• حكم الجهاد عند جمهور الفقهاء:
وجمهور الفقهاء على أن الجهاد فرض كفاية، وإن ذهب بعضهم إلى أنه فرض عين. كما رُوي عن بعض السلف: أنه من باب التطوع لا الفرض.
قال الخِرَقي في مختصره: (والجهاد فرض على الكفاية، إذا قام به قوم، سقط عن الباقين)
وشرحه الإمام ابن قدامة في (المغني) فقال:
(معنى فرض الكفاية: الذي إن لم يقُم به مَن يكفي، أثم الناس كلهم، وإن قام به مَن يكفي، سقط عن سائر الناس. فالخطاب في ابتدائه يتناول الجميع، كفرض الأعيان، ثم يختلفان في أن فرض الكفاية يسقط بفعل بعض الناس له، وفرض الأعيان لا يسقط عن أحد بفعل غيره. والجهاد من فروض الكفايات، في قول عامة أهل العلم.
وحُكِي عن سعيد بن المسيَِّب: أنه من فروض الأعيان، (كما رُوي عن أبي طلحة الأنصاري وأبي أيوب والمقداد بن الأسود من الصحابة رضي الله عنهم)؛ لقول الله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:41]، ثم قال: {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [التوبة:39]، وقوله سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة:216]. وروى أبو هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَن مات ولم يغزُ، ولم يحدِّث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق". رواه أبو داود [1[
وردَّ ابن قدامة على هذا القول بقول الله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء:95]. وهذا يدلُّ على أن القاعدين غير آثمين مع جهاد غيرهم. وقال الله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة:122]. ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث السرايا، ويقيم هو وسائر أصحابه.
فأما الآية التي احتجوا بها: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة:41]، فقد قال ابن عباس: نسخها قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً}، رواه الأثرم وأبو داود[2[ .
ويحتمل أنه أراد: حين استنفرهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك، وكانت إجابته إلى ذلك واجبة عليهم، ولذلك هجر النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك وأصحابه الذين خُلِّفوا، حتى تاب الله عليهم بعد ذلك[3] ، وكذلك يجب على مَن استنفره الإمام؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا استنفرتم فانفروا". متفق عليه)[4] انتهى.
وما قاله الإمام ابن قدامة هو الصحيح، فإن الآية التي استدلُّوا بها جاءت في سياق استنفار رسول الله لهم، وذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ...}[التوبة::38]، وعند استنفار الإمام لفرد أو جماعة يصبح الجهاد فرض عين عليهم بالإجماع.
• معنى الكفاية في الجهاد:
وشرح الإمام ابن قدامة في (المغني) معنى (الكفاية)، فقال: (ومعنى (الكفاية) في الجهاد: أن ينهض له قوم يكفون في قتالهم؛ إما أن يكونوا جندا لهم دواوين من أجل ذلك، أو يكونوا قد أعدوا أنفسهم له تبرعا، بحيث إذا قصدهم العدو حصلت المَنَعَة بهم، ويكون في الثغور مَن يدفع العدو عنها، ويبعث في كل سنة جيشا يغيرون على العدو في بلادهم)[5] انتهى.
وما قاله ابن قدامة هنا في بيان معنى الكفاية مسلَّم ومتفق عليه، إلا النقطة الأخيرة، وهي بعث جيش يغير على الأعداء كل سنة، فهذا لا دليل عليه إذا كان غير المسلمين مسالمين للمسلمين، قد اعتزلوهم، فلم يقاتلوهم، وألقَوا إليهم السلم، ولم يُخَف من ورائهم شر. وقد ذكرنا من قبل ما نقله الإمام أبو بكر الرازي (الجصاص) في (أحكام القرآن) من قول ابن عمر وعطاء وعمرو بن دينار وابن شُبرُمة، من أن الجهاد في حالة أمن المسلمين من الكفار غير واجب.
