كان للزعيم بشير السعداوي مواقف نضالية جليلة سواء داخل ليبيا أو خارجها في مقاومة الاستعمار الإيطالي ، إذ لم يترك فرصةً إلا وكانت القضية الليبية حاضرة في حياته السياسية ، وقد أسهمت هذه المواقف في وضع اللبنة الأولى باتجاه الاستقلال تحت راية موحدة ، وقد تعرضنا لها في مجموعة محطات في كتاب (الثمار الزكية للحركة السنوسية في ليبية).
أهم المحطات التي تعرض لها كتاب ( الثمار الزكية للحركة السنوسية ) في حياة بشير السعداوي:
أولاً: مؤتمر غريان 1920م:
رأى عقلاء طرابلس ضرورة الاجتماع في مؤتمر عام بعد التطورات الخطيرة، والانشقاقات العظيمة التي وقعت بين الزعماء؛ وذلك ليتدارسوا الأوضاع الراهنة، ويتخذوا حيالها موقفاً مشتركاً، فاجتمعوا في مؤتمر غريان في شهر ربيع الأول (1339هـ)، نوفمبر سنة (1920م) بعد أن اختار كل بلد من يمثله، ما عدا بلاد الأمازيغ، وشكلت فيه حكومة وطنية سميت هيئة الإصلاح المركزية، بعد أن أسفرت النتيجة عن انتخاب عشرين عضواً من بينهم الأستاذ بشير السعداوي - رحمه الله - الذي ظل يحتل مكانة مرموقة بما أبداه من سدادة الرأي، والتوفيق بين رؤوساء القبائل وجمع كلماتهم ضد الغزو الإيطالي.
ثانياً: دور بشير السعداوي- رحمه الله - في مبايعة الطرابلسين للأمير إدريس السنوسي 1922م:
غادر بشير السعداوي برقة إلى طرابلس، وبمجرد وصوله إلى مصراتة اجتمع بالزعماء الطرابلسيين ونادى بالبيعة لسمو الأمير محمد إدريس، مستنداً في ذلك إلى أنه لا سبيل إلى الخلاص البتة إلا بالاتفاق والتعاون ضد العدو الإيطالي، وكتب بشير السعداوي نص البيعة بنفسه، ثم ذهب بها من مصراتة إلى مسلاتة ثم إلى غريان، وهناك كانت هيئة الإصلاح المركزية مجتمعة برئاسة أحمد المريض، فقرأ عليهم البيعة، ووافق هؤلاء عليها بالإجماع ودون مناقشة.
ومن ثم ذهب السيد بشير السعداوي بوصفه مندوباً عن هيئة الإصلاح على رأس وفد لتسليم كتاب البيعة إلى الأمير محمد إدريس، وكان ضمن هذا الوفد كل من عبد الرحمن عزام، محمد الصادق بالحاج، نوري السعداوي، الشيخ محمد عبد الملك. ووقع على كتاب البيعة أحمد المريض رئيس هيئة الإصلاح المركزية، وعبد الرحمن عزام مستشارها، ثم أعضاء الهيئة: محمد بن عمر، وبشير السعداوي، وحسين بن جابر، ومحمد فرحات، وعبد الرحمن زبيدة، ومحمد التائب، وسالم البحباح، وعثمان القيزاني، وعمر بودبوس، ومحمد صادق بن الحاج، ومحمد مختار كعبار، ومحمد فكيني، والصويعي الخيتوني، كما وقع على البيعة من الأعيان محمد الديب، ومحمد سوف، وعمر ضياء، وعلي أبو حبيل، وأحمد القاضي، ومحمد القرقني، وأحمد السني، والبغدادي بن معيوف، ومحمد الصغير.
وقرأ السعداوي نص البيعة على مسامع الأمير، وقال في نهايتها : "وبهذه البيعة إن شاء الله أصبح سموكم الأمير المحبوب للقطرين المباركين، ومتى سنحت الفرصة عند تشريفكم إيانا حسب رغبة الأمة تقام لكم مظاهر هذه البيعة في موكب لائق بسموكم، والله سبحانه وتعالى يمدكم بروح من عنده، ويجعل البركة في البيت السنوسي المؤسس على التقوى والصلاح". وبادر الأمير محمد إدريس بمصافحة تلك اليد الممدودة، وقَبِل البيعة دون تردد.
