البحث

التفاصيل

كتاب : فقه الجهاد ..الحلقة [ 11 ] : الباب الأول : (حقيقة الجهاد ومفهومه وحكمه) الفصل الرابع : (متى يكون الجهاد فرض عين؟)

الرابط المختصر :

يصبح الجهاد فرض عين في عدَّة مواضع :

• ( 1 ) عند هجوم الأعداء على بلد مسلم :

الأول: إذا هجم العدو على بلد من بلاد المسلمين، أو خِيف هجومه، وبدت بوادره وهذه الحالة تُسمَّى (النفير العام)، وهو: أن يُحتاج إلى جميع المسلمين عند دخول الكفار واحتلالهم لأرض إسلامية، أو تهديدهم لها - وتوقع خطرهم عليها - فلا يكتفى ببعض المسلمين من أهل هذا البلد عن بعض آخر. بل يهبُّون جميعا لمقاومة الغزو، بحسب الإمكان، كل بما يقدر عليه. ولا يجوز لقادر التخلُّف عن المشاركة في المقاومة. ولهذا رأينا النبي صلى الله عليه وسلم عام الخندق حين هاجم المشركون المدينة[1] ، لم يأذن لأحد في ترك الجهاد، ونزل القرآن الكريم يذمُّ الذين يستأذنون النبي: {يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً} [الأحزاب:13[

كما ذمَّ القرآن الذين يتسللون خُفية، ويلوذون ببيوتهم، فرارا من واجب الحراسة، الذي كُلِّف به الجميع في مواجهة الخطر الزاحف. وفيهم نزل قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63،62[

وهذا بخلاف الجهاد إذا كان المسلمون هم الطالبين للعدو والمهاجمين له، فقد أذن الله ورسوله لمَن قعد عن مثل هذا الجهاد، ولم يضيِّق عليه، وإن حُرِم فضل المجاهدين ومثوبتهم، كما قال تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء:95[

 

أما هذا الجهاد فهو - كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - دفع عن الدين والحُرمة والأنفس، وهو قتال اضطرار، وذلك قتال اختيار، للزيادة في الدين وإعلائه، ولإرهاب العدو، كغزوة تبوك ونحوها [2[

ومن هنا قال الفقهاء في هذا النوع من الجهاد: إن المرأة تخرج فيه، ولو بغير إذن زوجها، والابن ولو بغير إذن أبيه وأمه.

وإنما قُدِّم الجهاد - إذا كان فرض عين - على طاعة الأبوين، وطاعة الزوج، مع أن هذه الطاعة وتلك فرض عين أيضا؛ لأن مصلحة الجهاد أعمُّ وأشمل، إذ هي لحفظ الدين والدفاع عن حُرُمات المسلمين، فمصلحته عامة، وهي مقدَّمة على غيرها من المصالح الخاصة.

وإذا تعارض حقَّان: أحدهما للجماعة المسلمة، والثاني لبعض أفرادها، فحقُّ الجماعة هو المقدَّم والأولى بالرعاية، لأن الفرد لا يستطيع أن يعيش ويحقِّق ذاته بغير الجماعة، فوجود الجماعة ضروري للفرد. فإذا بقيت الجماعة: بقي الفرد، وإذا ضاعت الجماعة: ضاع الفرد. ومن ثَمَّ يأثم الزوج إن منع زوجته، والأب إن منع ابنه البالغ، من جهاد فرض العين، الذي بإقامته يحافظ على وجود الجماعة.

قال السَّرْخَسي: (وكذلك الغلمان الذين لم يبلغوا إذا أطاقوا القتال، فلا بأس بأن يخرجوا ويقاتلوا في النفير العام، وإن كره ذلك الآباء والأمهات)[3[

وإذا كان العدوان الكافر أكبر من طاقة البلد المعتدَى عليه، ففرض على جيرانه الأَدنَين وأقرب البلاد إليهم أن يشاركوهم بكل ما يقدرون عليه، فقد تعيَّن الجهاد عليهم، ثم على سائر بلاد المسلمين أن يمدُّوهم بكل ما يحتاجون إليه من الرجال والسلاح والمال، حتى يقهروا العدو، ويطردوا الغزاة، ويُعلوا كلمة الإسلام. قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، وقال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71]، وقال: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال:72]، وقال: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2[

ولا ريب أن دفع العدوان عن المسلمين في مقدِّمة البر والتقوى. وقال صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضا"[4] ، "ترى المسلمين في توادِّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد"[5] ، "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسلِمه"[6] ، "انصر أخاك"[7] ، "المسلمون تتكافأ دماؤهم يسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على مَن سواهم"[8[ .

