الفصل الثاني (حكم الجهاد شرعا: فرض عين أم كفاية أم تطوع؟) (1-2)
ما حكم الجهاد شرعا: أهو فرض أم ندب؟ وإذا كان فرضا: فهل هو فرض عين على كل مسلم، أو هو فرض كفاية؟ وهل الحديث عن جهاد الطلب أو جهاد الدفع؟
• الإمام الجصاص يناقش المسألة:
تعرَّض لذلك الإمام أبو بكر الرازي (الجصاص) في تفسيره (أحكام القرآن) فحكى عن ابن شُبرُمة والثوري وآخرين: أن الجهاد تطوُّع وليس بفرض، (وهو يريد بالجهاد هنا: القتال، كما يريد به جهاد الطلب)، وقالوا: إن قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة:216]، ليس على الوجوب بل على الندب، كقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة:180]، وقد رُوي فيه عن ابن عمر نحو ذلك، وإن كان مختلفا في صحة الرواية عنه، وهو ما حدثنا جعفر بن محمد بن الحكم قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليَمَان قال: حدثنا أبو عُبيد قال: حدثنا علي بن مَعبَد، عن أبي المَليح الرِّقي، عن ميمون بن مِهران قال: كنت عند ابن عمر، فجاء رجل إلى عبد الله بن عمرو بن العاص، فسأله عن الفرائض - وابن عمر جالس حيث يسمع كلامه - فقال: الفرائض: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحجُّ البيت، وصوم رمضان، والجهاد في سبيل الله. قال: وكأن ابن عمر غضب من ذلك، ثم قال:
الفرائض: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصيام رمضان. قال: وتَرَكَ الجهاد.
ورُوي عن عطاء وعمرو بن دينار نحوه: حدثنا جعفر بن محمد قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليَمَان قال: حدثنا أبو عُبيد، حدثنا حجَّاج، عن ابن جُريج قال: قلتُ لعطاء: أواجب الغزو على الناس؟ فقال هو وعمرو بن دينار: ما علمناه[1[
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد ومالك وسائر فقهاء الأمصار: إن الجهاد فرض إلى يوم القيامة، إلا أنه فرض على الكفاية: إذا قام به بعضهم كان الباقون في سَعة من تركه.
وقد ذكر أبو عُبيد: أن سفيان الثوري كان يقول: ليس بفرض، ولكن لا يسع الناس أن يُجمعوا على تركه، ويجزئ فيه بعضهم على بعض ... فإن كان هذا قول سفيان، فإن مذهبه أنه فرض على الكفاية، وهو موافق لمذهب أصحابنا الذي ذكرناه . اهـ.
ومن الواضح أن هذا كلَّه في جهاد الطلب والتوسُّع في أرض الأعداء، وليس في جهاد الدفع والمقاومة للغزاة. وما أورده الجصَّاص عن ابن شُبرمة ومَن وافقه من تأويل قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة:216]، أنه على الندب، وليس على الوجوب: خلاف الظاهر والمتبادر من اللفظ، كما في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183]: أي: فرض عليكم. ولا ضرورة لهذا التمحُّل، كما سيتَّضح بعد. وما ذكره في آية الوصية: أنه على الندب، فهو غير مسلَّم.
• الجصاص يفرِّق بين حالة الأمن وحالة الخوف، (أو جهاد الطلب وجهاد الدفع(
قال الجصاص: (ومعلوم في اعتقاد جميع المسلمين: أنه إذا خاف أهل الثغور من العدو، ولم تكن فيهم مقاومة لهم، فخافوا على بلادهم وأنفسهم وذراريهم: أن الفرض على كافة الأمة: أن ينفِر إليهم مَن يَكُفُّ عاديتهم عن المسلمين. وهذا لا خلاف فيه بين الأمة؛ إذ ليس من قول أحد من المسلمين: إباحة القعود عنهم حتى يستبيحوا دماء المسلمين، وسبي ذراريهم. ولكن موضع الخلاف بينهم: أنه متى كان بإزاء العدو مقاومون له، ولا يخافون غلبة العدو عليهم: هل يجوز للمسلمين ترك جهادهم حتى يُسلموا أو يؤدُّوا الجزية؟ فكان من قول ابن عمر وعطاء وعمرو بن دينار وابن شُبرُمة: أنه جائز للإمام والمسلمين ألا يغزوهم وأن يقعدوا عنهم.
