لم أنسَ أيَّاما في السِّجن مدلَهمَّة سَرعان ما غَمرَني فيها أنسٌ بدَّد الوِحشَةَ وكشَف الهمَّ..حتَّى صار السِّجنُ تمحَكَّ العقول وتَجربةَ المأمول, لا قبرَ الأحياء ومَنزل البُؤساء.
كان ذلك قبل عشرة أعوام, حيث كنتُ أطالعُ كتابا في السِّيرة النَّبوية لأحد المعاصرين, فكان يَقتبِسُ كلماتٍ تَرشُفها الأسماع, ويُضمِّن معانِيَ تستَميل الأنفس, وكان يَعزوها لكتاب عن الغُربة وصِفة الغرباء..لم تَزل أشواقي إلى اقتنائه مُرِبَّة.
أرسلتُ في طلب ذلك الكتاب, فسعى إليه على قَدَم المودَّة وبِرُوح الإخاء صَديق كريم, فأرسله إليَّ, فضممتُه إلى مكتبَتي الصَّغيرة الَّتي استفدتُّ منها في السِّجن ما لم أستفِد من المكتبات الكبيرة خارجَه.
قرأتُ ذلك الكتاب مرَّات, ولم يَعرِف الرَّاحة, إذ لم يزل يُؤخَذ بين الإخوة ويُردُّ حتَّى أَوْهنَت الأيدي صفحاتِه, وقطع تَعاطيه سِلكَ انسجام أوراقه, فصار غيرَ منتظم بين الكُتب كأنَّه غريب.
كان ذلك الكتابُ دراسةً حديثية رَصينة, وتأصيلا شَرعيا مَتينا لموضوع الغُربة, وجاء بتحليلات رائقة, وبأسلوب شَيِّق, وكان حقا معنا في السِّجن أولى بعنوان "أُنس المسجون وراحة المَحزون" مِن كتاب صَفيِّ الدِّين الحلَبي الَّذي كنتُ أقرأُ التِماسا لمعناه, واطِّلاعا على مَبناه, وكذلك كتاب "الفرج بعد الشِّدَّة لابن أبي الدُّنيا"
كان ذلك الكتاب يَحضُّ على الصَّبر, ويَذكر الغُربة الأولَى حيث الصَّحابَة مع النَّبِيِّ الأكرم صلَّى الله عليه وسلّم..فيقول عنها: "لقد نَفخ فيهمُ الإسلام رُوحَ العزَّة والكرامة, وأيقظ لدَيهم الشُّعور بإنسانيَّتهم المكرَّمة المختارة, ومَنَحهم من الاستعلاء بالإيمان ما جعلَهم يَضرِبون أروَعَ الأمثِلة في الصَّبر والتَّحمُّل والثَّبات على الدِّين...
ولقد كان دُخول الواحد منهم في الإسلام وشُعورُه بالقرب من الله, وأنسُه بربِّه, وحياةُ قلبه وقرَّةُ عينه بسماع القرءان سَببا في شُعورهم الحقيقيِّ بالتَّميُّز عن الجاهلية من حولهم, الجاهلية الَّتي تَضِجُّ بالفَوضَى والفساد والجَفاف والانحلال"
وينثرُ للقارئ حلقاتِ سلسلةٍ متواصلة من الابتلاء عاشها ذلك الرَّعيل الأوَّل والجيلُ الفريد, ويقف عند بعضها بتساؤلات واقعية تختصر حُدود الزَّمان والمكان..فيقول بعد ذِكرِ إحدَى تلك المِحن الَّتي مَرُّوا بها, وقالوا للنَّبيِّ الأكرم صلَّى الله عليه وسلَّم: ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله لنا, فقعد صلَّى الله عليه وسلَّم, واحمرَّ وجهُه, وعاتَبهم على الاستعجال, فعلق مؤلِّف الكتاب بقوله:
"يا سُبحان الله ماذا جرى حتى احمرَّ وجهُ المصطفى صلَّى الله عليه وسلم, وقعد من ضجعته ؟ وخاطب أصحابه بهذا الأسلوب القوي المؤثر..؟
لأنَّهم طلبوا الدُّعاء منه!؟ كلَّا.. حاشاه من ذلك، وهو الرَّءوف الرَّحيم بأمَّته.
إنَّ أسلوبَ الطَّلب: ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ يُوحي بما وراءه، وأنَّه صادر من قلوب أمضَّها العذاب، وأنهكها الجهد، وهدَّتها البلوى فهي تلتمس الفرج العاجل، وتستبطئ النَّصر فتستدعيه.
وهو صلَّى الله عليه وسلَّم يعلم أنَّ الأمور مرهونة بأوقاتها، وأسبابها، وأنَّ قبل النَّصر البلاء، فالرُّسل تُبتلى ثمَّ تكون لها العاقبة.