وسنناقش هذه المسألة بعد ذلك بتفصيل أكثر[6[.
وقد ذكر بعض الفقهاء هنا قيدا مهما لوجوب هذا النوع من القتال، وفرضيته - فرض الكفاية - وهو: أن يغلب على ظن ولي الأمر أنه يكافئ الأعداء بما لديه من قوة، وإلا فلا يباح قتالهم[7] ، لما فيه من تعريض المسلمين للخطر.
كما نبَّه الفقهاء هنا أيضا إلى أمر مهم ومثير، وهو ما قاله في (الدر المختار) من كتب الحنفية:
)وإياك أن تتوهم: أن فرضيته تسقط عن أهل الهند بقيام أهل الروم مثلا، بل يُفرض على الأقرب فالأقرب من العدو، إلى أن تقع الكفاية. فلو لم تقع الكفاية إلا بكل الناس: فُرض عينا كصلاة وصوم ... وتمامه في (الدر(
وعلق ابن عابدين (ت1252هـ) في حاشيته على قوله (بقيام أهل الروم مثلا) بقوله: إذ لا يندفع بقتالهم الشر عن الهنود المسلمين، (نهر عن الحواشي السعدية) قال: ثم قال فيها: وقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة:123]،يدلُّ على أن الوجوب على أهل كل قُطر. ثم قال في موضع آخر: والآية تدل على أن الجهاد فرض على كل مَن يلي الكفار من المسلمين، على الكفاية. فلا يسقط بقيام الروم عن أهل الهند وما وراء النهر مثلا، كما أشرنا إليه) [8] اهـ.
)قال في (النهر) من كتب الحنفية: ويدل له ما في (البدائع): ولا ينبغي للإمام أن يخلي ثغرا من الثغور من جماعة من المسلمين فيهم غَناء وكفاية لقتال العدو، فإن قاموا به سقط عن الباقين. وإن ضعف أهل ثغر عن مقاومة الكفرة، وخِيف عليهم من العدو، فعلى مَن وراءهم من المسلمين - الأقرب فالأقرب - أن ينفروا إليهم، وأن يمدُّوهم بالسلاح والكُراع - الخيل - والمال، لما ذكرنا أنه فرض على الناس كلهم ممَّن هو من أهل الجهاد، ولكن سقط الفرض عنهم لحصول الكفاية بالبعض، فما لم يحصل لا تسقط) [9] اهـ.
وكلام صاحب البدائع هنا - وهو العلامة الكاساني (ت587هـ) - في تفسير ما يتحقق به فرض الكفاية: في غاية المتانة والقوة، ففيه تأمين الثغور بأهل الكفاية والغَناء والقدرة على صدِّ العدو وردعه، وهو واجب الإمام أو سلطة الدولة، وعلى الشعب معاونته على ذلك، وليس فيه ذكر للقول بوجوب الغزو في كل سنة لأرض العدو، كما هو المشهور.
ولذا علَّق عليه ابن عابدين بقوله: (وحاصله: أن كل موضع خِيف هجوم العدو منه: فرض على الإمام - أو على أهل ذلك الموضع - حفظه، وإن لم يقدروا فُرض على الأقرب إليهم إعانتهم إلى حصول الكفاية بمقاومة العدو. قال ابن عابدين: ولا يخفى أن هذا غير مسألتنا، وهي قتالهم ابتداء، فتأمل)[10[
وهذا يدلُّ على أن فرضية الغزو السنوي لبلاد الكفار لم تكن موضع إجماع لدى المتقدمين من الحنفية، كما نراها عند المتأخرين. وقد ذكرنا قبل رأي الإمام الجصاص الحنفي في (أحكام القرآن(.
وسنعود لهذا الموضوع، لنزيده بيانا ووضوحا.
• رأي سحنون:
وفي مذهب مالك وجدنا (سحنون) يقول: الجهاد ليس بواجب بعد الفتح البتة، إلا أن يأمر الإمام، فيجب الامتثال؛ لقوله عليه السلام: "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا"[11] ، فعلق الوجوب على الاستنفار [12[
وأعتقد أن الجهاد الذي نفى وجوبه سحنون إنما هو جهاد الطلب وغزو العدو كل سنة مرة كما قال بعضهم، أما جهاد الدفع والمقاومة للعدو الغازي، فهذا لا يماري أحد في وجوبه، كما ذكر القرافي في (ذخيرته) عن صاحب (التلقين) قوله: ولا يظن أن أحدا يقول: لا يجب، مع إفضاء تركه إلى استباحة دم المسلمين، ولكن مع الأمن قد يظن الخلاف [13].
• رأي ابن رشد الجد:
ونقل القرافي عن صاحب (المقدمات) - وهو ابن رشد الجد - قوله: إذا حميت أطراف البلاد، وسدت الثغور: سقط فرض الجهاد عن جماعة المسلمين، وبقي نافلة، إلا أن ينزل العدو ببعض بلاد المسلمين، فيجب على الجميع إعانتهم، بطاعة الإمام في النفير إليهم[14] انتهى.
وفي (بداية المجتهد) لابن رشد الحفيد: أنه روي عن مالك أنه قال: لا يجوز ابتداء الحبشة بالحرب، ولا الترك. لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: "ذروا الحبشة ما وذروكم"[15] ، وقد سئل مالك عن صحة هذا الأثر، فلم يعترف بذلك، ولكن قال: لم يزل الناس يتحامون غزوهم[16] انتهى.
ومن المعلوم: أن الحبشة كانوا نصارى، وأن الترك كانوا وثنيين مشركين.
والذي أراه: أن هذا ليس خصوصية لهاتين الأمتين، بل هو دليل على الاتجاه العام للإسلام مع غير المسلمين، فمن ترك المسلمين ولم يتعرض لهم: تركه المسلمون، ومن ودعهم وسالمهم سالموه.
• لا إجماع على فرضية جهاد الطلب:
وهكذا نرى أن ما كان يظنه الكثيرون: أن جهاد الطلب، وغزو العدو مرة كل سنة، فرض كفاية على الأمة، وأنه أمر مجمع عليه، ليس كما ظنوا، وإنما المجمع عليه في هذا المقام: أمران لا خلاف عليهما:
الأول: ما ذكره ابن رشد: أن ينزل العدو ببلد من بلاد المسلمين، فيجب عليهم جهاده، ويجب على الجميع إعانتهم حتى يهزم.
والثاني: تجهيز الجيوش، وإعداد العدة اللازمة للدفاع عن الحوزة، من القوة العسكرية الكافية لردع العدو، والقوة البشرية المدربة، بما يقتضيه العصر في البر والبحر والجو. استجابة لقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60[.
• اشتراط السلامة من الضرر ووجود النفقة:
واشترط الفقهاء لوجوب الجهاد على الأفراد: السلامة من الضرر المانع، ووجود النفقة المُمَكِّنة من الجهاد.
)أما السلامة من الضرر، فمعناه: السلامة من العمى، والعرج، والمرض، وهو شرط؛ لقول الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور:61، الفتح:17]، ولأن هذه الأعذار تمنعه من الجهاد؛ فأما العمى فمعروف، وأما العرج، فالمانع منه هو الفاحش الذي يمنع المشي الجيد والركوب، كالزمانة ونحوها، وأما اليسير الذي يتمكَّن معه من الركوب والمشي، وإنما يتعذَّر عليه شدة العدْو، فلا يمنع وجوب الجهاد؛ لأنه يتمكَّن منه، فشابه الأعور. وكذلك المرض المانع هو الشديد، فأما اليسير منه الذي لا يمنع إمكان الجهاد، كوجع الضرس والصداع الخفيفين، فلا يمنع الوجوب؛ لأنه لا يتعذَّر معه الجهاد، فهو كالعور) [17] اهـ.
قلت: والدول الحديثة تضع مواصفات بدنية لمَن يُقبل في الجيش، من حيث السلامة من الآفات والأمراض، وطول القامة، وصحة البصر والسمع، وغيرها، تشرف على التحقُّق منها جهة فنية طبية.
ثم قال في (المغني): (وأما وجود النفقة، فيشترط؛ لقول الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة:91]. ولأن الجهاد لا يمكن إلا بآلة، فيُعتبر القدرة عليها. فإن كان الجهاد على مسافة لا تُقصر فيها الصلاة: اشترط أن يكون واجدا للزاد، ونفقة عائلته، في مدة غَيبته، وسلاح يقاتل به، ولا تُعتبر الراحلة؛ لأنه سفر قريب. وإن كانت المسافة تُقصر فيها الصلاة: اعتبر مع ذلك الراحلة؛ لقول الله تعالى: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة:92])[18] انتهى.
قلت: وهذا إذا كان أمر الجهاد يقوم على تطوُّع الأفراد، محتسبين الأجر عند الله، كما كان الأمر في زمن النبوة وما بعدها، أما إذا كانت الدولة هي التي تنظم أمر الجهاد، وتعدُّ الجيوش والقوَّات المسلحة، برية وبحرية وجوِّية، كما في عصرنا، فهي التي تجنِّد المجاهدين وتجهِّزهم. فهنا لا يشترط وجود النفقة، وقد تفتح الباب للمتطوعين للقيام بأعمال معينة، في إطار معلوم، يحدِّده النظام.
وقد لا تكون هناك دولة تقوم بذلك، إما لعدم وجودها في الأصل، أو لأنها ارتدَّت عن الإسلام، ووالت أعداء المسلمين، كما كان الحال في أفغانستان أيام حَكَمَها الشيوعيون، واستنجدوا بالسوفيت لحرب أهليهم وقومهم، أو لأن الدولة سقطت أمام غزو عسكري أجنبي، أو لأنها استكانت وتخلَّت عن واجب الجهاد، فهنا يجب على الأفراد والجماعات المختلفة في (المجتمع المدني): أن يختاروا منهم جماعة تقوم بأمر الجهاد والمقاومة، مطبِّقين ما ذكره الفقهاء من الشروط.
• أقل الجهاد الواجب، وموانع فرض الكفاية:
واعتبر جمهور الفقهاء: أن أقلَّ ما يجب من الجهاد المفروض فرض كفاية: أن يقع مرة في كل عام غزو لأرض الأعداء.
يقول العلامة ابن قدامة في (المغني): (وأقل ما يفعل: مرة في كل عام؛ لأن الجزية تجب على أهل الذمَّة في كل عام، وهي بدل عن النصرة، فكذلك مُبدَلها وهو الجهاد، فيجب في كل عام مرة، إلا مِن عُذْر، مثل: أن يكون بالمسلمين ضعف في عدد أو عدَّة، أو يكون منتظرا - أي ولي الأمر - لمَدد يستعين به، أو يكون الطريق إليهم فيها مانع، أو ليس فيها علف أو ماء، أو يعلم من عدوه حسن الرأي في الإسلام، فيطمع في إسلامه إن أخَّر قتالهم، ونحو ذلك، مما يرى المصلحة معه في ترك القتال، فيجوز تركه بهدنة وبغير هدنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد صالح قريشا عشر سنين، وأخَّر قتالهم حتى نقضوا عهده[19] ، وأخَّر قتال قبائل من العرب بغير هدنة. وإن دعت الحاجة إلى القتال في عام أكثر من مرة، وجب ذلك؛ لأنه فرض كفاية، فوجب منه ما دعت الحاجة إليه)[20] انتهى.
• ما ذكره ابن قدامة من موانع فرض الكفاية:
وهذه الأعذار أو الموانع التي ذكرها الإمام ابن قدامة لعدم القيام بالغزو السنوي: مهمة للغاية، ولا سيما ما ذكره: أن يعلم ولي أمر المسلمين أن عدوهم حسن الرأي في الإسلام، وأنه يطمع في كسبه لصف الإسلام بالسلم أكثر من الحرب. بل فتح ابن قدامة الباب، ليشمل كل ما يرى معه الإمام المسؤول المصلحة في ترك القتال. فيجوز تركه لذلك بهدنة وبغير هدنة.
ومما ينبغي أن يضاف إلى الموانع والأعذار التي ذكرها الفقهاء لترك الغزو في كل عام: أن تتوافق دول العالم على السلام، والامتناع عن الحرب، وحلِّ المشاكل بالوسائل السِّلمية، وإتاحة الفرصة لتبليغ الدعوة بالوسائل العصرية السِّلمية، بالكلمة المقروءة، والمسموعة، والمشاهدة، كما هو الواقع في عصرنا. فلا ينبغي أن يظهر المسلمون وحدهم بأنهم دعاة الحرب، في حين يتنادى العالم كله بالسلام. فكيف وعندنا من النصوص المتوافرة، من القرآن الكريم، ومن الهدْي النبوي: ما يُرغِّب في السلام، ويدعو إلى السلام؟!
• نظرة في الواقع التاريخي:
والحقيقة: أن قضية غزو بلاد الكفر، أو التوغُّل في أراضيهم مرة كل سنة، كما ذكره الفقهاء، واعتبروه فرض كفاية على الأمة، ممثَّلة في خلفائها وأمرائها، الذين تولَّوا المسؤولية عن أمورها ... هذا الغزو المفروض: إنما يخضع للظروف وتغيُّرها.
والفقهاء حينما قرَّروا ذلك، إنما قرَّروه بناء على الواقع المعيش، الذي كان مفروضا على الأمة في تلك الأزمنة، وهي: أنها مهدَّدة باستمرار من جيرانها الأقوياء، مثل: دولة الروم البيزنطية، التي اقتطع المسلمون أجزاء من امبراطوريتها العريضة في آسيا وأفريقيا، وأصبحت جزءا من (دار الإسلام) وبات جُلُّ أهلها مسلمين. وقد أدرك الناس من قديم: أن خير وسائل الدفاع الهجوم، وأن العدو المتربِّص إذا لم تبادره ببعض المناوشات على الحدود، سيبادرك هو بمناوشاته، وإذا لم يجد أمامه مَن يصده، فسيقتحم عليك دارك، فإذا لم يجد مقاومة، فسيتوغل أكثر وأكثر.
فهذا هو الذي دعا الفقهاء – أو رجَّح لديهم فيما أرى - أن يقولوا بوجوب الغزو كل سنة مرة. وقد رأينا شيخ الإسلام ابن قدامة يذكر جملة من الأعذار المانعة لوجوب هذا الغزْو منها: أن يرى الإمام حُسن رأي خصومه في الإسلام، وطمعه في أن يقتربوا منه أكثر وأكثر، حتى تنشرح صدورهم للدخول فيه.
ومن ذلك: ألا يكون بالمسلمين طاقة لتحمل أعباء الجهاد، لأسباب وظروف اقتصادية أو بشرية، تؤثر على حسن أدائهم، وعلى موقفهم العسكري من أعدائهم.
• الارتباط بفقه السياسة الشرعية:
وبهذا نرى: أن إيجاب غزو الأعداء كل سنة، إنما يخضع في الواقع لفقه السياسة الشرعية، وهو فقه يتَّسم بالرحابة والمرونة، والقابلية للتطوُّر وتعدُّد وِجهات النظر، لأنه يقوم أساسا على فقه المقاصد والمصالح[21] ، وفقه المآلات[22] ، وفقه الموازنات[23] ، وفقه الأولويات[24] ، وفي هذه الألوان من الفقه مجال واسع للاجتهاد الإنشائي، والاجتهاد الانتقائي، واختلاف التنوع، وتعدُّد الأنظار والرُّؤى، دون نكير من فريق على آخر، ما دام يحترم الثوابت، ويرعى الأصول الشرعية، والضوابط المرعية.
وقد رأينا خامس الراشدين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، يسحب جيشه الذي يحاصر القسطنطينية حين لم يجد لذلك جدوى أو نتيجة تُرتجى، مع ما يُكبِّدهم ذلك من مشقة بالغة تجهد الجنود، ومن نزف مالي مستمر يرهق خِزانة الدولة، ويضيِّق على المصارف الأخرى.
وهذا ما سجَّله الكاتب المؤرخ المسلم الثقة (عماد الدين خليل) في كتابه عن عمر بن عبد العزيز، وملامح الانقلاب الإسلامي في عهده، فقال:
)عندما تولَّى عمر بن عبد العزيز الخلافة كانت زهرة قوَّات المسلمين تحاصر القسطنطينية دون جدوى: الشتاء ببرده وثلوجه يصبُّ نقمته على جندهم في البر والبحر، والجوع يتأكلهم من الداخل، بعد أن قام قائدهم مَسْلَمَة بن عبد الملك بإحراق المِيرة، ليدفع قوَّاته إلى هجوم حاسم ضد مَعقل القسطنطينية العظيم. وما إن بدأ هجومهم حتى استدرجهم الإمبراطور البيزنطي الجديد (ليو) قريبا من الأسوار، وصبَّ عليهم حِمما من النار اليونانية، فأحرقت سفنهم، وفتكت بعدد كبير منهم، وشتَّت هجومهم الموحد.
كانت هذه القوَّات قد بدأت مهمتها منذ العام الماضي (98هـ)، حينما حشد سليمان بن عبد الملك قوَّات تبلغ الثمانين ألفا، لتحقيق الهدف الذي عجز عن تحقيقه سلفه العظيم معاوية بن أبي سفيان، ألا وهو الاستيلاء على مفتاح أوربا الشرقي، والانسياح من هناك إلى أعماق القارة. ولكن كل هذه المحاولات ذهبت عبثا، إزاء مناعة أسوار القسطنطينية، وإحاطتها بالبحر من ثلاث جهات. وها هي الحملة الكبرى تلاقي مصيرا أشدَّ قسوة من مصير ما سبقها من حملات، حتى يضطر جندها من شدة الجوع إلى أكل الدواب!!
ويتولى عمر الخلافة، فهل يرضى لإخوته وأبنائه أن يموتوا هناك، دون جدوى، وهو الذي بلغ حسُّه بالقرآن درجة عجيبة، ووعى آياته وعيا عميقا، ومنها تلك التي تقول: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]؟! هل يرضى عمر لقوَّاته أن يمزِّقها الجوع، وتحرقها النار اليونانية، ويشلَّها البرد والزمهرير؟ ويسحقها اليأس والغربة، دونما أمل قريب أو بعيد في تحقيق النصر؟
ويُبيّن د. خليل: أن منطق القادة العسكريين لا تتبدَّى روعته في الإصرار على هجوم غير مُجد، وتقديم الناس قرابين لأهداف كالسراب، بل إن منطق هؤلاء القادة - كما يقول خليل - يتعرَّض لامتحانه الخطير في لحظات الهزيمة هذه، وإن القائد الحصيف ليجتازه بمهارة عجيبة.