• الجمهور يفرضون جهاد الطلب فرض كفاية:
)وقال آخرون: على الإمام والمسلمين أن يغزوهم أبدا، حتى يُسلموا أو يؤدُّوا الجزية، وهو مذهب أصحابنا ومَن ذكرنا من السلف: المِقداد بن الأسود وأبي طلحة وآخرين من الصحابة والتابعين. وقال حذيفة بن اليَمَان: الإسلام ثمانية أسهم، وذكر سهما منها: الجهاد [2[
وحدثنا جعفر بن محمد، حدثنا جعفر بن اليَمَان قال: حدثنا أبو عُبيد قال: حدثنا حجاج، عن ابن جُريج قال: قال مَعمَر: كان مكحول يستقبل القِبلة ثم يحلف عشرة [3] أيمان: أن الغزو واجب، ثم يقول: إن شئتم زدتكم[4[
وحدثنا جعفر قال: حدثنا أبو عُبيد، حدثنا عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن العلاء بن الحارث أو غيره، عن ابن شهاب (الزُّهْري) قال: كتب الله الجهاد على الناس، غزوا أو قعدوا، فمَن قعد فهو عُدَّة: إن استعين به أعان، وإن استُنفِر نفر، وإن استغني عنه قعد. وهذا مثل قول مَن يراه فرضا على الكفاية.
وجائز أن يكون قول ابن عمر وعطاء وعمرو بن دينار، في أن الجهاد ليس بفرض، يعنون به أنه ليس فرضه متعيِّنا على كل أحد كالصلاة والصوم، وأنه فرض على الكفاية)[5] أهـ.
ومن حقنا - بل من واجبنا - أن ننوِّه هنا بأهمية هذه الأقوال المهمة التي ذكرها الإمام الجصاص عن عدد من فقهاء الأمة، فيهم من الصحابة مثل: ابن عمر، ومن التابعين مثل: عطاء وعمرو بن دينار، ومن الأئمة مثل: الثوري وابن شُبرُمة: أنه ليس واجبا على المسلمين: أن يغزوا الكفار إذا كانوا آمنين على أنفسهم منهم، إنما يجب الجهاد في حالة الخوف من شرهم وعدوانهم على المسلمين.
• رأي أبي جعفر النحاس:
وتعرَّض الإمام أبو جعفر النحاس في كتابه (الناسخ والمنسوخ) لهذه الآية الكريمة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216]، وذكر ما ورد فيها عن السلف من أقوال، ثم ناقشها قولا قولا.
)فقال قوم: هي ناسخة لحظر القتال عليهم، ولِمَا أمروا به من الصفح والعفو بمكة.
وقال قوم: هي منسوخة: وكذا قالوا في قوله عز وجل: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة:41]، والناسخة: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة:122[.
وقال قوم: هي على الندب لا على الوجوب.
وقال قوم: هي واجبة، والجهاد فرض.
وقال عطاء: هي فرض إلا أنها على غيرنا. يعني أن الذي خوطب بها الصحابة.
قال أبو جعفر: فهذه خمسة أقوال:
فأما القول الأول: وهو أنها ناسخة، فبيِّن صحيح[6[
وأما قول مَن قال: إنها منسوخة، فلا يصح، لأنه ليس في قوله عز وجل: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة:122]. نسخ لفرض القتال .
وأما قول مَن قال: هي على الندب، فغير صحيح، لأن الأمر إذا وقع بشيء لم يُحمل على غير الواجب، إلا بتوقيف من الرسول صلى الله عليه وسلم، أو بدليل قاطع.
وأما قول عطاء: إنها فرض، ولكن فرض على الصحابة، فقول مرغوب عنه، وقد ردَّه العلماء، حتى قال الشافعي رحمه الله في إلزامه: مَن قال: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء:102]، إن هذا للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، ولا تُصلَّى صلاة الخوف بعده، فعارضه بقوله جلَّ وعزَّ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103[.
فقول عطاء أسهل ردًّا من قول مَن قال: هي على الندب، لأن الذي قال هي على الندب قال: هي مثل قوله جلَّ وعزَّ: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [البقرة:180] [7[
قال أبو جعفر: وهذا ليس على الندب، وقد بيناه فيما تقدم.
