البحث

التفاصيل

كتاب : فقه الجهاد تأليف الحلقة [ 10 ] : الباب الأول (حقيقة الجهاد ومفهومه وحكمه) الفصل الثالث : (بماذا يتحقق فرض الكفاية في الجهاد؟)

الرابط المختصر :

 

• الاختلاف في جهاد الطلب والمقصود منه :

لقد رأينا جمهور العلماء قد اتفقوا على أن الجهاد فرض في الإسلام، وهذا ما لا ينبغي أن يُشك أو يُنازع فيه في الجملة. وأن منه ما هو فرض كفاية، ومنه ما هو فرض عين: فأما ما هو فرض عين، فلا خلاف عليه، ولا نزاع فيه، وهو (جهاد الدفع) أي جهاد المقاومة والمطاردة للغزاة، لتحرير أرض الإسلام وأهل الإسلام منهم. وسنتحدث عنه في الفصل القادم.

وإنما الخلاف والنزاع فيما هو فرض كفاية، وهو (جهاد الطلب) كما يسميه الفقهاء. فهل هذا النوع من الجهاد مُسلَّم به ومتفق عليه، أو مختلَف فيه؟ وإذا كان مُسلَّما به عند الجمهور، فما المقصود حقيقة من هذا النوع من الجهاد؟ أهو قتال العالم كله: مَن حاربنا منهم، ومَن سالمنا، حتى يدخلوا في الإسلام أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون؟ أم هو شيء غير ذلك؟ وما هو هذا الشيء؟

فقد نقلنا قول الإمام (الجصاص) في أحكام القرآن: ما أجمع عليه المسلمون وما اختلفوا فيه من أمر هذا الجهاد.

أما ما أجمعوا عليه، فهو: إذا خاف أهل الثغور من العدو، ولم تكن فيهم مقاومة لهم، فخافوا على بلادهم وأنفسهم وذراريهم، ففرض على كافة الأمة: أن ينفر إليهم مَن يَكُفُّ عاديتهم عن المسلمين. وهذا لا خلاف فيه بين الأمة ...

قال: لكن موضع الخلاف بينهم: أنه متى كان بإزاء العدو مقاومون له، ولا يخافون غلبة العدو عليهم: هل يجوز للمسلمين ترك جهادهم حتى يُسلموا أو يؤدُّوا الجزية؟

فكان من قول ابن عمر وعطاء وعمرو بن دينار وابن شُبرُمة (والثوري أيضا): أنه جائز للإمام والمسلمين ألا يغزوهم ويقعدوا عنهم.

وقال آخرون: على الإمام والمسلمين أن يغزوهم أبدا، حتى يُسلموا أو يؤدُّوا الجزية، وهو مذهب أصحابنا ومَن ذكرنا من السلف[1] اهـ.

فإذا لم نأخذ بقول ابن عمر وغيره ممَّن ذكرهم الجصاص، فما المقصود بفرض الكفاية في الرأي الآخر؟

• سقوط فرض الكفاية بغزو العدو مرة كل عام :

لقد ذكر أكثر الفقهاء: أن فرض الكفاية يسقط عن الأمة بغزو العدو مرة كل سنة. فإذا لم يغزُ أحد من الأمة الكفار - ولو مرة واحدة في السنة - فقد أثمت الأمة كلها، لتفريطها في القيام بفرض الكفاية.

وتحديد الغزو بهذه الصورة - مرة كل سنة - لم يجئ به نص من كتاب أو سنة، ولكن ذكره بعض المتقدمين، ونقله عنهم المتأخرون. وإنما قاله مَن قاله استنباطا؛ لأن الجزية تجب في السنة مرة، وهي بدل الجهاد، فكذلك مُبدَلها - وهو الجهاد - يجب أن يكون في السنة مرة.

• تأثر الفقهاء بالواقع الذي عاشوه :

والحقُّ أن كلام الفقهاء هنا أملاه الواقع الذي عاشوه وعاينوه، كما ذكرنا من قبل، والمتمثل في عَلاقة الدولة الإسلامية بجيرانها الذين يهدِّدونها في كل وقت، ولاسيما دولة الروم البيزنطية، القوية والمتربصة. فعلى المسلمين أن يقوموا بمناوشات على الحدود بين الحين والحين، لتأمين حدودهم، وإثبات وجودهم، وهذا ما عرَفه عصرنا، وسمَّاه الباحثون المُحدَثون:شرعية (الحرب الوقائية)، وهي عندهم مبرَّرة ومشروعة.