(حتَّى إِذا اسْتَيْئَسَ الرُّسلُ وظنُّوا أَنَّهم قَد كُذِبوا جاءهم نصرُنا فَنُجِّيَ مَن نَّشاء ولا يُردُّ بأسُنا عن القوم المجرمين)"
ذلك الكتاب هو كتاب "الغرباء الأوَّلُون" ومؤلِّفه هو الشَّيخ سَلمان بن فهد العَودَة الَّذي يَعود اليَوم لغربَته في السِّجن بعد أن جرَّبها أعواما, غيرَ أنَّ الظُّلم اليومَ أشدُّ والطُّغيان أعمُّ.
لا يَخفى تَغيُّر الشَّيخ سَلمان عمَّا أثنى عليه العالم المجاهد أبو يَحيى الِّليبي, غيرَ أنَّه لا اختلاف بين الألِبَّاء على غزارة علمه, ونضارةِ فهمِه, وعُذوبة أسلوبه, وتدفُّق عَطائِه..فضلا عن ابتلاءات متواصلة حسبُك منها سِجنُه لسَنوات بَلغه فيها خبر وفاة ابنه الصَّغير فرسم بريشة دَمعه الرَّقراق قصيدتَه المؤثِّرة, والَّتي أوَّلُها:
وداعا حَبيبي لا لِقاء إلى الحَشرِ..وإن كان في قلبي عليك لَظَى الجَمرِ
صَبرتُ لأنِّي لم أجدْ لِيَ مَخلصا..إليك وما من حِيلة لي سِوى الصَّبرِ.
ويقول فيها مشيرا لِما حال السِّجنُ دُونَه:
تَمنَيتُ ما نالت ألوفٌ توجَّهت..إلى ربِّها صلَّت عليك مع العصرِ
تمنَّيتُ كفًّا من تُرابٍ أسنُّها..على قبرِك الميمونِ طُيِّبَ من قَبرِ..
واليومَ وبعد سَنوات يسعى الطُّغاة ليُتم ابنَتِه الَّتي وجَدت فيه مع الأبُوَّة أمومةً وأُخوَّةً بعد وفاة أمِّها وشَقيقها قبل مُدَّة قريبة.
أتذكَّرُ نَقدي الشَّديد لعلماء تلك البلاد, وأنا اليوم عليهم أشدُّ, فهم عملاء, وقنوات رَديئة لتمرير خَبَث الطُّغاة الرَّاكد, لكنَّني حين ذَكرتُ العودة والحوالي لم أذكُر غيرَ رُجوعهما عن رأيِهما القديم.
ورأيٌ لم يَقُل سَفرُ الحوالي..به قِدما وسَلمانُ بنُ فَهدِ
وكان لذلك سَبب, فقد كانت لهما سابقة, وكان منهما بلاء, وكانت معاني التَّوحيد حاضرة في عطائهما, فقد كتب سَفرُ الحوالي عن "العلمانية" وعن "ظاهرة الإرجاء" بمداد علميٍّ متدَفِّق من ينابيع الإيمان.
وأمَّا سَلمان فكتبُه "الغرباءُ الأوَّلون" "حوار هادئ مع الغزالي" "معركة الإسلام والعلمانية"..كلُّها تنبِض بحقيقة التَّوحيد, ويَلوح عليها صَفاء العقيدة..فكان ذلك يَدعوني للتَّفاؤل.
أما سَفر فكان كتابُه الأخير "المسلمون والحضارة الغربية" سهما صائبا في اتِّجاه العدُوِّ, وخُطوة ثابتةً على طريق الحقِّ سَتعقبُها خُطوات..ونرجو أن يُوفَّق سَلمانُ للثَّبات على تلك الخُطَى فقد عرف الغُربَة ومَنهجَ الغرباء.
واليومَ حين تُطالب النِّيابة السُّعودية بقتل الشَّيخ سَلمان بغير حقٍّ, تنحلُّ من الأفهام عُروة, فتدرك أنَّه لا خيرَ في الطُّغاة المعطِّلين لشرع الله الموالين لأعدائه, وتُفتَحُ من الإنصاف أبوابٌ فيُقلُّ علينا الدُّعاةُ اللَّومَ حين نَذكُرُ جرائمَ الحُكَام, وحِقدَهم على الدُّعاة, واستِعدادَهم لإرضاءِ الكُفَّار ولَو بطمسِ شَعائر الإسلام المُمَيِّزة.
فرَّج الله كَربَ الشَّيخ سَلمان وكلِّ المظلومين, وأخَذَ على أيدي الطُّغاة وردَّ كيدَهم صاغرين.