ومثل ذلك إذا جَبُن أهل البلد وتخاذلوا عن مقاومة عدو الله وعدوهم، ففرض على مَن وراءهم من المسلمين أن ينهضوا لصدِّ الغزو، ومقاومة العدو، لأن كل أرض إسلامية هي ملك المسلمين جميعا، لا ملك سكانها وحدهم، فإذا فرَّطوا هم في الدفاع عنها لم يسقط عمَّن وراءهم من المسلمين واجب الدفاع عن أرض الإسلام، ودار الإسلام.

ولعل من أدق العبارات وأوضحها في بيان كيفية افتراض الجهاد عينا: ما جاء في (الذخيرة) من كتب الفقه الحنفي، وتناقله المؤلفون من بعده، ونقله العلاَّمة ابن عابدين في حاشيته، قال: (إن الجهاد إذا جاء النفير إنما يصير فرض عين على مَن يقرُب من العدو، فأما مَن وراءهم ببُعد عن العدو، فهو فرض كفاية عليهم، حتى يسعهم تركه إذا لم يحتج إليهم، فإن احتيج إليهم بأن عجز مَن كان يقرب من العدو عن المقاومة مع العدو، أو لم يعجزوا عنها، ولكنهم تكاسلوا ولم يجاهدوا، فإنه يفترض على مَن يليهم فرض عين، كالصلاة والصوم، لا يسعهم تركه. ثم ... وثم ... (يعني الأقرب فالأقرب) إلى أن يفترض على جميع أهل الإسلام شرقا وغربا على هذا التدريج. ونظيره الصلاة على الميت؛ فإن مَن مات في ناحية من نواحي البلد، فعلى جيرانه وأهل مَحلَّته أن يقوموا بأسبابه، وليس على مَن كان يبعد من الميت أن يقوم بذلك. وإن كان الذي ببُعد من الميت يعلم أن أهل مَحلَّته يضيِّعون حقوقه، أو يعجزون عنه، كان عليه أن يقوم بحقوقه. كذا هنا) [9] اهـ.

وعلَّق محقِّق الحنفية الكمال بن الهُمَام (ت861هـ) على مسألة افتراض الجهاد عينا على المسلمين كافة بقوله: (وكأن معناه إذا دامت الحرب بقدر ما يصل الأبعدين ويبلغهم الخبر، وإلا فهو تكليف ما لا يطاق. بخلاف إنقاذ الأسير، وجوبه على الكل مُتَّجه، من أهل المشرق والمغرب ممَّن عَلِم)[10] اهـ.

ويلاحظ أن تعليقه هذا إنما هو في الهجوم السريع الذي لا يعقبه احتلال، أما إذا أعقبه احتلال، فالواجب مطاردته حتى تتحرَّر الأرض من رجسه. على أن سرعة العلم والإمداد في عصرنا أصبحت أمرا ميسَّرا، بواسطة أجهزة الإعلام ووسائل المواصلات الحديثة. حتى غدا العالم كله قرية واحدة، وخصوصا بعد ما سُمِّي (ثورة الاتصالات(

قال ابن تيمية: (فأما إذا أراد العدو الهجوم على المسلمين، فإنه يصير دفعه واجبا، على المقصودين كلهم، وعلى غير المقصودين لإعانتهم، كما قال الله تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [الأنفال:72]. وكما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بنصر المسلم. وسواء كان الرجل من المرتزقة بالقتال أو لم يكن. وهذا يجب بحسب الإمكان على كل أحد، بنفسه وماله، مع القِلَّة والكثرة، والمشي والركوب. كما كان المسلمون لمَّا قصدهم العدو عام الخندق، لم يأذن الله في تركه لأحد، كما أذن في ترك الجهاد ابتداء لطلب العدو، الذي قسمهم فيه إلى قاعد وخارج - يعني الذي قال الله في شأن القاعدين والمجاهدين فيه: {وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء:95] - بل ذمَّ الذين يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم: {يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً} [الأحزاب:13[

فهذا دفع عن الدين والحرمة والأنفس، وهو قتال اضطرار. وذاك قتال اختيار، للزيادة في الدين وإعلائه، ولإرهاب العدو، كغزاة تبوك ونحوها) [11] اهـ.