ثالثاً: دور بشير السعداوي - رحمه الله - في جمع شتات المجاهدين في الغرب بقيادة صفي الدين السنوسي 1923م:
بحث الأمير إدريس السنوسي مع بشير السعداوي مسألة استمرار الجهاد في طرابلس ضد الطليان، وقبل ذلك تقدم بشير السعداوي بمشروع إنشاء هيئة مركزية في برقة من رؤساء القبائل تضطلع بأعباء الإدارة، واختار الأمير لرئاستها الشيخ مختار الغدامسي؛ وهو من القضاة الشرعيين ومن أكابر علماء البلاد، وبعد مغادرة الأمير إجدابيا عقدت الهيئة المركزية البرقاوية جلسات عدة للبحث في شؤون البلاد وتهيئة وسائل الجهاد ضد العدو الإيطالي النصراني الحاقد، وحضر بشير السعداوي جلسات الهيئة، وعرض على الحاضرين تشكيل جبهة متحدة من برقة وطرابلس للمتابعة ضد إيطاليا دون أي إبطاء، وبعد تبادل الرأي وافق الحاضرون على رأي السعداوي.
وتأهب السعداوي للسفر إلى طرابلس، وكان معه صفي الدين السنوسي 21 رجب (1341هـ) 9 مارس (1923م)، وكان في رفقتهم مجموعة من خيار المجاهدين من أمثال أحمد باشا سيف النصر، وعمر سيف، وقد بذل بشير السعداوي جهوداً عظيمة لحشد جموع المجاهدين حول السيد صفي الدين وتحت زعامة السنوسية، وكان قائد معسكر المجاهدين الطرابلسيين في وادي نفد حوالي ثمانية شهور؛ من شعبان (1341 هـ) إلى شهر جمادى الأولى من عام (1342 هـ)، أبريل ـ ديسمبر (1923 م).
وبعد فترة من الزمن بدأ زعماء المجاهدين في ترك معسكر نفد، ولم يبق إلا أحمد السويحلي، وكانت القوات الإيطالية تتقدم وتحتل المدن في منطقة طرابلس، وقد ذكر الشيخ طاهر الزاوي كيف احتل الطليان منطقة طرابلس ومدنها بنوع من التفصيل، واضطر صفي الدين أمام انحلال المقاومة، وضعف حركة الجهاد أن يذهب إلى جالو، وبعث إلى الأمير محمد إدريس بمصر يخبره بكل ما وقع، فأجابه الأمير بأن له أن يختار إما البقاء في جالو، وإما الذهاب إلى جغبوب، وارتحل صفي الدين إلى الجغبوب في سبتمبر (1923 م).
وكان بشير السعداوي يواصل جهاده المرير لجمع كلمة المجاهدين، وعقد الاجتماعات لتحقيق هذه الغاية في القرضابية، ثم في قصر بوهادي، واستطاع أن يؤسس مركزاً للجهاد في المكان الأخير، وتسلم القيادة في سرت، وجمع شتات المنهزمين اللاجئين إلى سرت، وكانوا حوالي خمسين أو ستين ألفاً، وثبت المجاهدون في مصراتة وترهونة أقدامهم نتيجة لهذا العمل، ولكن الطليان بقواتهم الجرارة، وطائراتهم استطاعوا القضاء على حركة المقاومة رويداً رويداً، ثم هاجموا في آخر الأمر ورفلة، وعندئذ انحلت المقاومة تماماً، واضطر بشر السعداوي إلى مغادرة سرت في عام (1924 م) بعد أن مكث بها سنة تقريباً، وكان السعداوي رحمه الله من أشد المجاهدين تحمساً في هذه الفترة العصيبة، ومن أعظمهم مثابرة على الجهاد، وكان يتحلَّى برجاحة العقل، والرزانة، والهدوء، ويتصف بالقدرة على النظر البعيد وتقليب وجوه الرأي في عواقب الأمور.
رابعاً: جهود بشير السعداوي في المقاومة أثناء غربته بالشام:
ظهرت جهود بشير السعداوي - في بلاد الشام - واضحة للعيان، فقد قام مع إخوانه الميامين بصور شتى من صور الجهاد، فقد شمَّروا عن ساعد الجد والعمل، حيث تأسست جمعية الدفاع الطرابلسي والبرقاوي في دمشق (عام 1928م) بالشام، وانتخب بشير السعداوي رئيساً لها، وكانت هذه الجمعية تضم إليها مجموعة من المجاهدين كسكرتير الجمعية عمر فائق شنيب بك، وأمين الصندوق فوزي النقاش، ثم عبد الغني الباجقمي، وكامل عياد، وعبد السلام أدهم، والبمباشي طارق، ومحمد ناجي التركي، ومصطفى بن نوح، وأحمد راسم، وأبو بكر قدورة، وأبو بكر التركي، وخليفة بن شعبان، وعمل هؤلاء الإخوة الأبطال جميعاً على إعداد البحوث التي تكشف عن أعمال الطليان وفظائعهم في القطر الليبي، وصاروا ينشرونها في الصحف، والجرائد، والمنشورات، وأظهر بشير السعداوي نشاطاً واسعاً، ونشر بحوثاً ومقالات كثيرة، وسار عمر فائق شنيب على نفس المنوال، وفي عام (1929 م) وضعت الجمعية الميثاق الوطني المشهور للشعب الطرابلسي البرقاوي؛ فنصت المواد على الآتي:
المادة الأولى: تأليف حكومة وطنية ذات سيادة قومية لطرابلس وبرقة يرأسها زعيم مسلم تختاره الأمة.