وأما قول مَن قال: إن الجهاد فرض بالآية، فقوله صحيح، وهو قول حذيفة، وعبد الله بن عمرو[8] ، وقول الفقهاء الذين تدور عليهم الفتيا، إلا أنه فرض يحمله بعض الناس عن بعض، فإن احتيج إلى الجماعة نفروا فرضا واجبا، لأن نظير: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة:216]، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183[.
قال حذيفة: الإسلام ثمانية أسهم؛ الإسلام سهم، والصلاة سهم، والزكاة سهم، والصيام سهم، والحج سهم، والجهاد سهم، والأمر بالمعروف سهم، والنهي عن المنكر سهم [9[.
ونظير الجهاد في أنه فرض يقوم به بعض المسلمين عن بعض: الصلاة على المسلمين إذا ماتوا ومواراتهم، قال أبو عُبيد: وعيادة المريض، ورد السلام، وتشميت العاطس.
وأما قول مَن قال: الجهاد نافلة، فيحتجُّ بأشياء، وهو قول ابن عمر وابن شُبرُمة والثوري.
ومن حجتهم: قول النبي صلى الله عليه وسلم، رواه ابن عمر: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، والصلاة، والصيام، والزكاة، وحج البيت" .[10[
قال أبو جعفر: وهذا لا حُجَّة فيه؛ لأنه قد رُوي عن ابن عمر أنه قال: استنبطتُ هذا - ولم يرفعه - ولو كان رَفْعُه صحيحا لَمَا كانت أيضا فيه حُجَّة، لأنه يجوز أن يترك ذكر الجهاد ههنا؛ لأنه مذكور في القرآن، أو لأن بعض الناس يحمله عن بعض، فقد صحَّ فرض الجهاد بنص القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم) [11] انتهى.
أقول: واعتراض أبي جعفر على حديث ابن عمر بأنه قال: استنبطتُ هذا ولم يرفعه: مردود بأن الحديث متفق عليه، ومشهور برفعه عن ابن عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مما يحفظه خواصُّ المسلمين وعوامُّهم. وكذلك رواه الإمام أحمد في مسنده مرفوعا عن جَرير بن عبد الله [12[.
وقد روى ابن أبي شيبة بسنده عن يزيد بن بِشر السَّكْسَكي، قال: قدمت المدينة، فدخلت على عبد الله بن عمر، فأتاه رجل من العراق، فقال: يا عبد الله بن عمر! ما لك تحج وتعتمر، وقد تركت الغزو في سبيل الله؟! قال: ويلك! إن الإيمان بُني على خمس: تعبد الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج، وتصوم رمضان. كذلك قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم الجهاد حسن [13] اهـ.
وروى نحوه عبد الرزاق في مصنفه، وإن لم يرفع الحديث إلى الرسول الكريم [14[.
ولعل مما يؤكد قول ابن عمر: أن الله تعالى ذكر صفات المتقين في أول سورة البقرة، وصفات المؤمنين في أول سورة الأنفال، وأول سورة المؤمنين، وصفات أولي الألباب في سورة الرعد. وذكر صفات عباد الرحمن في أواخر الفرقان، وذكر صفات المحسنين في سورة الذاريات، وصفات الأبرار في سورة الإنسان، ولم يذكر (الجهاد) ضمن خصالهم وأوصافهم. وهذا - في رأيي - يدلُّ على أنه ليس بواجب على المكلَّفين في كل حال، كالصفات المذكورة لهؤلاء. إنما هو واجب بوجوب أسبابه كردِّ عدوان المعتدين، ودرء الفتنة في الدين عن المؤمنين، وإنقاذ المسضعفين، وكالخوف من هجوم الأعداء المتربصين، وإذا وجب الجهاد بسبب من الأسباب: ينوب فيه بعض الناس عن بعض، ولا يجب على الأعيان إلا في حالات خاصة، سنبيِّنها بعد.