ونقل عنه في (الإنصاف): (لا يخلو: إما أن يكون قتال دفع أو طلب. فالأول (قتال الدفع): بأن يكون العدو كثيرا لا يطيقهم المسلمون، ويخافون أنهم إن انصرفوا عنهم، عطفوا على مَن تخلف من المسلمين، فهنا صرح الأصحاب بوجوب بذل مُهَجهم بالدفع حتى يَسْلَموا. ومثله: لو هجم عدوٌّ على بلاد المسلمين والمقاتلة أقل من النصف، لكن إن انصرفوا، استولوا على الحريم.

والثاني: (يعني قتال الطلب والهجوم): لا يخلو: إما أن يكون بعد المصافَّة أو قبلها. فقبلها يجوز، وبعدها - حين الشروع في القتال - لا يجوز تولية الأدبار مطلقا، إلا لتحرُّف أو تحيُّز)[12] اهـ.

قال في الإنصاف: (يعني ولو ظنوا التلف) [13] اهـ.

• هل استيلاء العدو على الجبال والصحاري كاستيلائه على البلاد العامرة؟

وهنا يأتي سؤال : هل يدخل في حكم فرض العين في القتال : ما إذا لم يدخل العدو المدن والقرى العامرة بالسكان ، ولكنه استولى على الجبال أو الصحاري أو أرض موات ، فهل يفرض الدفاع عنها فرض عين أو لا ؟

هنا نجد إمام الحرمين في (نهاية المطلب) قال : إن الكفار لو استولوا على مواتٍ أو جبل بعيد عن أوطان المسلمين وديارهم وقراهم، ولكنه يُعدّ من بلاد الإسلام، فالذي رأيته للأصحاب أنهم يُدفعون كما يُدفعون عن الأوطان، وفي هذا بعض النظر عندي؛ فإن الديار تشرف بسكون (سكنى) المسلمين، فإذا لم تكن مسكناً للمسلمين، فتكليف أهل الإسلام التهاوي على المتالف، والتسارع على الهلكة (أي للدفاع عن الأرض وحدها) فيه بعض البعد [14] انتهى.

وعلق محقق الكتاب الدكتور عبد العظيم الديب على ذلك فقال : هذا الوجه الذي اختاره الإمام رده النووي ، إذ قال في زوائده : ( قلت : هذا الذي اختاره الإمام ليس بشيء ، وكيف يجوز تمكين الكفار من الاستيلاء على دار الإسلام ، مع إمكان الدفع) [15[

وأصحاب الدراسات الاستراتيجية والعسكرية في عصرنا يعتبرون الجبال والصحاري والأرض الموات وما شابهها مناطق في غاية الأهمية لحماية البلاد من أطماع الغزاة والمغامرين من الملوك والأباطرة ، فيجب الاهتمام بها ، ولا يجوز إهمالها ، حتى يتسلل منها العدو وأهل البلاد غافلون . أما أن يحتلها الأعداء وتترك لهم ، لأنها غير مسكونة بالمسلمين ، كما خطر لإمام الحرمين رحمه الله ، فلا يُقرُّه عليه أحد .

• ( 2 ) استنفار الإمام لفرد أو طائفة معينة:

والموضع الثاني: الذي يصير الجهاد فيه فرض عين: أن يستنفر الإمام فردا أو فئة معينة، فيتعيَّن عليهم الجهاد، ولا يحلُّ لهم التخلُّف إلا بعذر، لأن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر، كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]، وهذا في كلِّ شأن يأمر به الإمام أو ولي الأمر، فكيف إذا كان ذلك في أمر يتعلَّق بوجود الأمة ومصيرها وسيادتها؟

وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم عندما عزم على لقاء الروم في غزوة تبوك، فأعلن عن مقصده صراحة لا تورية - كما كان يفعل في سائر الغزوات - لأنه سيواجه جيش أكبر قوة عسكرية في الأرض: جيش دولة الروم البيزنطية، ولا سيما بعد انتصارها على دولة الفرس. وقد استنفر الرسول الكريم المسلمين جميعا من أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب، فلم يعُد يحلُّ التخلُّف لأحد منهم كما قال تعالى : " مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ۚ " [التوبة : 120] إلا مَن عذره الله ورسوله، كالذين قال الله فيهم: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة:92،91[

أما الذين انتحلوا الأعذار الواهية، والتعلاَّت الكاذبة، من المنافقين وضعفاء الإيمان، فقد قبِل النبي صلى الله عليه وسلم ظاهرهم، ولكن القرآن نزل يفضح أمرهم، ويكشف سترهم، بقوارع الآيات، ويعاتب النبي صلى الله عليه وسلم على إذنه لهم. قال تعالى: {لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة:43،42[

وفي هذه الغزوة والاستنفار لها نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:38-40]، ثم قال: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة:41[

فدلَّت هذه الآيات على وجوب النفير على كل مَن استنفرهم الإمام أو نائبه، وأن مَن تخلَّف عن النفير هنا مهدَّد بالعذاب الأليم، واستبدال غيره به.

ومثل هذه الآيات ما جاء في الصحيحين من حديث ابن عباس، أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استُنفرتم فانفروا"[16] .

يقول محقق الحنفية الكمال بن الهُمَام: (يصير الجهاد من فروض الأعيان، سواء كان المستنفِر عدلا أو فاسقا، فيجب على جميع أهل تلك البلدة النَّفرة، وكذا مَن يقرب منهم إن لم يكن بأهلها كفاية، وكذا مَن يقرب فمَن يقرب، إن لم يكن بمَن يقرب كفاية، أو تكاسلوا، أو عَصَوْا، وهكذا إلى أن يجب على أهل الإسلام شرقا وغربا) [17] اهـ.

وإذا استنفر ولي الأمر فردا معيَّنا، ليقوم بمهمة عسكرية، وجبت طاعته، كما تجب على الجماعة، إذ العلة واحدة.

• ( 3 ) حاجة الجيش المسلم إلى خبرة شخص معين:

الموضع الثالث: أن يعلم المسلم حاجة جيش المسلمين إليه خاصة، وأنه لا يسدُّ غيره مسدَّه، كأن يكون ذا خبرة خاصة لا توجد لدى الجماعة المحاربة، في التدريب أو (التكتيك)، أو الأسلحة والذخيرة، أو مقاومة الدبابات، أو الطائرات، أو صناعة المتفجرات، أو بناء التحصينات، أو غير ذلك من الشؤون الحربية، ولا يوجد عدد كافٍ يغني عنه. وكذلك إذا كان يعرف مواقع العدو وعوراته، وجغرافية أرضه، ونحو ذلك ممَّا يلزم للجيش المسلم، فيجب عليه أن يقدِّم نفسه للاستفادة من جهده وخبرته[18] ، إلا إذا كان هناك مَن يقوم مقامه، ويكفي عنه. أو كانت هناك حوائل تحول دون قبوله.

وذلك: أنه مفروض عليه أن ينصر أخاه المسلم، ولا يُسلمه ولا يخذله، كما في الحديث الصحيح: "انصر أخاك"[19] ، والحديث الآخر: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه"[20] ، ومن رأى أخاه في حاجة إليه، وهو يقدر أن يسدَّ حاجته فلم يسدَّها، فقد أسلمه وخذله، ولم يقُم بحقه. قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2]، وقال صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضا" ، وقال: "المسلمون تتكافأ دماؤهم يسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على مَن سواهم" . [21[

• ( 4 ) عند حضور المعركة بالفعل:

الموضع الرابع: أن يحضر المعركة بالفعل، فلا يجوز له أن يرجع إذا التقى الجمعان، ولو كان الجهاد فرض كفاية في الأصل. فإن رجوعه حينئذ يفتُّ في عضد سائر الجيش، ويُدخل الوَهْن في صفوف المسلمين، ويجرِّئ عليهم عدوهم. وفي هذا يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال:16،15]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال:45[

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجتنبوا السبع الموبقات". قيل: وما هنَّ يا رسول الله؟ قال: "الشرك بالله تعالى، والسحر، وقتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحق، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولِّي يوم الزحف"[22] . ويوم الزحف، هو: يوم المواجهة الحربية مع الأعداء.