المادة الثانية: دعوة جمعية تأسيسية لسن دستور البلاد.
المادة الثالثة: انتخاب الأمة مجلساً نيابياً حائزاً على الصلاحية التي يخوله إياها الدستور.
المادة الرابعة: اعتبار اللغة العربية اللغة الرسمية في دواوين الحكومة والتعليم.
المادة الخامسة: المحافظة على شعائر الدين الإسلامي وتقاليد القطر في جميع أرجائه.
المادة السادسة: العناية بالأوقاف وإدارتها من قبل لجنة إسلامية منتخبة.
المادة السابعة: العفو العام عن جميع المشتغلين بالسياسة داخل القطر وخارجه.
المادة الثامنة: تحسين العلاقات والمصالح بين الأمة الطرابلسية البرقاوية، والدولة الإيطالية؛ بمعاهدة خاصة يعقدها الطرفان ويصدقها المجلس النيابي.
وقامت الجمعية بفتح فرع لها في تونس عام (1930 م) برئاسة محمد عريقيب الزليطني، وحققت الجمعية بعض النجاحات الكبيرة، وكان الأمير إدريس السنوسي قد أولاها عنايته الخاصة، وأمدها بالمساعدات القيمة، فيرسل لها الإعانات المالية حيناً، وبالمعلومات والأخبار الجديدة عن القطر الليبي حيناً آخر، وتمكنت الجمعية من دعم مركزها ومتابعة النشر والقيام بحملة صحفية واسعة تهيب بالأمة الإسلامية والعربية أن تنهض للوقوف بجانب الشعب الليبي بكل الطرق.
واستمرَّت الجمعية في نشاطها، وتوالت نشراتها تصف فظائع الطليان، وتحذِّر الأمة من تصديق دعايتهم الكاذبة المغرضة، وتسوق الحجج والبراهين والأدلة على انتهاك أبسط حقوق الإنسان في ليبيا، وتفننت في ابتكار وسائل عدة لإيصال هذه النشرات إلى داخل ليبيا، وبذلت جهوداً عظيمة لتوزيع نشراتها في جميع أنحاء العالم العربي، لقد نجحت في حرب الأقلام، وشاركت في المؤتمر الإسلامي في القدس، وعرضت قضيتها.
خامساً: بشير السعداوي وكتابة الدستور في 1951م:
ظهر بشير السعداوي كشخصية وطنية فذة، وكان من أكبر المتحمسين للوحدة، وكان له شعبية ومساندة معظم الوطنيين في تطلعاته نحو وحدة البلاد، ووقف ضد الجمعية الوطنية وقاد حملات ضدها وتساءل بشير السعداوي - رحمه الله - عن أهلية الجمعية الوطنية في نداء وجَّهه إلى الأمم المتحدة والجامعة العربية، واستمر بشير السعداوي يهاجم عدم أهلية الجمعية الوطنية طيلة النصف الأول من عام (1951م)، وكسب تأييد عبد الرحمن عزام، وقام عزام أيضاً بالهجوم على الجمعية الوطنية، وأن قراراتها غير قانونية ومخالفة لرغبات الشعب الليبي، وقررت اللجنة الدستورية للجامعة العربية بأنه لا حاجة للاتحاد في بلد يوحده الجنس واللغة والعادات والدين، وأكثر من ذلك فإن الجمعية لم ينتخبها الشعب ليس لها سلطة البت في أمور تؤثر على مستقبل البلاد، وقام (بلت) بإرسال مفتي طرابلس؛ وهو عضو من الجمعية الوطنية إلى مصر ليخطب ود الجامعة العربية، وتلاشت عداوة الجامعة العربية بالتدريج.
المراجع:
- الثمار الزكية للحركة السنوسي في ليبية: د . علي محمد محمد الصلابي. مكتبة الصحابة ، الشارقة، الطبعة الأولى 1426 هـ - 2005 م.
- أعلام ليبيا: الطاهر أحمد الزاوي - مؤسسة الفرجاني - طرابلس (ليبيا) 1971م.
- برقة العربية الأمس واليوم : محمد الطيب ، أحمد إدريس الأشهب ، مطبعة الهواري ، شارع محمد علي بمصر.
- جهاد الأبطال في طرابلس الغرب : الطاهر أحمد الزاوي ، ط 3 ، بيروت: دار الفتح للطباعة والنشر، 1962 م.
- السنوسية دين ودولة : د. محمد فؤاد شكري ، دار الفكر ، طبعة (1948 م).
- ميلاد دولة ليبيا الحديثة: وثائق تحريرها واستقلالها: د. محمد فؤاد شكري، مطبعة الاعتماد، 1957م.