لقد كان بإمكان خالد بن الوليد (رضي الله عنه)، في معركة مؤتة: أن يخوض بالمسلمين - بعد هزيمتهم أمام الروم، ومقتل قوادهم الثلاثة - معركة انتحارية، ويقدم جنده قرابين للدعوة التي جاؤوا يحملون راياتها على مشارف إمبراطورية الروم. ولكن حصافته منعته من هذا، وهيأت له نظرته الثاقبة خطة للانسحاب، والحفاظ على أرواح جند، شاءت حكمة الله، وبراعة سيفه المسلول، أن يلعبوا دورهم فيما بعد، في معركة الثأر التي قادها أسامة بن زيد بعد زمن قصير. ولو تمكَّن نابليون وهتلر - على سبيل المثال - من تأمين انسحاب منظَّم لقوَّاتهما الحاشدة في روسيا، عبر ساعات الهزيمة المُرة والبرد والجوع والموت، لكان لتاريخهما وِجهة جديدة ومصير آخر.
وعمر - وهو يسوس أمته من دمشق - كان بإمكانه أن يُقدم على مزيد من المجازفات، على أمل أن التاريخ سيسجِّل في يوم عظيم: أن عمر بن عبد العزيز تمكَّن من كسر الباب الشرقي لأوربا، وفتح الطريق أمام خيول المسلمين، تطأ بسنابكها جهات القارة الأربع!! ولكن عمر لم يكن يريد أمجادا من هذا النوع، فهو مسؤول عن كل قطرة دم تُراق في سبيل أهداف بعيدة المنال. ومن ثَمَّ يرسل إلى القائد مَسْلَمَة بن عبد الملك - دونما تردد - يأمره بالعودة بمَن بقي معه من القوَّات. ولكي يُؤمِّن انسحابهم وجَّه إليهم - على جناح السرعة - خيلا عتاقا وطعاما كثيرا، وحثَّ الناس - عبر الطرقات التي ستمر منها القوَّات المنسحبة - أن يساعدوهم ويقدموا لهم ما يحتاجون إليه[25[
ولم يقف عمر عند هذا الحد، بل راح يراقب أوضاع المسلمين في الثغور التي كانت طيلة السنين الماضية أهدافا لضربات البيزنطيين، بالنظر لطبيعة موقعها المتوغِّل في بلاد الأعداء، وراح الخليفة، يتخذ من الإجراءات ما ينسجم واستراتيجيته الجديدة. فسعى إلى هدم حصن (المَصِّيصَة) وترحيل أهله عنه لِمَا كانوا يقاسونه من الروم، إلا أنه توفي قبل إتمام مشروعه هذا [26[
وقام بإجراء حاذق بالنسبة لموقع (طُرَندة) الذي نزله المسلمون وأقاموا فيه مساكنهم، رغم توغُّله في بلاد الروم وإحاطته بأراض لا يقطنها سوى جماعات من أهل الذمَّة الأرمن، وكانت (مَلَطْية) القريبة منه خرابا لا يسكنها سوى غير المسلمين من أهل الذمَّة والأرمن كذلك. وقد دفعت هذه الأوضاع الصعبة في المنطقة، إلى أن تخرج سنويا قوة من جند المسلمين من الجزيرة، فتقيم في طُرَندة صيفا لحمايتها، وما إن يحلَّ الشتاء وتبدأ الثلوج بالتساقط، حتى تقفِل هذه القوة عائدة إلى قواعدها في الجزيرة، وما أن تولى عمر الخلافة حتى قام بترحيل أهل طُرَندة - رغم معارضتهم - لإشفاقه عليهم من العدو، بعد أن أمرهم بإتلاف كل ما لا يستطيعون حمله من المؤونة كيلا يفيد الروم منها، ومن ثَمَّ تمَّ تخريب طُرَندة ونقل أهاليها إلى مَلَطْية التي عين عليها واليا جديدا. وبهذا غدا المسلمون هناك في موقف أكثر سلامة من ذي قبل [27]. وإذ كانت اللاَّذِقِيَّة عرضة لهجمات الروم، أمر عمر ببنائها وتحصينها واستكمال أسبابها الدفاعية[28[ .
ومع حرص الخليفة الراشد على دماء المسلمين وعلى قوتهم: لم يكن من الغفلة بحيث يَدَع الفرصة للروم المتربصين، لينهشوا أراضي الدولة الإسلامية الكبرى، من جهة الشمال، ويضعوا أيديهم على ثغورها واحدا بعد الآخر، بل استبقى عمر النظام العسكري الذي وضعه من قبله معاوية بن أبي سفيان: نظام (الصوائف والشواتي) ذلك الذي يجعل المبادرة العسكرية بأيدي المسلمين دائما إزاء الروم، عن طريق إرسال حملات نظامية موسمية في كل صيف وشتاء، لغزو بلاد الروم، وعدم إتاحة أي مجال لهم في التحول إلى الهجوم!! اهـ.
قلت: الواضح من إرسال هذه الحملات هو حاجة الدولة إلى إشعار أعدائها بقوتها، وأنها قادرة على ردعهم، وهذا كله خاضع لرعاية المصالح العسكرية، والضرورات العملية للدولة.
يقول عماد الدين خليل: (وإذن، فموقف عمر من (مشروع فتح القسطنطينية)، لا يعبِّر أبدا عن سلبية في ميدان القتال، وإنما يعبِّر عن بُعد نظر وحصافة لا يتمتع بها إلا القِلَّة التي تدرك الأمور ببصيرة نافذة، وحرص عميق على دماء المسلمين وأرواحهم.
وهذا الحرص يتبدَّى - ثانية - في ساحة أخرى لها خطرها، تلك هي ساحة الغزو والفتوح. فليس أحرص من عمر على نشر الإسلام، وإسقاط نُظُم الكفر، وإتاحة حرية الاعتقاد للأمم والشعوب المضطهدة، ولكنه ما دام قد تمكَّن، بدبلوماسيته واتصالاته السِّلمية، أن يحقِّق هذا الغرض، وأن يقنع قادة وملوك وزعماء الأقوام غير المسلمة بالإسلام، وما دام عدد كبير من هؤلاء قد استجاب لهذا الأسلوب السلمي واعتنق الإسلام، أو أتاح لشعبه - على الأقل - حرية الاعتقاد ... فلا ضرورة - إذن - لاستخدام السيف للإطاحة برؤوس الطغيان الذين يقفون جدرانا كالحة أمام نور الإسلام، ويصدون - عن طريق خنق الحريات - عن سبيل الله، ويبغونها عوجا، ومن ثَمَّ يرسل عمر إلى عبد الرحمن ابن نعيم، عامله على المشرق، يأمره بإرجاع ما وراء النهر من المسلمين (المحاربين) بذراريهم، فيأبى هؤلاء، ويكتب عبد الرحمن إلى خليفته بذلك، فيردُّ عليه عمر: (اللهم إني قد قضيت الذي عليَّ، فلا تغزُ بالمسلمين، فحسبهم الذي قد فتح الله عليهم)[29[
ومع ذلك فإن أي عدوان على أراضي ومواطني الدولة الإسلامية في عهد عمر، كان يجابه بالردع العنيف الحاسم، كيلا يعود المتربصون إلى الاعتداء مرة أخرى. ففي عام تسع وتسعين أغار الترك على أذربيجان، وقتلوا جماعة من المسلمين، وفتكوا بالسكان، فوجه إليهم عمر عبد العزيز بن حاتم بن النعمان الباهلي، فقتل عددا من أولئك المغيرين، ولم يفلت من يديه إلا اليسير، وما لبث أن قدم بالأسرى إلى الشام ليعرضهم على الخليفة )[30] د اهـ.
وهنا نجد الخليفة الراشد يستخدم القوة حيث يجب أن تُستخدم القوة، ويقدم المسالمة حين يراها الأحكم والأصوب، وهذه هي الحكمة التي عبر عنها أبو الطيب:
ووضع النِّدى في موضع السيف بالعلا .. مُضِرٌّ، كوضع السيف في موضع النِّدى