• تفسيرٌ مهمٌّ لفرض الكفاية قاله فقهاء الشافعية:

ولكن من الفقهاء مَن فسَّر فرض الكفاية المطلوب من الأمة تفسيرا جيدا، غير التفسير التقليدي، وفَّق به بين القائلين بالجهاد الهجومي، والقائلين بالجهاد الدفاعي.

والعجيب أن الذين قدموا هذا التفسير للجهاد الكفائي بصراحة هم فقهاء الشافعية. ومن المعلوم: أن مذهب الشافعي رضي الله عنه، هو أشد المذاهب في قضية الجهاد، وأكثرها تضييقا، كما سنرى ذلك في عدة قضايا مثل: إجازته قتل الراهب والأجير والشيخ والأعمى والزَّمِن في أظهر القولين [2[

ومع هذا حقَّق المتأخرون من فقهائهم هذا الأمر فأحسنوا.

ذكر الإمام الرافعي في كتابه: (فتح العزيز بشرح الوجيز)، والذي اختصره الإمام النووي وعلَّق عليه في: (روضة الطالبين)، وذكره أيضا في: (المنهاج) وأكَّده شُرَّاحه مثل: العلامة ابن حجر الهيتمي في: (تحفة المحتاج شرح المنهاج)، وشمس الدين الرملي في: (نهاية المحتاج)، والخطيب الشربيني في: (مغني المحتاج)، وغيرهم. وخلاصة ما ذكروه: أن فرض الكفاية في الجهاد يحصل بتَشحِين الثغور - وهي محالُّ الخوف التي تلي بلاد الأعداء - بمكافئين لهم لو قصدوها، مع إحكام الحصون والخنادق، وتقليد ذلك للأمراء المؤتمنين، المشهورين بالشجاعة والنصح للمسلمين[3[

كما يحصل بأن يدخل الإمام أو نائبه دارهم بالجيوش لقتالهم.

قالوا: هذا ما صرَّح به كثيرون، ولا ينافيه كلام غيرهم: لأنه محمول عليه، وصريحه الاكتفاء بالأول وحده (أي تحصين الثغور وشحنها بالجيوش، وإن لم تدخل دار الكفر للقتال)، وعلَّل ذلك بأن الثغور إذا شُحنت كما ذُكر، كان في ذلك إخماد لشوكتهم، وإظهار لقهرهم بعجزهم عن الظفر بشيء منا. مع قوله هنا: إنه إذا احتيج إلى قتالهم وجب[4] .

ومعنى هذا: أن المطلوب الذي يُؤدَّى به فرض الكفاية: أن يكون للمسلمين جيش قوي مرهوب الجانب، مسلَّح بأحدث الأسلحة، وعلى أعلى مستوى من التدريب، ينشر قوَّاته في كل الثغور البرية والبحرية، بحيث لا يدع نقطة يخشى منها، دون أن يهيئ لها أسباب الحماية والمَنَعَة، حتى يرتدع الأعداء، ولا يفكروا في الهجوم على المسلمين. وهذا أمر توافق عليه كل دول العالم اليوم. فمن مقتضيات سيادة الدول: أن تكون لها قوَّات مسلَّحة قادرة على الدفاع عن حدودها واستقلالها من أي هجوم عليها، أو اعتداء على حرماتها، أو الاستيلاء على أي شبر منها.

سبق الحنفية بما قاله الشافعية:

بل أقول: إن ما قاله المتأخرون من علماء الشافعية الذين اعتُمِدَت كتبهم ومؤلفاتهم عند أهل المذهب، قد سبقهم به علماء كبار من الحنفية أيضا، ممَّن تعتبر كتبهم مراجع مهمة في المذهب.

فقد نقلنا قَبلُ قول العلاَّمة الحنفي الكاساني - الملقَّب بملك العلماء - في كتابه الشهير (بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع): (وإذا كان (الجهاد) فرضا على الكفاية، فلا ينبغي للإمام أن يخلي ثغرا من الثغور من جماعة من الغُزاة، فيهم غَناء وكفاية لقتال العدو، فإن قاموا به يسقط عن الباقين، وإن ضعف أهل ثغر عن مقاومة الكفرة، وخِيف عليهم من العدو، فعلى مَن وراءهم من المسلمين - الأقرب فالأقرب- أن ينفروا إليهم، وأن يمدوهم بالسلاح والكُراع أي:الخيل- والمال، لما ذكرنا أنه فرض على الناس كلِّهم ممَّن هو أهل الجهاد. ولكن الفرض يسقط بحصول الكفاية بالبعض، فما لم يحصل لا يسقط) [5] اهـ.