• رأي ابن المبارك: الجهاد فرض في عهد النبوة:
وروى مسلم في كتاب الإمارة من صحيحه، من طريق عبد الله بن المبارك، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن مات ولم يغزُ، ولم يحدث به نفسه: مات على شعبة من النفاق" .[15[
قال ابن سَهم (الراوي عن ابن المبارك): قال عبد الله بن المبارك: فنرى ذلك كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم[16[
قال النووي: وهذا الذي قاله ابن المبارك محتمَل. وقد قال غيره: إنه عام. والمراد: أن مَن فعل هذا فقد أشبه المنافقين المتخلِّفين عن الجهاد في هذا الوصف[17[
ومن هنا قال بعض العلماء: إن الجهاد كان واجبا على الصحابة لا على من بعدهم. كما نقله أبو جعفر النحاس عن عطاء، وقد تقدَّم قريبا.
على أن هنا قيدا مهما في الحديث، فالوعيد ليس على مجرَّد ترك الغزو، بل ضمَّ إليه أمرا آخر، وهو أنه: "لم يحدِّث به نفسه": أي لم يخطر على باله، ولم يدُر يوما في فكره. وهذا أخصُّ من مجرَّد الترك. والمطلوب من المسلم إذا لم يجاهد بنفسه: ألا يغيب أمر الجهاد عن فكره وخاطره.
• رأي الجصاص في آية: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ{
وتعرَّض الإمام الجصاص في (أحكام القرآن) لبيان معنى الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216] قال: (هذا يدلُّ على فرض القتال؛ لأن قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ}: بمعنى فُرض عليكم، كقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183]. ثم لا يخلو القتال المذكور في الآية من أن يرجع إلى معهود قد عرَفه المخاطبون، أو لم يرجع إلى معهود؛ لأن الألف واللام تدخلان للجنس أو للمعهود، فإن كان المراد قتالا قد عرَفوه رجع الكلام إليه نحو قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة:36][18] ، وقوله: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة:191]، فإن كان كذلك فإنما هو أمر بقتال على وصف، وهو أن نقاتل المشركين إذا قاتلونا. فيكون حينئذ كلاما مبنيا على معهود، قد عُلم حكمه، مكررا ذكره تأكيدا. وإن لم يكن راجعا إلى معهود، فهو لا محالة مجمل مفتقر إلى البيان، وذلك أنه معلوم عند وروده: أنه لم يأمرنا بقتال الناس كلهم، فلا يصحُّ اعتقاد العموم فيه، وما لا يصحُّ اعتقاد العموم فيه، فهو مجمل مفتقر إلى البيان، وسنبين اختلاف أهل العلم في فرض الجهاد وكيفيته عند مصيرنا إلى قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5]، إن شاء الله تعالى)[19] انتهى.
وخلاصة كلام العلاَّمة الجصاص: أن القتال الذي كُتب على الأمة وفُرض عليها: قد بُيِّن في آيات سابقة، وهو قتال مَن يقاتلونها، كما بيَّنت السورة. بناء على أن {الْـ} في {الْقِتَالُ} للعهد، فإن لم تكن {الْـ} للعهد، وكانت للجنس، فالنصُّ هنا (مجمل) يفتقر إلى (البيان)؛ لأن الله تعالى لم يأمرنا بقتال الناس كلِّهم، فلا يصحُّ اعتقاد العموم فيه. وما كان كذلك، فلا يؤخذ منه حكم عامٌّ بفرضية القتال على المسلمين كافَّة، للناس كافة، بل يفتقر إلى دليل آخر يبيِّن الإجمال الذي فيه.
• تلخيص الحافظ ابن حجر للآراء في الجهاد:
ويحسن بي أن أورد هنا ما لخَّصه الحافظ ابن حجر من قول الفقهاء عن حكم الجهاد، فإن بعض الكتَّاب في عصرنا يتحدثون عن هذه الموضوعات التي اختلف فيها المتقدمون، بما انتهى إليه بعض العلماء المتأخرين، ويوهمون القارئ كأن الأمر متفق عليه، ولا كلام فيه. وفي هذا تدليس على القارئ غير المطلع، وتضليل له عن الحقيقة. فقد رأينا من خيار الصحابة والتابعين مَن قال: إن الجهاد مطلوب على الندب، وليس على الوجوب. ومَن قال: هو واجب على الصحابة وليس على من بعدهم. كما قال عطاء وابن المبارك. وهناك مَن قال: هو واجب في حالة الخوف لا في غيرها ... إلخ. ورأينا الإمام الجصاص يقول: إن القتال الذي فُرض علينا في الآية هو قتال مَن يقاتلوننا، وهو القتال المذكور في سورة البقرة: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} [البقرة:190[
ذكر الحافظ ابن حجر في (الفتح) في شرح ما ذكره البخاري في (باب وجوب النفير، وما يجب من الجهاد والنية) قال: (باب وجوب النَّفِير) بفتح النون وكسر الفاء: أي الخروج إلى قتال الكفار، وأصل النفير: مفارقة مكان إلى مكان؛ لأمر حرَّك ذلك.
وقوله: (وما يجب من الجهاد والنية): أي وبيان القدر الواجب من الجهاد ومشروعية النية في ذلك، قال: وللناس في الجهاد حالان: إحداهما في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. والأخرى بعده.
فأما الأولى: فأول ما شُرع الجهاد: بعد الهجرة النبوية إلى المدينة اتفاقا. ثم بعد أن شُرع: هل كان فرض عين أم كفاية؟ قولان مشهوران للعلماء، وهما في مذهب الشافعي.
وقال الماوردي: كان عينا على المهاجرين دون غيرهم. ويؤيده وجوب الهجرة قبل الفتح في حق كل مَن أسلم إلى المدينة لنصر الإسلام.
وقال السُّهيلي: كان عينا على الأنصار دون غيرهم. ويؤيده مبايعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة على أن يؤووا رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصروه، فيُخرَّج من قولهما: أنه كان عينا على الطائفتين، كفاية في حق غيرهم. ومع ذلك فليس في حق الطائفتين على التعميم، بل في حق الأنصار إذا طرق المدينةَ طارق، وفي حق المهاجرين إذا أريد قتال أحد من الكفار ابتداء. ويؤيد هذا ما وقع في قصة بدر فيما ذكره ابن إسحاق، فإنه كالصريح في ذلك.
وقيل: كان عينا في الغزوة التي يخرج فيها النبي صلى الله عليه وسلم دون غيرها. والتحقيق: أنه كان عينا على مَن عيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم في حقه ولو لم يخرج.
الحال الثانية: بعده صلى الله عليه وسلم، فهو فرض كفاية على المشهور، إلا أن تدعو الحاجة إليه، كأن يدهم العدو، ويتعيَّن على مَن عينه الإمام، ويتأدَّى فرض الكفاية بفعله بالسنة مرة عند الجمهور، ومن حجتهم: أن الجزية تجب بدلا عنه، ولا تجب في السنة أكثر من مرة اتفاقا، فليكن مُبدَلها كذلك.
وقيل: يجب كلما أمكن. وهو قوي. والذي يظهر أنه استمر على ما كان عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن تكاملت فتوح معظم البلاد، وانتشر الإسلام في أقطار الأرض، ثم صار إلى ما تقدم ذكره.
والتحقيق أيضا: أن جنس جهاد الكفار متعيِّن على كل مسلم: إما بيده، وإما بلسانه، وإما بماله، وإما بقلبه، والله أعلم)[20] انتهى.
• تحقيق الإمام ابن القيم:
وقال الإمام ابن القيم: (والتحقيق أن جنس الجهاد فرض عين، إما بالقلب، وإما باللسان، وإما بالمال، وإما باليد، فعلى كل مسلم أن يجاهد بنوع من هذه الأنواع.
أما الجهاد بالنفس، ففرض كفاية، وأما الجهاد بالمال، ففي وجوبه قولان، والصحيح وجوبه؛ لأن الأمر بالجهاد به (أي بالمال) وبالنفس في القرآن سواء، كما قال تعالى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة:41]. وعلَّق النجاة من النار به، ومغفرة الذنب، ودخول الجنة، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الصف:10-12[.
وأخبر أنهم إن فعلوا ذلك، أعطاهم ما يحبون من النصر والفتح القريب فقال: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا} [الصف:13]، أي: ولكم خَصْلة أخرى تحبونها في الجهاد، وهي: {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف:13]، وأخبر سبحانه أنه: {اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111]، وأعاضهم عليها الجنة، وأن هذا العقد والوعد قد أودعه أفضل كتبه المنزلة من السماء، وهي التوراة والإنجيل والقرآن، ثم أكَّد ذلك بإعلامهم أنه لا أحد أوفى بعهده منه تبارك وتعالى، ثم أكَّد ذلك بأن أمرهم بأن يستبشروا ببيعهم الذي عاقدوه عليه، ثم أعلمهم أن ذلك هو الفوز العظيم) [21[