لهذا أجمع المسلمون على أن الفرار من الزحف من كبائر الذنوب[23[

 متى يشرع الفرار أو الانسحاب؟

وإذا كان الفرار عند المعركة من كبائر الإثم، فقد استثنى الشرع بعض صُور يجوز فيها الفرار من مواجهة العدو، ولو عند التقاء الصفين.

وشرط تحريم الفرار - عند جمهور الفقهاء - ألاَّ يكون عدد الكفار أكثر من مِثْلَي عدد المسلمين، فإن كانوا أكثر من مِثليهم كأن يكون المسلمون ألفا والأعداء أكثر من ألفين: جاز للمسلمين أن يفرُّوا بأنفسهم، إذا وجدوا في ذلك مصلحة لهم، وإنقاذا للمقاتلين المسلمين، أما إذا كان العدو مِثلَي المسلمين أو دون ذلك، فيجب الثبات ولو ظنَّ المسلمون أنهم يهلكون.

وقد استدلَّ الجمهور على ذلك بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ * الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:66،65[

روى البخاري وأبو داود وابن جرير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لمَّا نزلت: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال:65]، شقَّ ذلك على المسلمين، حين فُرض عليهم: ألا يفرَّ واحد من عشرة، فجاء التخفيف، فقال: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال:66]، قال: فلما خفَّف الله عنهم من (العدد) نقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم[24[

وهذا يدلُّ على أن المراد بالآية الأمر، وإن جاء في السياق بلفظ الخبر، وإنما قال ذلك العلماء لأمرين: ذكرهما الحافظ في الفتح: (أحدهما: أنه لو كان خيرا محضا، للزم وقوع خلاف المُخبَر به، وهو محال، فدلَّ على أنه أمر. والثاني: لقرينة التخفيف، فإنه لا يقع إلا بعد تكليف، والمراد بالتخفيف هنا: التكليف بالأخف، لا رفع الحكم أصلا)[25[

ومعنى كلام الحافظ هنا: أن التخفيف في حكم وجوب ثبات الواحد لعشرة ليس من باب النسخ، لأن الحكم لم يُرفع نهائيا، كما هو مقتضى النسخ، وقال القرطبي: (هو على هذا القول تخفيف لا نسخ، وهذا حسن)[26[

قال ابن رشد في بداية المجتهد: (وذهب ابن المَاجِشُون - ورواه عن مالك - أن الضعف إنما يُعتبر في القوة لا في العدد، وأنه يجوز أن يفرَّ الواحد عن واحد، إذا كان أعتق جوادا منه، وأجود سلاحا، وأشدَّ قوة)[27[

وذكر الإمام النووي في (المنهاج): أنه يحرم انصراف مائة بطل عن مائتين وواحد ضعفاء، في الأصحِّ. قال شارحه الدَّمِيري: لأنهم يقاومونهم لو ثبتوا، والانهزام ذلٌّ. وإنما يراعى العدد عند تقارب الأوصاف.

وهناك قول آخر: يجوز الانصراف؛ لأن اعتبار الأوصاف يعسر، فنيط الحكم بالعدد.

قال الدَّمِيري: ومأخذ الخلاف: النظر إلى مجرَّد العدد أو المعنى. ويعبَّر عنه بأنه: هل يجوزأن يستنبط من النصِّ معنًى يخصِّصه أو يقيِّده ؟[28] اهـ.

وهذا مُتَّجه مقبول في عصرنا، فإن الحرب اليوم ليست بالعدد، ولا تقوم على الكمِّ والكثرة من المقاتلين، إنما المدار على قوة الأسلحة، وخصوصا إذا كان العدو يملك أسلحة متطورة، مثل: الطائرات العملاقة (بي 52) والتنين السحري، والطائرات بغير طيار، والصواريخ الضخمة الموجَّهة بعيدة المدى، والقنابل الذكية، وغيرها، والمسلمون لا يملكونها. وكذلك إذا كان يملك ما يسمُّونه أسلحة الدمار الشامل، مثل: الأسلحة النووية والكيماوية والجرثومية وغيرها، ويهدِّد المسلمين باستخدامها. وعرَف المسلمون أنه لا يمنعهم مانع من ذلك.