فهذا تفسير الإمام الكاساني رحمه الله لمعنى فرض الكفاية: ألا يخلي الإمام ثغرا من الثغور من جماعة من الغُزاة، فيهم الكفاية والقدرة على ردِّ الأعداء الكفرة لو تعرضوا للمسلمين أو هجموا عليهم. وإلا وجب على مَن يليهم أن ينضمَّ إليهم، وأن يمدُّوهم بالمال والسلاح. ولم يذكر الكاساني في معنى فرض الكفاية: أن يُغِير كل سنة - لزوما - على الكفرة الأعداء مرة على الأقل في كل عام.

وقد علَّق ابن عابدين في حاشيته على هذا الكلام بقوله: (وحاصله: أن كل موضع خيف هجوم العدو منه، فرض على الإمام - أو على أهل ذلك الموضع - حفظه، وإن لم يقدروا فرض على الأقرب إليهم إعانتهم، إلى حصول الكفاية بمقاومة العدو، ولا يخفى أن هذا غير مسألتنا وهي قتالنا لهم ابتداء، فتأمل!)[6] اهـ. وقد نقلنا عبارة (البدائع) والتعليق عليها قبل ذلك[7[

• وكذلك المالكية والحنابلة :

كما وجدنا في المذهب المالكي ما يؤيِّد هذا التوجه، وقد نقلنا من قبل ما نقله الإمام القرافي في (الذخيرة(

كما وجدنا عند الحنابلة: ما ذكره ابن قدامة من الموانع والأعذار المتعددة، التي تسقط فرض الكفاية، وقد علَّقنا هناك على ما قاله بما يغني عن إعادته هنا.[8[

• تحقيق فرض الكفاية في الجهاد :

فهذا هو تحقيق معنى (فرض الكفاية) في الجهاد: أن تملك الأمة قدرة عسكرية مسلَّحة بما يلزمها من كل أسلحة العصر: برية وبحرية وجوية، منافسة لأسلحة الأعداء والمتربصين، إن لم تتفوق عليهم، يقوم عليها رجال مدرَّبون على استعمالها، قد أُعِدُوا الإعداد المطلوب: بدنيا ونفسيا وثقافيا، وقبل ذلك كلِّه: إيمانيًّا.

وأن يسند ذلك كله: قدرة اقتصادية تكفي الأمة عند الحرب ما تحتاج إليه من مؤن ونفقات وخدمات، وقدرة علمية وتكنولوجية تمدُّ الحرب الحديثة بما يلزمها من أدوات وحاجات تتطوَّر من يوم لآخر، وإنما ينتصر فيها مَن كان أكثر علما وخبرة في هذه المجالات.

والأصل في فرض الكفاية: أن الأمة جميعا مخاطَبة به، وإن كان الذي يقوم به بعض منها، إذ لا يمكن أن يكلَّف الجميع به.

فإعداد القوة الرادعة أَمَرَ اللهُ تعالى به الأمة جميعا في قوله سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60[

• مسؤولية أولي الأمر :

ولكن الذي يقوم بهذا ويعدُّ العدَّة اللازمة لإرهاب عدو الله وعدو الأمة، هم أولو الأمر الذين تولَّوا مسؤولية الولاية على الناس. فإذا قاموا بواجبهم في الإعداد على الوجه المنشود، فقد برئت الأمة كلها من الإثم والحرج. وإن لم يقوموا بما ينبغي، وبقيت الديار مكشوفة الساح، فاقدة السلاح، مهيضة الجناح، فقد أثمت الأمة كلها: حكاما ومحكومين، رعاة ورعية.

وذلك لأن فرض الكفاية تحمل الأمةُ كلُّها مسؤولية تحقيقه وتنفيذه، لأن فروض الكفاية في الواقع، إنما تعني الفروض الواجبة على الأمة بالتضامن، بخلاف فروض العين، فهي الفروض الواجبة على الأفراد بصفتهم الشخصية، وهم المسؤولون عنها أمام الله تعالى، وأمام الناس.

ومَن تأمل ما ذكره الفقهاء من فروض الكفاية[9] : وجدها كلها تصبُّ في اتجاه واحد هو: كل ما يحفظ على الأمة هُويَّتها، وشخصيتها الدينية والثقافية والحضارية، ويحفظ عليها مقوماتها المادية والمعنوية. ومنها الجهاد دفاعا عن كِيانها وحُرُماتها.


: الأوسمة



التالي
حقائق غائبة حول استشهاد الحسين وأحداث كربلاء (2)
السابق
كتاب : الحق المر - للغزالي الحلقة [ 10 ] : مغالطات الفاتيكان

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع