقتها من المعاملات.
أُمر المسلم بهذه الفريضة كما أُمر بالصلاة والصيام والزكاة، سواء بسواء، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:35]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ} [الحج:78،77[
وجعل هذا الجهاد من دلائل الإيمان الحق، وأنكر على قوم زعموا الإيمان من غير استعداد للبذل والجهاد: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14]، ثم بيَّن تعالى مَن هم المؤمنون حقا فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:15[
كما أنكر على المنافقين تخلُّفهم عن الجهاد بتعلُّلات وأعذار شتَّى يختلقونها، كما قال تعالى: {وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ * رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ * لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التوبة:86 - 88[
إن المسلم صاحب رسالة عالمية شاملة، لا يصلح لحملها السلبيون والانعزاليون، وإنما يحملها الإيجابيون المجاهدون.
رسالة غايتها أن يسود الحق والعدل، وينتشر الخير والهدى، ويعم الصلاح والاستقامة، وتعلو كلمة الله في أرضه.
رسالة جاءت لتقاوم الضعف في النفوس، والزيغ في العقول، والانحراف في السلوك، والبغي في الجماعات، والطغيان في الحكومات، والتظالم بين الأمم والشعوب.
رسالة جاءت لتزيل الوساطة المصطنعة بين الله وعباده، وتحطِّم الفوارق المفتعلة بين الناس بعضهم وبعض.
رسالة تقول للضعفاء: شدُّوا سواعدكم.
وتصيح في الأذلاء: ارفعوا رؤوسكم.
وتصرخ في النائمين: هبُّوا من سُباتكم.
وتنادي المستعبدين: حطِّموا قيودكم.
وتدعو المستكبرين: أن انزلوا من عروش كبريائكم.
وتقول للأغنياء: أنفقوا من مال الله لا من أموالكم.
وتقول للحكام: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58[.
وتقول للمتفاخرين بالأنساب: "... من بطَّأ به عمله لم يسرع به نسبه"[7[
وتقول للمتسلطين على الضمائر من أهل الكتاب: {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران:64[
وتقول للناس جميعا: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13[
ومثل هذه الرسالة الثورية الشاملة: لا بد أن يكون لها خصوم معاندون، وأعداء مكابرون، منهم مَن يدافعون عن عقائدهم الموروثة: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]، ومنهم مَن يدافعون عن مصالحهم، وينافحون عن نفوذهم ووجودهم. فلا غرابة أن يردُّوا حقها بالقوة، ويصادروا دعوتها بالسيف، ويصدُّوا دعاتها بالجبروت والعسف. ولا يمكن لمثل هذه الرسالة العامة الخالدة أن تغمض العين على القذى، وتسحب الذيل على الأذى، وترضى من الغنيمة بالإياب، وتدع قيصر يعبث في الحياة، ويأخذ سلطان الله لنفسه!!
لقد آن الأوان أن يعلم الناس: أن قيصر وما لقيصر لله الواحد القهار. وأن الله لا يخضع لحكم قيصر، ولكن قيصر هو الذي يخضع لحُكم الله.
وإذن فلا بد لهذه الرسالة ودعاتها من صدام مع الطغاة والمتجبِّرين، مع القياصرة وأشباه القياصرة، مع أدعياء التألُّه في الأرض، مع الفراعين والقوارين والهوامين[8[ .
فعلى المسلم أن يُعدَّ العدة، ويأخذ الأُهبَة، ويحمل سيف الحق، ومِعول التطهير، ليهدم صروح الباطل والشر، ويدكَّ عروش الظلم والطغيان، ويرسي دعائم العدل والحرية للعقائد كلها: {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39[
فمَن فهم طبيعة الرسالة الإسلامية: لم يصعُب عليه تصوُّر الجهاد فريضة من فرائضها، وعبادة من عباداتها، {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [الأنفال:8[.
ولقد كان الله تعالى ينتقم لرسله وللمؤمنين - قبل الإسلام - من الطغاة المكذِّبين الصادِّين عن سبيل الله، بنِقَم سماوية، وخوارق كونية، يُنزلها بأعدائه، فتدمِّر عليهم، وتجعلهم حصيدا خامدين. كما فعل بقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وفرعون وهامان وقارون وغيرهم. قال تعالى: {فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:40[
ولكن الله فضل هذه الأمة الخاتمة، فلم يجعل الخوارق الكونية أساسا في ثبوت رسالتها[9] ، ولا في نصرة دعوتها. ولو شاء الله لخسف بأعدائها الأرض، أو أسقط عليهم كسفا من السماء، وأراح رسوله والمؤمنين من عناء الجهاد، ولكن شاء الله أن تمضي هذه الأمة في مسيرتها على سُنن الله المعتادة، فتكابد وتتألَّم، وتصبر وتصابر، وتبذل وتضحِّي، وتهاجر وتجاهد، وتنتصر وتنكسر، ويتخذ الله منها شهداء، وبهذا يتبيَّن ويتأكَّد حكمة الابتلاء الذي قام عليه أمر التكليف كله، وقام على أساسه الثواب والعقاب، وقامت سوق الجنة والنار.
}إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:140-142].
فقد شاء الله أن تقوم هذه الحياة وهذا الكون على الازدواج: الخير مَشُوب بالشر، واللذَّة ممزوجة بالألم، والإنسان يتنازعه العقل والغريزة، وتتعاوره الصحة والسَُّقم، والعالم يتعاقبه النور والظلمة، أو الليل والنهار، وهكذا: في الكون المادي نور وظلام. وفي العوالم الغيبية ملائكة وشياطين، وفي بني الإنسان أخيار وأشرار، وفي النفس الإنسانية خواطر يلهمها ملك، ونزغات يوسوس بها شيطان...
وقد ابتلى الله المؤمنين بالكافرين، كما ابتلى الكافرين بالمؤمنين، وأعطى كلاً منهم عُدَدَه وأسلحته وأعوانه، وجعل بعضهم لبعض فتنة، ليبلوَ أخبارهم، ويمتحنَ مَن يتولاه ويتولى رُسُله ممَّن يتولى الشيطان وحزبه، وفي ذلك يقول تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان:20]، {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد:4]، {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31]، وهو تعالى عليم بذات الصدور، ولا يخفى عليه خافية في الأرض أو في السماء. ولكنه يعامل عباده معاملة المختبر، ليجزيهم بما عملوا، لا بما علم أنهم سيعملونه، ويقيم عليهم الحُجَّة، ويبطل الأعذار والتعلاَّت {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام:149]. ثم يكون النصر في النهاية للمؤمنين ، والعاقبة للمتقين ، كما قال تعالى " وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ۖ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ" الروم :47] ، وسنزيد الأمر إيضاحا في الباب الرابع عند حديثنا عن (أهداف القتال في الإسلام(
•هل الجهاد من شؤون الدين أم من شؤون الدنيا؟
وربما يثير بعض الناس - وبعضهم من أهل العلم الشرعي - سؤالا، مضمونه: هل الجهاد من شؤون الدين أو من شؤون الدنيا؟
ويمكن صياغته بعبارة تجعل الجواب سهلا، إذا قلنا: هل هو من شؤون العبادات أو من شؤون المعاملات؟
فمن المعلوم المتوارث: أن فقهاءنا قسَّموا الفقه الإسلامي إلى قسمين كبيرين: قسم (العبادات)، وقسم (المعاملات(
ويعنون بالعبادات: الفرائض الدينية الشعائرية الكبرى، التي اعتبرها الحديث النبوي، واعتبرها المسلمون بعد ذلك أركان الإسلام، ومبانيه العظام، وهي: الشهادتان، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت الحرام.
وقد صحَّ فيها حديث ابن عمر المشهور المتَّفق عليه: "بُني الإسلام على خمس..."[10] ، وعدَّ هذه الأمور.
كما يعنون بالمعاملات: ما يتعلَّق بشؤون الحياة المختلفة، مما يتعلَّق بالفرد، مثل: الحلال والحرام، وما يتعلَّق بالأسرة، مثل: الزواج والطلاق والميراث والوصايا ونحوها، وما يتعلَّق بالمجتمع ومعاملاته المدنية والتجارية ونحوها، وما يتعلَّق بالدولة ومسؤولية الحاكم فيها، وشروطه وواجباته وحقوقه، وحقوق الأمة عليه، وواجباتها نحوه، وهو ما تنظِّمه في عصرنا القوانين الدستورية والإدارية، وما يتعلَّق بالأمة - أمة الإسلام الكبرى – من وجوب وحدتها في مرجعيتها ودارها وقيادتها، واحتكامها إلى الشريعة مصدرا لها. وكيف تكون علاقتها الدولية بالأمم الأخرى في حال السلم، وفي حال الحرب.
وهنا يدخل (الجهاد) بمعنى (القتال) والإعداد العسكري ضمن ما يتعلَّق بالأمة والدولة، لأن مهمَّته الحفاظ على كيان الأمة المادي والمعنوي، وحراسة دينها ودنياها من عدوان المعتدين، وأطماع الطامعين. فالجهاد يتَّصل بفقه الجماعة، لا بفقه الأفراد. ولا ينتقل إلى الأفراد إلا إذا فُقدت الجماعة، ودخل العدو دارها، ولم تجد مَن يدافع عنها. فهنا يحقُّ على الأفراد أن ينظِّموا أنفسهم، وأن ينشئوا منهم جماعة تقوم مقام الإمام أو ولي الأمر الشرعي. إذ بدون ذلك لا يمكن أن يقاوموا عدوَّهم، ولا أن يحرِّروا أرضهم. وما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب.
وهنا ننظر للجهاد من أفق واسع، من خلال فقه (السياسة الشرعية) التي تقوم على (فقه الموازانات) بين المصالح والمفاسد بعضها وبعض، وعلى فقه (المقاصد) الذي ينظر إلى رُوح الشريعة وأهدافها الكلية، ولا يتوقَّف عند نصوصها الجزئية، وعلى (فقه المآلات) الذي ينظر إلى النتائج والآثار، حتى إنه قد يحرم بعض المباحات إذا ترتَّب عليها مفسدة محقَّقة، كامتناع الرسول الكريم عن قتل المنافقين، حتى لا يتحدَّث الناس أن محمدا يقتل أصحابه، وقد يرتكب بعض الممنوعات، لتحقيق مصلحة كبيرة، أو درء مفسدة عظيمة، كما في خرق الخضر عليه السلام للسفينة لينقذها من اغتصاب الملك الظالم لها ... وعلى (فقه الأولويات) بحيث يضع كلَّ عمل في مرتبته، ولا يكبِّر الصغير، ولا يهوِّن العظيم.
واعتبارنا الجهاد من قسم المعاملات، لا يفصله تماما عن الدين، فإن الدنيا في الإسلام ممزوجة بالدين، والدولة متَّصلة بالدعوة، والمعاملة مرتبطة بالعبادة، وليس فيه فصل مطلق بين الأمرين، كما هو في النصرانية: أعطِ ما لقيصر لقيصر وما لله لله! فإن الإسلام لا يقبل قسمة الحياة بين الله وقيصر، ولا يقبل قسمة الإنسان شطرين: رُوحه توجِّهها الكنيسة، وجسمه وعقله توجِّههما الدولة! لا يقبل الإسلام هذه المثنوية، وهي لا تتَّفق مع حقيقة الحياة ولا حقيقة الإنسان، والعلم المعاصر ينكرها، كما أن الواقع يرفضها.
ومن المعروف: أن شريعة الإسلام - في شؤون العبادة: تفصِّل وتحدِّد وتنظِّم، لأنها لا تتغيَّر كثيرا بتغيُّر الأزمان والبيئات والأحوال، وفي شؤون المعاملة تدع مجالا رحبا للعقل المسلم، ليجتهد ويجدِّد ويضع الأُطر والتفصيلات حسب حاجات الزمان والمكان، وما يقتضيه تطوُّر الإنسان.
ولهذا جاءت السياسة الشرعية في (منطقة العفو) التي تركها الشارع الحكيم قصدا بدون نصوص ملزمة، توسعة وتيسيرا على الناس، أو جاء النص عليها بطريق كليِّ، كما في قضية الشورى والعدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونحوها[11[.
ومن المهم هنا: أن نقرِّر أن بعض العبادات الكبرى مثل (الزكاة) هي في الواقع من صُلب شؤون الحياة، فهي تدخل في النظام المالي والنظام الاجتماعي في الإسلام، ولها علاقة بالاقتصاد والسياسة، كما بيَّنا ذلك في كتابنا (فقه الزكاة(.
كما نقرِّر أيضا: أن الجهاد إذا كان مشروعا، وصحَّت فيه النية، والتُزمت فيه حدود الله، وأخلاقيات الإسلام: يعد من أعظم ما يتعبَّد الله به، ويتقرَّب إليه، وقد اعتبره الإمام أحمد أفضل ما يتطوَّع به المسلم. ومن ثمَّ جاء في فضله وبيان منزلته عند الله، ومقدار ما لأهله من مثوبة: ما لا يكاد يحصى من آيات القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولعل هذا ما جعل الشيعة الإمامية يعتبرونه من أركان الإسلام، مخالفين بذلك أهل السنة، الذين اقتصروا على الخمسة المعروفة.