وفرَّق شيخ الإسلام ابن تيمية بين قتال الدفاع وقتال الهجوم. فقال: (لا يخلو، إما أن يكون قتال دفع أو طلب.

فالأول: أن يكون العدو كثيرا لا يطيقهم المسلمون، ويخافون أنهم إن انصرفوا عنهم عطفوا على مَن تخلف من المسلمين. فهنا صرَّح الأصحاب بوجوب بذل مُهَجهم في الدفع حتى يسلَموا.

ومثله لو هجم عدو على بلاد المسلمين، والمقاتلة أقل من النصف، لكن إن انصرفوا استولَوا على الحريم.

والثاني: (يعني قتال الطلب والهجوم): لا يخلو: إما أن يكون بعد المصافَّة أو قبلها. فقبلها يجوز. وبعدها حين الشروع في القتال لا يجوز تولية الأدبار مطلقا إلا لتحرُّف أو تحيُّز) [29[

 شروط فرضية الجهاد (القتال(

وإنما يفترض الجهاد - بمعنى (القتال) - عينا أو كفاية بجملة شروط:

( 1 ) الاستطاعة البدنية: فالأعمى والأعرج والمريض من أصحاب العاهات الجسمية العائقة: لا يجب عليهم الخروج؛ لأنهم عاجزون معذورون، قال تعالى في سورة الفتح: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [آية:17]، فهذه الآية نزلت في أصحاب الأعذار، كما أن خروج هؤلاء لا يدفع عدوا، وإنما يكون عبئا على المدافعين. وقال بعض الفقهاء: أما مَن يقدر على الخروج دون الدفع، فينبغي أن يخرج لتكثير السواد إرهابا للعدو.

وأقول: إن الكثرة في عصرنا لم تعُد لها قيمة كبيرة، مع الأسلحة الحديثة الهائلة. والدول الحديثة في عصرنا تشترط لكلِّ مَن يجنَّد في جيشها حدًّا أدنى من السلامة البدنية، ومن سلامة الحواس، مثل السمع والبصر، حتى يستطيع أن يقوم بأعباء القتال وتوابعه.

غير أن بعض الذين لا يقدرون على القتال يستطيعون أن يقدموا خدمات نافعة للمقاتلين، كالإسعاف والتمريض والطبخ والتنظيف ونحوها. وهكذا كان يصنع النساء في غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم، ومثل ذلك مَن يُنتفع به في التحريض مثل: الخطباء والوعاظ، أو التدبير مثل: بعض المحاربين القدماء من الشيوخ المجرِّبين، وإن لم يقُم بالقتال.

ونودُّ أن ننبِّه هنا: أن كثيرا من الأسلحة الحديثة التي تدار إلكترونيا، قد لا تحتاج إلى لياقة بدنية كبيرة، بل تحتاج إلى قوة عقلية وعلمية، فقد ينفع هنا بعض المصابين بالعرج ونحوه وقد رأينا بعض المعُوقين يتفوَّقون في بعض الرياضات، بفضل التدريب والإرادة.

كما أن الذي يعجز عن الجهاد ببدنه، يلزمه أن يجاهد بماله إن كان ذا مال، كما في الحديث الصحيح: "مَن جهَّز غازيا في سبيل الله فقد غزا"[30] ، وأن يجاهد كذلك بخبرته العلمية والتكنولوجية والإلكترونية وغيرها، وربما أفادت هذه الجيش المسلم أكثر من القوة الجسمية.

( 2 ) القدرة على استعمال السلاح والقتال به فمَن لا يجد السلاح، أو وجده، ولكن لم يُدرَّب على استعماله: لا يفترض عليه الخروج، لأنه لا يدفع عن نفسه ولا عن غيره، وضرره أكثر من نفعه. ولهذا يجب أن تتاح له فترة كافية للتدريب الذي يصير في هذه الحالة فرض عين أيضا، ومثله توفير السلاح اللازم، فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

( 3 ) القدرة على الوصول إلى البلد المعتدَى عليه، بأن يملك رَكوبة توصِّله إلى البلد، أو ثمن التذكرة بالبر أو البحر أو الجو، أو وجد في المسلمين مَن يتكفَّل بإيصاله إلى ميدان القتال، وهو ما يجب على الأمة - بالتضامن - أن توفِّره لكل مقاتل.

وعلى كل حال مَن كان له عذر منعه من الجهاد بنفسه: عليه واجب نحو المجاهدين، وهو رعاية أُسَرهم وأهليهم، فهذا أيضا نوع من الجهاد، وفي الحديث: "مَن خَلَف غازيا في أهله بخير فقد غزا"[31[

( 4 ) ألا يوجد مانع معتبر يحول بينه وبين النهوض للدفاع. كأن يكون مسجونا، أو لا يستغني عنه المسلمون في محل إقامته، لمثل علاج مرضاهم، أو حفظ أمنهم الداخلي، أو إمامتهم في صلواتهم وتعليمهم دينهم، أو تسيير مطاحنهم ومخابزهم، وغير ذلك ممَّا يلزم للمحافظة على كِيان الأمة، ودوام إمداد المقاتلين بالغذاء والكساء والدواء والسلاح، ويؤمِّنهم على مَن وراءهم. ويعبِّر المعاصرون عن ذلك بتأمين الجبهة الداخلية وتقويتها.

ومن الموانع: قعود الناس عن القيام بواجب الدفاع، وكذلك قعود السلطات المسؤولة عنه أو منعها لمَن يقوم بذلك. فالفرد معذور عند ذلك؛ لأن الجهاد لا يقوم به إلا جماعة قادرة. واليد وحدها لا تصفق.

وممَّا يؤسف له أشد الأسف: أن كثيرا من أبناء المسلمين يتحرَّقون شوقا إلى الجهاد لتحرير المسجد الأقصى، ومساندة إخوانهم في أرض الإسراء والمعراج، ولكن (دول الطوق)، كما يسمُّونها، أو دول المواجهة (الأردن ولبنان وسورية ومصر)، كلها تمنع دخول أي مجاهد إلى أرض فلسطين، وقد تطلق قوَّاتها الرصاص إذا حاول التسلُّل للدخول، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

قال ابن الهُمَام في (الفتح): (يجب ألا يأثم مَن عزم على الخروج. وقعوده لعدم خروج الناس، وتكاسلهم، أو قعود السلطان أو منعه)[32] اهـ.

ولكن يجب تقييد رفع الإثم عمَّن افترض عليه القتال وقعد؛ لما ذكرنا هنا من الأعذار بأمرين:

الأول: أن يصطحب نية الجهاد، والعزم عليه متى تهيَّأت له الفرضة الملائمة. فقد قال صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"[33[

بل هو بنيته الصادقة يشارك المجاهدين في الأجر ومثوبة الجهاد.

روى البخاري عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزاة (هي غزوة تبوك) فقال: "إن أقواما بالمدينة خلفنا، ما سلكنا شعبا، ولا واديا، إلا هم معنا فيه: حبسهم العذر"[34[ .

وقد رواه مسلم من حديث جابر بلفظ: "حبسهم المرض"[35] ، قال الحافظ: (وكأنه محمول على الأغلب) [36[.

الثاني: ألا يرضى بالواقع، ويستسلم له، ويستيئس من المستقبل، بل يجب أن يتسلَّح بالأمل، والثقة بالله، ويحرِّض المسلمين على الجهاد، محاولا إزالة العقبات، وتغيير الأوضاع الفاسدة إلى أوضاع يرضي عنها الإسلام، متعاونا في ذلك هو ومَن يشبه حاله حاله من المسلمين. و"المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضا"[37] . وما يعجز عنه الفرد قد تقدر عليه الجماعة. و"يد الله مع الجماعة"[38[

وليس من الشروط أمن الطريق من القطَّاع واللصوص ونحوهم، بل يخرجون إلى النفير، ويقاتلون مَن يقف في طريقهم أيضا حيث أمكنهم ذلك، وإلا سقط الوجوب؛ لأن الطاعة بحسب الطاقة.


: الأوسمة



التالي
التنازلات 3
السابق
حقائق غائبة حول استشهاد الحسين وأحداث كربلاء (3)

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع